كيف يمكننا أن نفهم الأزمة السياسية الحالية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية؟ ولماذا نشهد اليوم حركة سياسية مدهشة مثّلت التحدي الأكبر للحكم الإسلامي بعد عقد من الصمت الظاهري؟ هل هو صراع طبقي، أم انتقام العلمانية من الثيوقراطية؟ وهل تقف إيران على حافة ثورة أخرى بعد؟
آصف بيات *
تتمثّل الوسيلة الكفيلة بالإجابة عن الأسئلة التي يطرحها الحدث الإيراني في إدراك كيف أن الخلاف القائم الآن يعكس ويمثّل في آن معاً نتيجة الانقسام السياسي والاجتماعي العميق في إيران، انقسام بين نظام عقائدي يعتبر الشعب مجموعة من الأتباع المطيعين، وشريحة كبيرة من أفراد الشعب يرون أنفسهم مواطنين أصحاب مطالب محقة.
في الأسابيع والأيام التي شهدت تطورات تبلورت بانهيار نظام الشاه في 11 شباط 1979، أطلق صراخ ملايين من الإيرانيين صدىً يصمّ الآذان: استقلال، «أزادي» (حرية)، جمهورية إسلامية! فأضحى هذا المطلب المحوري صانع هوية الثورة الإيرانية: توق تشاطَره المحتجون والقيادة الثورية الناشئة فوحّدهما. ومع ذلك، لم يمضِ وقت طويل قبل أن يبدأ كلّ من هذين الفريقين بالتعبير بدقّة أكبر عمّا قصده بهذه الألفاظ. وأرخت هذه العملية الأساسات لخلاف مرجأ من جهة، ولقمع من جهة أخرى.
بالنسبة إلى إيرانيّين كُثُر في أواخر السبعينيات، كانت الثورة حركة وطنية مناهضة للإمبريالية، ألّف فيها الاستقلالُ هدفاً أساسياً. وعكست المفردةُ الشعورَ السائد في تلك الحقبة عندما أحسّ معظم الناس أن وطنهم كان وطناً «تابعاً» ــــ تابعاً لـ«الغرب»، ولا سيّما لأميركا.

في عهد نجاد، سجّلت الخصخصة رقماً مرتفعاً وسبّب معدّلُ التضخّم تركيعاً لأصحاب الدخل المنخفض
وقد عارضت الغالبية العظمى منّا نحن الذين اعتنقنا «هذه الطريقة في رؤية الأمور» «التبعية» كجزء من ارتباط أكبر بالعالم على نحو واسع. فقد رأينا مثلاً العديد من أوجه التطابق مع ما كان يجري في أميركا اللاتينية في تلك الحقبة. وبالتالي، لم تقم، بالنسبة إلى المحتجّين، علاقة مباشرة بين البحث عن «الاستقلال» ودعم الاكتفاء الذاتي الوطني والانعزال. ولكن تبيّن أن موقف القادة الثوريين الإسلاميين مختلف. فقد نظروا إلى «الاستقلال» على أنه تزوُّد بالمناعة بوجه التدخل والتأثيرات «الخارجيَّين»، وبالتالي على أنه درع مهمّ لتوطيد سيطرة النظام الاجتماعية. بالنسبة إليهم، عزلت فكرة الاستقلال النظام الإسلامي عن أنماط الحياة المختلفة التي قد تنشئها مواجهة مع عالم معولِم.
والواقع الذي يكمن وراء هذا السلوك يكشف أن إيران تمثّل نظاماً عقائدياً غريباً تقوم مشروعيته على «قيم دينية» ضيقة. فلطالما خشي الإسلاميون المتشددون ألاّ تتمكّن هذه «القِيَم الدينية» من الصمود في حال حدوث انفتاح على العالم الخارجي.
وبافتقاد مثل هذه الثقة، اضطرّ القادة الإيرانيون إلى تحويل الخطاب عن «الاستقلال» إلى كيان «مقدّس»، إلى فضيلة يؤدّي انتهاكها إلى العقاب. ذلك هو المنطق الذي يقودهم إلى استهداف ما ومَن يعارضهم من أفكار وسياسات وأفراد على اعتبار أنه «أجنبي» أو «غربي» أو «أميركي». وهكذا أضحت فكرة «الاستقلال» حجة لقمع الحريات في البلاد. ربما كان إدراكاً مبكراً وضمنياً لهذا الخطر ما قاد ملايين الثوار الإيرانيين الذين قاموا، في أواخر السبعينيات، بالتظاهر لإسقاط الشاه بغية الانتقال إلى ما هو أبعد من الاستقلال، إلى العنصر الأساسي الثاني المكوِّن لثورتهم: «أزادي» (حرية).

