أنسي الحاج بين الشدياق وعفلق
لا شبه يُذكَر بين ظروف اعتناق فارس الشدياق الإسلام وما قيل عن اعتناق ميشال عفلق له. الأول معروفة الظروف الشخصية لنقمته على الإكليروس بعد ما حصل لشقيقه أسعد على يد البطريرك حبيش، والآخر أسلم ـــــ إذا ثبت أنه أسلم ـــــ إيماناً منه، على الأرجح، بأن البرهان الأكبر على الاتحاد بالعروبة هو الخلاص ممّا قد يرمي الريبة لدى الأكثرية في صاحب «البعث». وهل من ريبة أوضح من تلك التي عبّر عنها زعيم الجماهيرية الليبية يوم نُسِب إليه القول: أميشال وقائد مسيرة البعث العربي؟
خارج دوائر الحسابات السياسيّة، وما قيل أيضاً (دون إثبات) عن الصلة بين بادرة عفلق والنظام العراقي آنذاك، يُحرّك إسلام عفلق الافتراضي مشكلة وجدانيّة في نفس المسيحي العربي حين يضعه في مواجهة سؤال: هل تكون مجاراة الأكثريّة المسلمة في إسلامها هي الصورة الفضلى لممارسة المسيحيّة اليوم في العالم العربي؟ وإذا كانت هذه «التضحية» هي حقّاً واجب المسيحي العربي على أساس إمكان اعتبارها تجسيداً لدعوة المسيح إلى الانفتاح والمحبّة، فأين يصبح حقّ الإنسان بالمحافظة على تميّزه، أي حريّته، وماذا يكون من أمر الأقليّات؟ بل أيُّ فضلٍ أخلاقيّ يعود للأكثريّات عندما تنتهي بابتلاع الأقليّات عَبْر عزلها أو إشعارها بالعزلة ولو من غير قهر بل بمجرد «النظرة الثانية»؟
لا شكّ في تسامح المسلمين. ولا شكّ في حَرَج الأقليّات. ولا شكّ في أن التسامح غير كافٍ وفي أن الحَرَج تربة خصبة للمتاعب.
لم يتوقّف أحد الوقت الكافي عند مسألة عفلق. إنها قضيّة تستحقّ برمزيّتها أن تشغل كلّ عربي، فما فيها من معاناة يختصر عصوراً، وبلاغة الصمت الذي أحاطها برهان آخر على خطورتها.

السابق واللاحق
الدين اللاحق تنتابه حيال الدين السابق شهوة إلغائه، خصوصاً إذا كان متفرّعاً منه، ولو تظاهر بوفاءٍ له. الدين السابق يشعر، حيال الأديان اللاحقة المتفرعة منه قليلاً أو كثيراً، بأنه الأصيل المسروق. وعندما تكون الأديان اللاحقة أكثريّة عدديّة والدين السابق أقليّة، وأقليّة متعصّبة وعنصريّة، ينتابها حيال أديان الأكثريّة وأكثريّات تلك الأديان شعور الاستعلاء، تغذّيه ذكريات الاضطهاد.
فلنتخيّل تسلسل التاريخ بين اليهوديّة والمسيحيّة والإسلام.

تمييز
أُعطي إله التوحيد، بالإضافة إلى خصائصه المفردة، جميع الصفات الحسنة التي كانت لآلهة الوثنيّة بما فيها بعض صفات الآلهات، كالجمال. لذلك كان من واجب الإنسان أن يبتكر له اسماً يَجْمع بين الذَّكَر والأنثى، بدل أن يرسّخ بتذكيره الله ـــــ كما حصل في كلّ اللغات ـــــ التمييز ضد المرأة. فهذا التمييز ليس محض دينيّ ولا محض لغويّ، بل نراه منعكساً على دور المرأة في كل جوانب الحياة والحضارة، إذ اعتُبرت تابعة أو هامشيّة، وأقلّ شأناً في نظر الرجل من السود في نظر البيض. فما ميّز الأبيض من الأسود هو اللون، في حين أن ما ميّز الرجل من المرأة هو الجنس. والمساواة في اللون حصلت ولكن لم تحصل مساواة الجنس لأن ما يباعد هنا (وهو نفسه ما يُقرّب) ينتمي إلى طبيعة أقوى من السياسة والاجتماع والنظريّات.
يبقى الخلاف على الخَلْق: لماذا يعتقد الرجل أنَّ فعل الخَلْق بكل معاني الكلمة امتياز ذَكَريّ؟ ولو صحّ اعتقاده انطلاقاً من مبدأ الخصب، فهل خَصْبه يَخْلق النسل دون الحاجة إلى التلاقي بتربة المرأة؟ وهل من المستحيل توقّع وقت تستغني فيه المرأة عن «تلقيح» الرجل لا بفضل بنوك الاستيداع فحسب بل ربما ـــــ مَن يدري؟ ـــــ بعد اكتشاف إمكان إخصاب المرأة نفسها بنفسها؟

