strong>نوال العليثمَّ صمتت خمسة عشر عاماً، وكانت تكتب فقط، وكانت تحلم بأن تكتب فقط، أو أن تكتب لتفهم ما يمكن فهمه من العالم. وبعد دفن والدتها، عادت علوية صبح إلى البيت، وكانت رائحة الماما لا تزال هناك. قالت علوية إنّها خافت من غيابها، وشعرت بأنّها تحتاج إلى مريم، وكان اسم والدتها مريم. وفي المطبخ أعدّت قهوة، فنجانين ربما، أو هكذا نظن، ونادت على نساء ونساء، وكلهنّ فيهنّ شيء من مريم، وهكذا بدأت علويّة تكتب عن مريم. تستعيدها من جديد، وتنفخ في روحها في «مريم الحكايا» (الآداب). ولم تدرِ صبح من أين جاء للهجة شخصياتها جنوبها، وكيف صارت ابنة بيروت المولودة هنا وتربَّت في الأشرفية ثم السبتيِّة، تحكي بلهجة ابنة الضيعة. الذاكرة لها لحم حيّ، والذاكرة هي لحم النص لدى صبح، وتقنيات الكتابة جاءَت من هذه الذاكرة، ومن خوفها من المحو.
كادت حرب الجبل أن تودي بحياتها. وفي الطريق إلى مقابلة علوية صبح في مقهى «ليناز» (الحمرا)، فكَّرتُ في أنَّها أسيرة حرب. عموماً، اللبنانيون كلُّهم أسرى تلك الحرب. وها هي مريم تحكي عن علوية وعن جيلها. كانت رواية «مريم الحكايا» كلّها أسئلة تتشكّك في كل شيء، حتى بنية الرواية نفسها. حكاية تخرج من قلب حكاية، كأن شهرزاد تستعيد لياليها. «أنا مشرقية الهوى، أنتمي لتراثي وثقافتي واستفدت من تقنيات مختلفة. ومن هواجسي في «مريم» و«دنيا»، شعرت أني مسكونة بذاكرة النساء وحكاياهن». هذه الحكاية الشرقية باللهجة الشعبية ترجمت إلى الفرنسية وصدرت بطبعة عن «دار غاليمار»، وطبعة ألمانية أخرى عن «دار سوركامب».
بدأت قصة صبح مع الكتابة والصحافة منذ بداية الثمانينيات، وهي مثل كثيرين رحلة بدأت من قصيدة. يا لحظّ الشعر، يبدأ معه كثيرون، ويتركونه خلفهم! أرسلت صبح قصيدة لصحيفة «النداء» في بداية الثمانينيات. قبل أيام التقت عباس بيضون، شاعرنا المعروف بنسياناته، ما زال يحفظ مقطعاً منها. كانت تلك القصيدة سبباً في عمل صبح في جريدة «النداء» إلى جانب عملها معلمة في مدرسة ثانويّة، وهي التي تخرّجت في الجامعة اللبنانية متخصصة في الأدب العربي والأدب الإنكليزي في آن. ومن «النداء» انتقلت إلى «النهار»، وصارت صاحبة مقالة أسبوعية، ثم عملت في تحرير القسم الثقافي في مجلة «الحسناء»، وأصبحت رئيسة تحريرها عام 1986. وفي أوائل التسعينيات، أسست مجلة «سنوب الحسناء» لترأس تحريرها إلى الآن.
في 1986، أصدرت علويّة نصوصاً قصصية بعنوان «نوم الأيام»، ووضعت فيها تجربة كتابة مفتوحة على النصوص والمسرح. لا يمكن قارئ تلك المجموعة أن يحدِّد إن كان البطل حيّاً أو ميتاً. هذه الحالة الالتباسية تشبه علويّة وتشبه الحرب والدمار الداخلي الذي تتركه وراءها.
ثمَّ صمتت خمسة عشر عاماً. ولجأت إلى النص بعد مرحلة كآبة طويلة. من نحن؟ لديها حشريَّة لمعرفة الذاكرة التي باتت هاجساً. وبدأت تكتب «مريم الحكايا». «المرأة تكتب لتفهم، الرجل يكتب لأنه يعرف». قد يكون ذلك هو الحال! اتجهت صبح إلى الذاكرة الجمعية، وأعطت لكلِّ شخصية امتيازاتها الجنسية والثقافية واللغوية.
