ضحى شمسإذا كانت الجمهوريات تحدّد على أساس وسائل النقل المشترك، فقد يكون جائزاً التأكيد اليوم أن جمهورية السرفيس الأولى، بما هي صيغة لبنانية فريدة للنقل المشترك، الخاص بالطبع، تعيش آخر أيامها. وما نشهده من تكاثر غير طبيعي لسيارات «السرفيس»، ما هو إلا الوجه الآخر لهذه النهاية، إذ لا تثمر تلك الكثرة إلّا تدهوراً في الخدمة للركاب والسائقين سواء بسواء، يعبّر الركاب عنه عبر النزول مرات عدة قبل الوصول لتبديل السرفيس، صافقين الباب ومتبادلين السباب مع السائق. فـ«برمة العروس» لا مناص منها، هكذا، وما إن تصل إلى مفترق الطرق الذي من المفترض أن يكمل السرفيس فيه باتجاه وجهتك، حتى تراه «عكف وفرد». أي أخذ اتجاهاً آخر، ما يجعل وصولك إلى حيث تقصد، رحلة طويلة. تحاول، وأنت تتميز من الغيظ، أن «ترقّق» لهجتك، داعياً الله أن يكون سؤالك «خفيفاً عليهم»: عفواً معلم بس لوين هيك؟ تقول له وأنت تتصنّع أنك لست غاضباً بالمرة. لكن، ما إن تطرح السؤال حتى «يهب» فيك «كبرميل بارود» حطه الغضب من علٍ، ويبدأ بإجابات صار من الممكن تبويبها في قاموس خاص: «شو آخدتيني تاكسي؟»، أو «عيني رزقتي بتحدد طريقي إذا مش عاجبك الله معك»، أو الأكثر دبلوماسية (وتسبيباً للغيظ) «عم اهرب من العجقة، أصلاً هيدي الطريق أحسن بألف مرة» إلخ. هكذا، وما إن تصفق الباب غاضباً، وخاصةً أنه أنزلك في مكان من الصعب أن تجد فيه «سرفيساً» يقبل الذهاب باتجاهك الأصلي، حتى تبدأ بالتساؤل عن البديل؟ نادماً على عدم استقلال .. «الفان».
وفي السنوات «السنيورية» الأخيرة، تزايد اعتماد اللبنانيين على الفان، بدليل خلو السرفيسات تقريباً (وزيادة توترها)، ما يؤشر بوضوح إلى تراجع مستواهم المعيشي، معطوفاً على تخلي الدولة عن نقل مشترك عام. فأغلب من يستقلون الفان يفعلون ذلك لأنه أرخص بالنصف.
لكن وإن حزمت فئة اجتماعية أمرها، فإنّ آخرين لم يفعلوا. هكذا يبدو قسم كبير من زبائن النقل المشترك، متروكين على الأرصفة، تمر بهم وسائل النقل على أنواعها من دون أن يحسموا أمرهم في أفضلها، لميزانيتهم ووقتهم و.. مظهرهم الاجتماعي. فهل يستقلون السرفيس، ذا الأجرة المضاعفة، لأنه أكثر احتراماً لإنسانيتهم من الفان المخصص بالأصل لنقل البضائع، رغم «برمة العروس»؟ أم يستقلون الفان، على علاته لأنه أرخص ويتبع خط سير محدداً؟ أم يقلبون الطاولة نهائياً، متخلّين عن أي أمل بنقل مشترك محترم ويشترون سيارة، تجعلهم يعتقلون أنفسهم مجدداً في زحمة السير الخرافية في بيروت؟ يبدو القرار صعباً.
وفي الانتظار، الحرب بين الفانات والسرفيسات على أشدها. وبما أن كل الوسائل جائزة في الحرب، فقد ابتدع «شوفارية» الخط، لغة تفوق عنصري، يشيرون بها إلى ركاب الفان. من مثل أن يقول السائق وهو يقلع خائباً من أمام الراكب الذي أشاح بوجهه عنه لدى توقفه له «وك اتركوه، هيدا راكب فان». لا بل إن بعضهم أخذ بنشر شائعات هدفها تخويف السيدات، غامزاً من قناة أخلاق سائقي الفانات، وراوياً حوادث ربما لم تحصل إلّا في عقولهم.
وبرغم كل الحروب المهنية، وجلافة غالبية سائقي الفان، وخطورته في حال حصول حادث، فإنه أصبح لا بديل منه لأولئك المواطنين الذين حالما يقولون لسائق السرفيس وجهتهم، البعيدة عادةً، يرفع إصبعين يلاعبهما في إشارة إلى طلبه أجرة مضاعفة.
هكذا، يواصل «الفان» تقدمه، كاسباً ركاباً من طبقات جديدة كانت حتى لا ترد عليه حين يأخذ بسؤالهم وهو يقترب منهم عن وجهتهم، عبر إضاءة أضوائه الأمامية وإطفائها. بل إنه أخيراً، بدأ ركاب «مرتبين» باستقلاله متشجعين بموقف.. السياح الأجانب، وخاصةً الطلاب منهم، الذين يفصلون بين قيمتهم كأفراد، وبين وسيلة نقل عملية واقتصادية توصلهم إلى وجهتهم بدون تذاكي سائق لبناني عليهم بسبب «شقارهم» وتلاعبه بالأجرة. بالطبع لو كانت وسيلة النقل هذه في بلادهم لما استطاعت السير في الشارع لأسباب تتعلق بالسلامة العامة وبكلفة شركات التأمين، لكن هنا.. «يسواهم ما يسوى» الجميع، ثم إن في الأمر متعة وقصة يحكونها حين يعودون إلى يومياتهم الرتيبة في بلدانهم المنظمة حتى الملل.
انتقلت إلى الفانات، ولو جزئياً. ففي الصباح وللوصول إلى المكتب، أصبح لا بديل من الفان، أما في المساء، كوني غير مستعجلة، فأستقلّ السرفيس. هكذا، أفتح النافذة مستمتعة بهواء الليل وانسياب السيارة في الشوارع الخالية. في هذه اللحظة يعود حبّي للسرفيس، رغم علمي بأنني سأستفيق غداً، في بلاد الفان، الضيّقة، على اتّساعها.