ثلاث سنوات مرت على انتهاء حرب تموز التي أدّت إلى تدمير وسط بنت جبيل التاريخي تدميراً شبه كامل. في حينها تدخلت فرق من المهندسين وطلاب من الجامعة الأميركية «لإنقاذ» البيوت التراثية من براثن إعادة الإعمار السريع والمحافظة على المدينة. لكن يبدو أن ذلك «الحلم» بدأ يتلاشى
بنت جبيل ــ كامل جابر
بعد ثلاث سنوات من تدمير وسط بنت جبيل، بدأ المظهر المعماري الجديد للمدينة يتبدّى عمودياً، وخاصةً مع تأخير ترميم مئة وبيتين المصنفة ذات واجهة تراثية حتى اليوم. ويشرح نصر شرف الدين رئيس المكتب الفني لإعادة إعمار بنت جبيل أن مرد ذلك إلى «أننا بعدما دخلنا إلى المدينة، في أعقاب العدوان، وجدناها تتألف من عقار واحد، في ظل عدم وجود أي وثيقة تدل على ملكية لواحد من أبناء المدينة. وبقينا 4 أشهر، فقط لنتثبّت من الملكيات وحل المشاكل المتعلقة بذلك ومشاكل الورثة. وفرضنا بعد التصريح من البلدية، الحصول على علم وخبر يحمل توقيع المختار والجيران المحيطين، وتصديقه من القائمقامية. وبسبب المساحات الضيقة والصغيرة وتفادياً لأي مشاكل في أبنية يملكها أكثر من وريث، جرى البناء عمودياً حتى يستطيع كل واحد من أصحاب الحقوق الحصول على بيت مستقل». ويشير شرف الدين إلى أن عملية تأخير ترميم البيوت التراثية وتأهيلها في بنت جبيل «لم يكن مبتغانا، إذ كنا قد طلبنا من الجهة القطرية الممولة إعطاء هذه البيوت الأولوية في عملية البناء وإعادة التأهيل لكي نشجع على حفظ هذا النسيج التراثي، لكن التأجيل جاء من الجهة الداعمة. وهذا لم يكن لمصلحتنا بسبب تدخل عامل الجو في إحداث ضرر إضافي على الضرر الذي تسبّب به القصف والتدمير، وهذا الأمر استمر ثلاث سنوات حتى بدأت الدفعات تصل أخيراً». ويلفت المهندس هيثم بزي إلى أن المكتب الفني في خطوة تهدف إلى تشجيع أصحاب العقارات ذات الوجهة التراثية للمحافظة على بيوتهم، تمكن بالتنسيق مع الجهة القطرية الممولة من جعل مبالغ التعويض المتعلقة بترميم البيوت التراثية والقديمة تساوي الأبنية الحديثة. «صنّفنا 154 بيتاً تراثياً، لم يستجب بعض أصحابها وهدموها خلسة، وخلال بعض الفوضى، فاستقرت على 130 بيتاً». ويتناول شرف الدين مسببات أخرى تتمحور حول انقسام الأهالي إلى مجموعات في فهمهم لكل ما كان يجري على هذا المستوى، ورغم ورش الحوار والنقاشات: «كان هناك مجموعة تنادي بالتراث، وكانت تريد بناء البيوت كما هي، فيما آخرون رأوا أن بيوتهم لم تعد تلبي احتياجاتهم واتساع عائلاتهم فأرادوا استبدالها ببيوت جديدة. أما البعض الآخر، فرأوا أن إعادة الوجهة التراثية تعني العودة إلى «المصطبة» وتربية البقرة وغيرها، فسارعوا إلى هدم بيوتهم كلياً لإزالة احتمالات الترميم أو العودة إلى التراث».
يرجح شرف الدين مسببات بعض الفوضى في بنت جبيل إلى أن «البعض ذهب بالفهم التراثي للمدينة بعيداً جداً، الفهم الذي كان عن الوسط كأنه مدينة تراثية بالكامل؛ وهذا لم يكن موجوداً. في سنوات الاحتلال دخل الكثير من الفوضى إلى بيوت المدينة، ولم يجرِ المحافظة بالكامل على السياق التراثي. ثم ما جرى بعد التحرير عام 2000 من سماح بالبناء بتراخيص محلية، وقد جاءت هذه العملية خارجة عن السياق العام للبناء».
من يدخل وسط المدينة يرَ الانقسام الواضح في أشكال البناء وتلاوينها. فعند الزاوية الجنوبية الغربية قامت مجموعة من البيوت الكبيرة والمرتفعة، وجرى طليها بألوان معممة مختلفة تتداخل فيها الأشكال الهندسية التي أساءت إلى جمالية اللون والمشهد. ويأسف شرف الدين للوضع، مؤكداً «أننا طلبنا إلى من لا إمكان لديه لبناء الحجر، أن يجعل من بيته مساحات لونية، ويخفّف من الأشكال، لكن البعض لم يستجب. كما أن المكتب الهندسي صمم نحو 150 بيتاً بمساحات صغيرة مجاناً ولكن لم يجرِ العمل بها». ويؤكد أن المكتب الهندسي «تمكن بالتنسيق مع البلدية من تأمين عقارات صغيرة واشتراها، وقد حوّلناها ساحات وحدائق بعدما كانت خراباً قبل التدمير ولا يمكن البناء فيها لكثرة الورثة». ويلفت حسام بزي إلى أن «كميات كبيرة من حجارة بنت جبيل نُهبت وبيعت لخارج المدينة بعدما كان ثمة أكثر من 60 ألف حجر صخري «قديم» جرى تجميعها من ردم البيوت التراثية المدمرة بالكامل قبل ثلاث سنوات، ولكن الحجارة كانت تسرق من ذلك «المكب» وتباع في القرى المجاورة. فهناك قصر في الشهابية بني من حجارة بنت جبيل، وكذلك منازل أخرى في المنطقة».
أما بالنسبة إلى السوق التجارية التي تنامت خلال فترة الاحتلال الإسرائيلي، فقد وحّد المكتب الهندسي شكل الدكاكين الخارجي بطريقة تتماشى مع استعمالها من جهة، وتحول المنطقة إلى سوق جوّالة نهار الخميس من جهة ثانية. فقد أصبحت واجهة المحالّ قناطر على شكل حدوة حصان (فارسية معدلة، طلبها القطريون) تحتضن أرصفة داخلية هي ممرات للمشاة لا يمكن عرض البضائع أمامها. هذه القناطر كوّنت نوعاً من الشرفات التي تقي من الشمس والمطر والهواء، ومثّلت مظلة للناس. في ظل كل هذا التغير في الشكل، يطل مقام «شهداء بنت جبيل» عند التخوم الشرقية للوسط التجاري مبنىً «تراثياً» جديداً في المدينة المهدمة. فحجارته من البيوت المهدمة في بنت جبيل، وهو محاط بحديقة وقناطر تذكّر بتلك التي كانت تزين البيوت قبل أن يدمرها القصف من جهة، وبطء إعادة الإعمار وجهل الأهالي من جهة ثانية.