سعد الله مزرعاني *في خطابه أمام الكنيست قبل نحو ثلاثة أشهر، تنقّل رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ما بين السياسي والإيديولوجي على نحو يتعدّى المفردات إلى المضمون والأهداف. وفي جملة ما تناوله الخطاب، إعادة قراءة للأحداث والوقائع بطريقة لا تنطوي فقط على تزوير فاضح ومغرض ومجتزأ، بل هي تُطرح الآن تمهيداً لتوجّهات وسياسات هي تحديداً، سياسة التحالف اليميني ــــ العنصري ــــ الفاشي الحاكم حالياً في الدولة الصهيونية.
يروي نتنياهو، على سبيل المثال، أنّ أساس المشكلة هو في عدم اعتراف العرب بدولة إسرائيل لحظة إنشائها، ثم مثابرتهم على عدم إقامة علاقات معها كلياً، أو جزئياً، حتى يومنا هذا. يقفز الرجل دون احترام لعقول الناس (فضلاً عن المشاعر) من مشكلة الاغتصاب والتشريد بالقتل وبالمذابح وبالتواطؤ الإنكليزي خصوصاً، إلى «مسلمة» نشوء الدولة الجديدة و«واجب العرب» في الاعتراف بها وإقامة علاقات طبيعية معها.
هذا «المنطق» في محاكمة الأمور يتواصل اليوم في موضوع المستوطنات والمضي في بنائها في كل مكان دون تحديد. وإزاء بعض الاعتراضات الأميركية الخجولة على بناء وحدات سكنية جديدة في أحياء عربية في مدينة القدس الشرقية، يتساءل رئيس الوزراء الصهيوني ما إذا كان مثل هذا الاعتراض يُثار إذا أقدم يهود في بعض الدول الأميركية والأوروبية على إقامة مساكن أو شراء عقارات أو ما شابه! المقارنة غريبة ولا يزول العجب حتى يعرف السبب: إدراك نتنياهو أنّ الخلاف على موضوع المستوطنات إنما هو مجرّد تباين بين «أهل البيت الواحد» كما وصف الأمر الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي، بدل أن يكحّلها ــــ كما يقول المثل ــــ أعماها!

تتصاعد الخيبات من أوباما، وخصوصاً بعد تبنّيه ربط وقف الاستيطان بتوسيع التطبيع الإسرائيلي مع العرب
وفي خلال ذلك، لم يجد نتنياهو غضاضة في اللجوء إلى الكذب الصريح والصافي: «العرب اشتروا، أخيراً، آلاف الشقق في مدينة القدس الغربية»! سرعان ما كذّبت وسائل الإعلام الإسرائيلية هذا الادّعاء، وخصوصاً أنّ التمييز المعروف ضد العرب يمنعهم قطعياً من ذلك، ولكن لا بأس، فالكذب كان دائماً الملح المفضّل لدى نتنياهو السياسي وزعيم أحد أكبر الكتل والأحزاب السياسية والنيابية في الكيان الصهيوني.
الخطير في الأمر، أي في الادّعاءات والمقاربات الإيديولوجية والسياسية المتطرّفة، ليس فقط تعزيز مواقع الائتلاف المتطرّف وبقاءه في سدّة القيادة في إسرائيل، بل في أنّ الفريق الحاكم حالياً، يواصل، بل يدفع ويطوّر سياسات كانت قد بدأت غداة خيبة حرب تموز الكبرى عام 2006. بعد تلك الحرب تألّفت، كما هو معروف، «لجنة فينوغراد» للبحث في «إخفاقات الحرب». ومنذ ذلك التاريخ مروراً بالمناورات الكبيرة والشاملة التي أُجريت عشية الانتخابات النيابية في لبنان، وصولاً إلى تحذير رئيس الوزراء الإسرائيلي للبنانيين من مشاركة حزب الله في الحكومة اللبنانية العتيدة، تتواصل الاستعدادات العدوانية الإسرائيلية دون انقطاع. وفي مجرى الاستعدادات تبرز إلى الخطوات اللوجستية، ما يدخل أيضاً في نطاق رفع المعنويات. ومن ذلك على الحدود اللبنانية مثلاً، عودة الدوريات الإسرائيلية إلى الحركة النهارية المتكرّرة، استفزاز المواطنين الذين يعملون في حقولهم المجاورة للخط الأزرق، التقدّم إلى نقاط حدودية في الطرف اللبناني... هذا فضلاً عن إطلاق التهديدات الحربية والتوعّد بالويل والثبور... للبنانيين شعباً ومؤسسات وحكومة.
ويعمل قادة العدو السياسيون والأمنيون على تكريس هذا الواقع العدواني. ويقف وراء ذلك، بين أمور أخرى، دافع ثأري متصاعد وحاقد. فإسرائيل واجهت دائماً الهزائم في لبنان. وهي دفعت أثماناً باهظة سياسية وعسكرية، في كلّ مرة باشرت عدواناً ضد لبنان وشعبه (وحتى ضيوفه الفلسطينيين!).
