إيلي شلهوب


لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

كم كان المشهد معبّراً. شمعون بيريز وبنيامين نتنياهو يتشابكان الأيدي مع السفير المصري لدى تل أبيب. يُقطّعون علَم مصر. حسناً، ليس العلَم، بل كعكة على شاكلته التهمها الحضور في حفل في منزل سعادته في هرتسيليا. أما المناسبة، التي يحاول قادة الدولة العبرية إقناعنا بأنها عزيزة على قلبهم، فليست سوى الذكرى الـ 57 لثورة الضباط الأحرار.
نعم، إنها الثورة نفسها التي تزعّمها جمال عبد الناصر، ذاك المارد الذي تعاملت معه إسرائيل على أنه عدوها الأول لنحو عقدين من الزمن، من عام 1952، حتى وافته المنية في 1970، والتي رأى الكيان الصهيوني أنها تمثّل التهديد الوجودي الأساس لكينونته. طبعاً، وقد كانت حرب فلسطين عام 1948، يوم اغتصبتها تلك العصابات الإجرامية، الدافع الأساسي والمحرك الحاسم لما جرى في 23 يوليو.
ثورة سعى قادة الدولة العبرية إلى اغتيالها بعدوان ثلاثي نفذوه بمعاونة بريطانيا وفرنسا في 1956، وإلى تصفيتها بحرب عام 1967. أمّمت قناة السويس، التي سهلت بريطانيا قيام إسرائيل بالأساس لحمايتها. بنت السد العالي الذي هدد أفيغدور ليبرمان بتدميره. من ثناياها خرج العمل الفدائي ضد الكيان الصهيوني، وتحوّل منهجاً قتالياً في حرب الاستنزاف الشهيرة. في أحضانها ترعرعت المقاومة الفلسطينية ومنظمة التحرير. في عهدها خرجت لاءات الخرطوم الثلاث: لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف. وبفضلها عُقدت الوحدة القصيرة العمر مع سوريا. هي التي دعمت ثوار الجزائر ضد الاستعمار، وثوار اليمن والعراق ضد الأنظمة الملكية.
كان ذلك قبل عقود من الزمن. أما اليوم، فلا يجد شمعون بيريز، رئيس الدولة الغاصبة نفسها، أي حرج في «الانحناء» لهذا «الزعيم العظيم والقوي». مهلاً، لا داعي لإطلاق العنان للمخيلة. لا يقصد طبعاً عبد الناصر، صاحب شعار «ما أخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة»، بل خليفة خليفته، وهذان ما قالا لا (لإسرائيل) إلا في تشهدهما. يتحدث عن حسني مبارك، «الزعيم الطبيعي صاحب الصوت القوي للسلام». لا يفعل ذلك تزلفاً، بل عن اقتناع. يريد أن يمرر رسالة تفيد بأن «علينا جميعاً تقديم التنازلات» على غرار ما فعل أنور السادات «الذي اخترق طريق السلام... ولن ننساه». بل أكثر من ذلك. لقد وجه دعوة علنية إلى حاكم القاهرة لـ«قيادة» عملية «صنع السلام».
إنه بيريز نفسه الذي تشارك مع ديفيد بن غوريون وليفي أشكول قيادة عصابات الهاغانا، طليعة الجزارين في فلسطين. وكان المسؤول عن توفير الأسلحة لحرب 48، وعن إقامة المفاعل النووي في ديمونا وتطوير الصناعات العسكرية الإسرائيلية، في مقدمتها الطائرات خلال السنوات الأولى لحكم عبد الناصر.
أما نتنياهو، فقد كان طفلاً يوم حكم العملاق مصر. ظهر على المسرح السياسي في عهد أبو علاء مبارك. مداخلته في ذاك الحفل المشين حملت دلالات أخرى أكثر شؤماً. دعا العرب إلى إجراء مفاوضات مع إسرائيل على بنود المبادرة العربية. تلك المبادرة التي وضعت أصلاً بهدف إغراء إسرائيل بالتعامل بجدية مع عملية التسوية، ودفع مفاوضاتها على المسارات الباقية، الفلسطيني والسوري واللبناني، للتوصل إلى سلام عادل وشامل. يعني ذلك أن نتنياهو يريد مفاوضة العرب على الحافز الذي عرضوه لبلوغ المفاوضات نهايتها؛ على ما عدّوه الحد الأقصى من التنازلات التي يمكن أن يقبلوا بها.
بنيامين نتنياهو يقطّع علم مصر. حسناً، ليس العلم، بل كعكة على شاكلته في حفل لمناسبة ثورة 23 يوليو. إنه نتنياهو نفسه الذي أعلن على الملأ أنه لا يقبل إلا بكيان فلسطيني منزوع السلاح، تتحكم إسرائيل بحدوده وأجوائه. لا يمانع في تسميته دولة، بل حتى الولايات المتحدة الفلسطينية. أشبه بحكم ذاتي منزوع السيادة. ولا يقبل بعودة اللاجئين، اللهم إلا إلى الكيان المزعوم. هو الذي أعلن مراراً وتكراراً أنه لن يعيد الجولان، ولو تضمنت مواقفه الأخيرة بعض الترضية لـ... واشنطن. فضّل خوض معركة مع الولايات المتحدة، الدولة الراعية لكيانه والحليف والسند ومصدر المال والسلاح والغطاء السياسي والأمني، على مجرد القبول بتجميد الاستيطان في الضفة. لا يزال متمسكاً بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل.
المضحك المبكي هو أن السلطات الإسرائيلية ترى «تشريف» بيريز ونتنياهو منزل السفير المصري «عملاً استثنائياً للإعراب عن المودة»، و«ذروة التقارب». والأنكى أن السلطات المصرية تشاركها على ما يبدو هذا التقويم. التنسيق بينهما في أوجه، وهو يشمل الملفات كلها، من المصالحة الفلسطينية وصفقة تبادل الأسرى وحتى إيران.
هذا ما يظهر للعيان، وما خفي أعظم.