الله في الغياب
قيل إن الله لا يمكن أن يكون حاضراً في الخليقة إلاّ في شكل الغياب (سيمون فايل 1947). الغياب لا ذَكَر ولا أُنثى، إنما يتلوّن حَسَب ظروفه وحسب اللغة التي تقوله.
أغلب الظنّ أن الله كائن قبل الأجناس، فوق الأجناس، ما ـــــ بين ـــــ الأجناس، وما وراء الأجناس. ليس محازباً لجنس ضد جنس ولا يحقّ لجنس أن يدّعيه ويحتكر أبوّته أو بنوّته. وتشنيعة بودلير أنه لم يَفهم كيف يُسمح للنساء بالدخول إلى الكنائس، إذ أيّة محادثة يمكنهن إقامتها مع الله؟ هذه التشنيعة تقع في سياق آخر، خارج هذا الموضوع. وهو أساساً يعتبر المرأة نوعاً من آلهة، ولكنّه هو مؤمن ـــــ مشكّك ـــــ كافر غيور على غرار إله التوراة لا يريد شريكاً له في مخاطبة الله كما أن الله لا يريد شريكاً له في الانعباد. ومهما يكن رأي شعراء وفلاسفة سلبيّاً في عقل المرأة وقدراتها الميتافيزيكيّة، فهذا يعزّز رأينا: التمييز ضد المرأة وقمعها واضطهادها عبر القرون ـــــ هذه المسيرة التي تتوّجت بخلع جميع عروش الآلهات بعد التوحيد ـــــ هو الذي أسهم في تكبيل قدرات المرأة، ممّا أتاح للأدباء والمفكّرين السخرية منها وتصنيفها آلة للإنجاب أو خادمة أو شيئاً للزينة أو بنتَ هوى. السبب هو الذي خَلَقَ النتيجة وليس العكس.
... ثم، مَن يعرف إلى أيّ مناجاة يرتاح الله: مناجاة المرأة أم الرجل أم الولد؟ مناجاة الفهيم أم الجاهل؟ مناجاة العظيم أم الوضيع؟ وهل ينظر الله إلى التمييز الجنسي وعلى أساسه يُرتّب اهتماماته؟ يبدو هذا من إرث التوراة، بل من قبل، منذ صادر الرجل العالم ووجّهه ورتبه على قياسه. وعلى قياسه رتّب إلهاً وسماءً وأرضاً.