إنّ الصيحات العدوانية التي يتردّد صداها اليوم، وكانت قد أُطلقت بعد فشل حرب تموز الإسرائيلية ــــ الأميركية، إنما هي محاولة لإعادة الاعتبار إلى موقع القوة العسكرية الإسرائيلية في الصراع الإقليمي، بعدما عجزت هذه القوة مراراً عن النجاح في لبنان، وتكبّدت، دائماً، أفدح الخسائر المادية والمعنوية.
وتقترن هذه النزعة الثأرية بتطرّف سياسي، تغري به دائماً المساعدة السخية التي تقدّمها الولايات المتحدة لإسرائيل. ثمة من يقول اليوم إنّ أوباما سيفرض على إسرائيل ما لم تعهده (وما لا تستطيع رفضه) من التوجهات والسياسات. يجب عدم المبالغة بقدرات ولا حتى برغبات أوباما! صحيح أنّ أوباما يحاول جديداً في السياسة الخارجية الأميركية، لكن الصحيح أكثر أنّ التأثير الصهيوني (وحتى الليكودي) في إدارته وفي مؤسسات القرار الأميركي السياسية والعسكرية ليس بسيطاً.
لا شيء يمنع أيضاً (وإذاً) من أن تتواصل الأخطاء الأميركية نفسها في المنطقة، وخصوصاً أنّ بعض هذه الأخطاء إنما هو في الحقيقة، توجهات أصلية قائمة في صلب النظام الرأسمالي والمعولم والمعسكر... الذي يتجاذبه دائماً عاملا تعظيم الربح من جهة وفرض الهيمنة والسيطرة والاستتباع من جهة ثانية.
ولا يسع أيّ مراقب محايد، إلا أن يلاحظ اليوم تصاعد موجات الخيبات من أوباما ومن وعوده وقدرته على التغيير. دوران المبعوث الرئاسي الأميركي منذ نصف سنة إلى الآن، في حلقة مفرغة ليس بلا معنى. ومن الناحية الثانية، فقد سُجّلت لنتنياهو نجاحات سريعة في حقلين بارزين: الأوّل تلميع سريع لصورة حكومته حتى أصبحت مقابل بضع كلمات مشروطة وملغومة، مقبولة من الغرب الأميركي والأوروبي. والثاني تبنٍّ فوري من الإدارة الأميركية لربط وقف الاستيطان ونشر الوحدات السكنية «العشوائية» والمخطّط لها، بثمن توسيع التطبيع الإسرائيلي مع الدول العربية! سيغري ذلك، حتماً، متطرّفي التحالف الحاكم في إسرائيل، بمزيد من مواصلة التصعيد السياسي والأمني والاستيطاني، وسيغريهم، وهذا هو الأخطر، بتصعيد الاستعدادات العدوانية على امتداد المنطقة: من إيران إلى جنوب لبنان!
لن يفوتنا هنا أن نشير إلى مسألة أساسية أيضاً. وهي أنّ العدوانية الإسرائيلية، إنما تقع في صلب التوجهات الأميركية البديلة لما بعد «إخفاقات السياسة الأميركية في العراق» (وفي أفغانستان). وتقوم هذه السياسة الأميركية البديلة على دفع الحلفاء (من إسرائيل إلى محور «الاعتدال» العربي، إلى بعض الحلفاء في لبنان) إلى دور مباشر في محاولة معالجة الصعوبات، وفي استعادة زمام المبادرة، وفي محاصرة الخصوم من كلّ نوع: من تنظيم «القاعدة»، إلى قوى «الإرهاب» المقاومة، إلى التعامل مع دول «محور الشر» السابقة.
لا يعني هذا الكلام أن المصالح الأميركية وبعض مصالح القوى والأنظمة الحليفة لواشنطن، لا تتطلب تغييراً ولو جزئياً في السياسات الأميركية والإسرائيلية. في نطاق هذا التغيير المحدود يستطيع أوباما أن يتحرّك ويبرّر بعض ما أغدقه من وعود. الكلام يدور على القدرة لا على مجرّد الرغبة. أما المصالح، ورغم ثباتها الأكيد، فتبقى محكومة، كما دلّت تجربة الأزمة المالية العظمى التي ضربت المنظومة المالية الاقتصادية والدولية، معرّضة للكثير من «المفاجآت» التي تولّدها قوى طموحة تمكّنت، في مرحلة من المراحل، من أن تمسك بمفاتيح حسّاسة في المنظومة المالية العالمية، وتستخدمها على نحو وحشي في خدمة مصالحها وأنانياتها حتى لو أدّى الأمر إلى خراب مئات آلاف المؤسسات وتضرّر مئات ملايين البشر على امتداد الكون: إنه الجشع الرأسمالي.
الخلاصة، أنّ ثمة في إسرائيل اليوم، من يحاول إعادة تأسيسها على مزيد من العدوان والعنصرية والإرهاب: هذا هو أحد أخطر التحديات لبنانياً وعربياً.
* كاتب وسياسي لبناني