وفي مقهى «ليناز»، كانت صبح جالسة تلفُّ على عنقها شالاً بنفسجياً. شعرها المشقّر ليس ناعماً ولا منعماً متروكاً بتجعيداته على وجه امرأة في منتصف العمر، ترى أنّ من حقّ المرأة أن تخفي عمرها، وهي محقة. فعمر المرأة أزمة وجود. لم تتزوج لأنها ترفض الموضوع من أساسه. تعيش وحدها في شبه عزلة، تتقمّص شخصياتها وتكتبها في شقة في راس بيروت.
بيروت هي مدينة صبح، حبيبتها، ومريمها أيضاً. «جسمي مثل بيروت وصحتي من صحتها»؛ تقول ذلك وتعنيه بالحرف. فهي كلَّما تفاقمت أحداث بيروت، أصابها ألم في معدتها وانتفاخ في بطنها وصداع ورجفة، وتظلُّ هكذا حتى تهدأ روح المدينة فتهدأ المتيّمة بها ـــــ هي التي لم تغادرها ولو في عزّ الحرب. لصيقة بأمكنتها هذه المرأة، لكنّها «قرفت من المناخ الطائفي». أليس الكل قرفان؟ «أغضب حين يتشوّه الوعي الشعبي. الإنسان البسيط جميل حتّى بانتمائه إلى لينه وهويته وكان في سماحة بين الناس... أمّا الطائفية، فصنعت كما تصنع الأحذية». يذكرنا هذا بعبارة من رواية «مريم الحكايا» تقول فيها «كان للدنيا أمٌّ واحدة، فلماذا كثرت الأمهات؟».
مساء اليوم توقّع صبح في مقهى «سيتي كافيه» في الحمرا (بيروت)، روايتها الثالثة عن امرأة في منتصف العمر أيضاً، مثل صاحبتها. هي رواية عن قصة حب عنوانها «اسمه الغرام» (الآداب)، وفيها ترى علويّة أن عملها الروائي يكاد أن يكون مكتملاً، وأنّها أفضل بكثير من روايتيها السابقتين «مريم الحكايا» و«دنيا».
عام 2006، أصدرت علويّة «دنيا» عن امرأة زوجها مشلول، فتصبح بدورها صاحبة حياة مشلولة. كم كانت رواية قاسية وساخرة في ذلك العمل، سخرية مرّة وضحك يقهر. علويّة صبح ساخرة بطبعها، ومنذ صغرها. كانت تنتظر خروج الضيوف والأقرباء لتبدأ في تقليدهم أمام والديها وإخوتها. وكانوا يلقبّونها «الصبي». هذه «الصبي» لا تنتظر خروج الضيوف الآن، إنها تجلبهم لتنكّل بهم.
هل نتوقع أن تكون «اسمه الغرام» أقلّ جرأة من العملين الآخرين لصبح؟ كان الجنس تفصيلاً ضرورياً دائماً يضيء على حياة الشخصيات. أنت لن تفهم حكايات الناس عند علوية من دون حياتهم الجنسيّة. هذه الشخصيات كانت تحتاج إلى الحديث عن أجسادها على لسان علويّة، لأنها جزء من الحياة. استعادة عوالم النساء المقصيّة والمنسيّة مشروع اتضح خطه في أدب علويّة.
تتحدث علويّة بوعي عن كتابتها، رغم أنّها ترى أنّ الكتابة هي «وعي ولا وعي، وأنا أكتب ما يشغلني، وهو القتل». هذه الكاتبة تلاحظ كتابتها بعد الانتهاء منها. تخرج وقد أنهكها العنف، الحرب، البشر بمصائرهم القاسية، هؤلاء هم الحكايا وليست علويّة إلا مريمها.

توقّع علوية صبح روايتها الجديدة «اسمه الغرام» (دار الآداب) بين السادسة والتاسعة من مساء اليوم في «سيتي كافيه» (الحمرا) ـــــ 01/802286


5 تواريخ

1976
وفاة والدها في ظروف قاسية وخاصة أثّرت كثيراً على الكاتبة

1986
صدرت لها مجموعة قصصية بعنوان «نوم الأيام»

2002
صدر لها عملها «مريم الحكايا» بعد صمت 15 عاماً

2006
حصلت روايتها «دنيا» على جائزة الرواية العربية

2009
صدور روايتها الثالثة «اسمه الغرام» (دار الآداب)