نيتشه أيضاً
استطاع نيتشه أن يكتب في أواخر القرن التاسع عشر: «أعظم إنجاز ندين به للبشريّة التي سَبَقتْنا هو أننا لم نعد مكرهين على العيش في خوف مقيم من الوحوش الضارية، والبرابرة، والأشباح، ومن أحلامنا نفسها». مَن ذا يستطيع الزعم اليوم أنّه يعيش، على أيّ صعيد كان، في منجاة من واحد أو أكثر من هذه الأشباح؟
تفاؤل المفكّر والرائي يشبه علاقة الطفل بدميته، يرى ما يُسْكِر ويَسْكَرُ بما يرى. وقد يُسْكِر.
ما عليه. ولكن أين نحن اليوم، وعلى مدى الحِقَب التي تتالت منذ أواخر التاسع عشر من هذا اليقين المظفّر؟ كيف استطاع نيتشه أن يطمئن إلى اندحار تلك الظلمات وانعتاق الإنسان من أَسْرها، أو فلنقلْ، على الأقلّ، من مطاردتها إيّاه؟ ألعلّ عدم الشعور بها كافٍ للخلاص منها؟ ولكن نيتشه ذاته لم يلفحه نسيم هذه اللامبالاة. فكيف؟ أبقياس التطورات السياسيّة والاجتماعيّة من ثورات ومؤلفات ومنجزات علميّة؟ إنّ في ما حصل من مجازر وحروب في العقود الماضية وإلى اليوم دليلاً على نقيض ما رآه نيتشه في تلك النبوءة. والوحوش والبرابرة والآلهة والأحلام الضارية لا تزال تتعاقب علينا وتعمل نهشاً. ولم يتغلّب عليها إلاّ مَن خُلِقَ وفيه غريزة اللامبالاة بها، ناهيك بنخبة اهتدت إلى هذه الدرع المضادة للشعور بعد مسيرة في مآسي الشعور، وعقب صدمة أو رؤيا، فتغيّرت حياتها لأنها أصبحت تستطيع التمييز بين قَدَرين.
أين في هذا كلّه أفضال البشريّات؟ وأين الفرق الجوهري بين سابق ولاحق؟
إذا أنا قتلتُ مسيحيَ، فهل قتلتُ ضميري؟ وإذا لم أقتل ضميري ـــــ أو «ضميرهم» مزروعاً فيّ ـــــ فممَّ أتحرّر؟
وإذا قتلتُ ضميري فأين أَمثالي؟
ما أيسر العثور بضحايا ولكنَّ اكتشاف الشركاء في الحريّة أو التحرّر هو أشبه بالسراب.
وأنّى لي الاستغناء فلا يكون فوقيَ آلهة؟
والآلة محلّ الدماغ فلا يكون لي أحلام؟
وكيف لا أخاف ـــــ وحشاً أو فراشة ـــــ وليس هنالك ما لا يُخيفني غيرُ فكرةِ ما قبل ولادتي؟
لو وَضَع نيتشه خاطرته على صيغةِ أُمنية لحال دون هذا التشاؤم القاهر، بذلك التفاؤل البريء.


لعلّ نيتشه قَصَد نفسه. صحيح أنّه لم يحظَ بسعادة اللامبالاة ولكنّه غنّى وتغنّى بحريّةٍ للإنسان تُعتقه من جميع التقاليد ولا تعود ترْهنه إلاّ بإرادة ذاته. وقد رأى تلك الحريّة في مواضع عديدة من التاريخ ومن الأعمال. وربّما بل لا بدّ أن يكون قد تلمّسها أو تمنّاها بالأحرى في نفسه، وحلم بأن يغدو نحوها قبل أن يبتلعه بحر الجنون. ولعلّ في هذا تَوازُنَ تلك، كما كان السجن «عقابَ» الماركي دوساد، وعلى حريّته أيضاً.


ومَنْ هناك لم «يُعاقَب»؟
لنراجع التاريخ والأساطير والوقائع.
أهو خرافة هذا الوحش، وأضغاث تَطيُّر، كما يقال؟ أيكون جهادنا هو ضد خرافات وأضغاث تطيّر ولا نَقْدِر عليها؟
نَقْدر على المادة بأسرها، ولا نَقْدر على أشباح!؟


«الزمن فكرة»
«ـــ صرتَ الآن تعتقد بوجود الحياة الأبديّة في ما بعد؟
ـــ لا، ليس بوجود الحياة الأبديّة، بل بالحياة الأبديّة ههنا. ثمّة لحظات... إنّك تصل إلى لحظات، وفجأةً يتوقّف الزمن لكي يَثْبُت إلى الأبد.
ـــــ وأنت تأمل في بلوغ مثل هذه اللحظة؟
ـــ نعم.
ـــ أشكّ أن يتحقّق ذلك على عهدنا (...) في سفر الرؤيا، يُقسم الملاك إن الزمن سيضمحلّ.
ـــ أعرف. الأمر في الرؤيا حقيقيّ جداً، واضح ومحدّد. عندما يبلغ سموّ الإنسان حدود السعادة، سينعدم الزمن لأنّه يغدو بلا فائدة. إنّها لفكرة صائبة جدّاً.
ـــ وأين عندئذٍ سيخبّئون الزمن؟
ـــ لن يُخبّئوه ولا في مكان. الزمن ليس شيئاً بل فكرة. وسوف ينطفئ في العقل».
(«الممسوسون» ـــــ دوستيوفسكي)