ياسين تملالي *على صعيد آخر، لم يؤدِّ انتهاء الحرب الباردة إلى تغيير ملموس على مستوى الهيئات الأممية. أعضاء مجلس الأمن الدائمون هم أنفسهم أعضاؤه في أوج الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، كما أن دعوات الدول النامية إلى «عالم أكثر عدلاً» لم تلقَ صدى كبيراً. فالدول الصناعية واصلت إطباق قبضتها عليها من خلال صندوق النقد العالمي وغيره من هيئاتها المالية، موجهة اقتصادياتها وجهة تقضي على شعوبها بالفقر والحروب. لا أدل على أن دعوة حركة عدم الانحياز في الجزائر سنة 1974 إلى «نظام اقتصادي دولي جديد» كانت صرخة في قعر واد، من أنها كررتها في 2009، في شرم الشيخ، وبالعبارات نفسها تقريباً، في ما يشبه روتيناً عمره اليوم خمسة وثلاثون عاماً.
باختصار شديد، لم يعن انهيار جدار برلين أن العالم لم يعد مرشحاً لأن تولد فيه أقطاب جيوسياسية جديدة، أهمها الصين وروسيا (مخلصة من إرث الاتحاد السوفياتي ومستعيدة توسعية القياصرة)، ولا أن تسيير الاقتصاد الدولي لم يعد حكراً على «السبعة الكبار» ولا أن دور البلدان النامية فيه (من خلال المجموعة المسماة الـ «77») أصبح أكثر أهمية من ذي قبل. السؤال الذي يطرح نفسه ليس إذاً عن ضرورة استمرار حركة عدم الانحياز التي تضم ثلثي أعضاء الأمم المتحدة و55 في المئة من سكان الكرة الأرضية. السؤال هو: هل أعضاؤها مقتنعون بما يصوتون عليه بالإجماع في مختلف قممها؟ هل يسعون حقاً إلى «عالم بديل»؟
في 1979 عندما ترأّست كوبا الحركة، أطلقت بعض صحف المعسكر الغربي العنان لسخريتها، مذكرة إياها بأنها جزء من حلف وارسو بحكم أن الخبراء السوفيات، من شواطئها، يرقبون عن كثب ولاية فلوريدا الأميركية. الأمر اليوم أكثر خطورة مما كان عليه لثلاثين سنة خلت. لننظر في «لا انحياز» بعض «دول عدم الانحياز». مصر، أحد البلدان التي أسست الحركة، تتلقى من أميركا معونة مالية سنوية يخصص جزء منها لموازنتها العسكرية. المغرب والجزائر وموريتانيا دخلت مفاوضات شراكة مع «الناتو». أفغانستان شبه محمية أميركية منذ 2001، ما يمكّن الولايات المتحدة من محاصرة بعض أعدائها في المنطقة، وخصوصاً روسيا وإيران. المملكة السعودية والإمارات العربية وقطر والكويت والبحرين والعراق تعج بقواعد دول «الناتو»، بل إن الإمارات ـــــ ربما بدافع «عدم الانحياز» إلى هذه القوة العظمى أو تلك ـــــ أطلقت عملية «تنويع» للحضور الأجنبي المسلح على أراضيها بافتتاح قاعدة فرنسية في أبو ظبي في أيار / مايو 2009.
في 1974، لم يكن مطلب «نظام اقتصادي دولي جديد» مطلباً ثورياً، فهو كان أساساً مطلب اندماج في السوق العالمية مشروطاً بالقضاء على التبادل غير المتكافئ بين الشمال والجنوب وضبط جناح الشركات المتعددة الجنسيات وتقوية نفوذ الدول النامية في المؤسسات الدولية. لم يكن مطلباً ثورياً لكنه اليوم، وهو يُطرح من على منصة قمة شرم الشيخ، يبدو أصلاً عديم الجدية. فالغالبية الساحقة من دول عدم الانحياز أعضاء في منظمة التجارة العالمية (التي أقل ما يُقال عنها إنها عصب الدول الصناعية التجاري) والباقي (باستثناء كوريا الشمالية وإريتريا وتركمانستان) تستجدي الالتحاق بها وتنتظره على أحر من الجمر.
كما في ستينيات القرن الماضي وسبعينياته، ليست لدول الحركة مصلحة في التذيّل لأميركا أو أوروبا أو روسيا أو الصين. ليس مفهوم عدم الانحياز إذاً هو الذي انتفى. ما انتفى هو «دول عدم الانحياز». فما أعظم الفرق بين مناصبة «الناتو» العداء (إلى حد التقرب أحياناً من حلف وارسو) والاحتماء بظله، وبين التنديد بمؤسسات الرأسمالية الدولية والتمسح بها رغبة في مرضاتها. ما أعظم الفرق بين مصر قمة 1964 ومصر قمة 2009، بين القاهرة، «عاصمة حركات التحرر»، وشرم الشيخ «عاصمة المال والأعمال» التي احتضنت في 2008 أحد منتديات «مؤسسة دافوس»، وهي الأخرى «هيئة محايدة» بالرغم من أن الشركات المتعددة الجنسيات هي من تموّلها وترعاها.
* صحافي جزائري