حركة الاحتجاج ليست صراعاً طبقياً ضد حكومة مؤيّدة للفقراء ولا حرباً علمانيّة ضد حكم ديني
ما الذي عناه إذاً الشعب الإيراني بلفظة «أزادي» في زمن الثورة؟ في الخطاب والشعور العامَّين اللذين سادا في أواخر السبعينيات، كانت الرغبة في «أزادي» مرتبطة جوهرياً بـ«العدالة». وقد تضمّنت معنى التحرر من القمع، ومن الخوف من قادة طغاة وبيروقراطيين وشرطة السير ودرك القرية، وأكثر من كل هذا، من الخوف من السافاك. مثّلت الحرية رغبة في الانخراط من دون خوف. أعقب الثورةَ وانهيار نظام الشاه في شباط 1979 قدرٌ كبير من الحرية. وفي الأسابيع التي تلت الثورة، ساد شعور مدهش بالارتياح والتحرّر. وقد عُبِّر عنه بطرائق شتّى: من ازدياد هائل بوسائل الإعلام العامة وحضور الشعب على الحلبة المدنية، إلى الفعالية الاجتماعية والسياسية في الأحياء والمدارس والمكاتب والمصانع والمزارع، وحتى في الجيش.
ولكن «ربيع الحرية» ذاك ما لبث أن أشرف على نهايته. وبدأ عدد من المجموعات الأمنية المتشدّدة بالسيطرة على الأماكن العامة، معلنةً حلول نظام اجتماعي جديد. ومَن كان غير ملتزم فُرضت عليه رقابة اجتماعية صارمة وانضباط أخلاقي؛ وسرعان ما تقلّصت المعارضة العلنية.
وسط كلٍّ من المشاكل المتأتية من الخارج (الحرب مع العراق) والظروف الداخلية (القمع)، وُضع مطلب «أزادي» جانباً. ولم يعاود الظهور إلا بعد نهاية الحرب عام 1988، وفي السنوات الأولى من عهد رفسنجاني (1989ــــ1997)؛ وبلغ ذروته في ظل خاتمي (1997ــــ2005). ولكن بحلول تلك المرحلة، كان معنى «حرية» قد خضع إلى تحوّل.
ففي هذه الحقبة الجديدة، لم تُستخدم لفظة «أزادي» بمعنى الانخراط السياسي فقط، بل بمعنى الحريات المدنية والفردية خصوصاً. ربما لم يحدث في تاريخ إيران أن حصل مثل هذا السعي القوي وراء الحقوق الفردية، والحريات المدنية، وتوق المرء إلى التمكّن من اختيار نمط الحياة الذي يفضّل. بالنسبة إلى الغالبية العظمى من الشباب، أمسى الهمّ الأساسي «المطالبة بحياة الشباب» بحدّ ذاتها، الرغبة بحرية تضاهي حرية أي شاب آخر في العالم، حرية في أن يختار إلى أين يذهب، وماذا يرتدي، وفيم يفكّر أو إلامَ يصغي. وعنى هذا أنّ الشابّات أردن أن يتحرّرن من المراقبة المستمرّة التي تمارسها السلطة الأخلاقية، ومن الدولة والحجاب المفروض والقوانين القمعيّة. كافَحْن من أجل اتباع نمط الحياة الذي يُردْن، ولعب دور عام، واتخاذ قرارات في الشؤون العائلية، ومتابعة الدراسة واختيار الشريك في الحياة، كافَحْن لكي يُصغى ويُنظر إليهن.
ويعكس هذا السعي وراء الحقوق الفردية جزئياً عملية أوسع، عملية تشخّص كان المجتمع الإيراني يخضع لها خلال الثلاثين سنة التي تلت ثورة عام 1979. هذه الحداثة الزاحفة، التي نتجت عن توسع التمدن (70%)، وتعميم تعلّم القراءة والكتابة (80%) والتعلّم في الجامعات، والقدرة على التحرك وآثار العولمة التي لا مناص منها، قد ظهرت في حشد من العمليات الاجتماعية المختلفة؛ وهي تشمل الأسرة النووية والاتجاه نحو عائلات أصغر تتألف من ولدَين، والسكن في شقق، والتركيز على الطفل، وتثمين الحكم بالاستحقاق مقابل العنصرية العمرية.
لم تقلّص هذه الحداثة معتقد الناس الديني بحدّ ذاته، على الرغم من سيادة ازدراء قوي للإكليروسية وللإسلام السياسي. بل انتقلت إيران إلى مسار ما بعد الحقبة الإسلامية حيث رغب الناس في الجمع بين إسلامهم والحداثة، بين تديّنهم والحقوق، بين إيمانهم والحرية.
يختلف هذا الفهم لـ«الحرية» عن فهم القادة الإسلاميين لها. فقد عبّر الإسلاميون عموماً عن اهتمام ضئيل بفكرة الحرية، وإن حملت «أزادي» أيّ معنى في الثمانينيات والتسعينيات، فقد عَنَتْ بالنسبة إلى معظمهم مذهب المتعة، والانحلال الأخلاقي والانحطاط والتطبّع بالغرب.
صحيح أن آية الله الخميني تكلّم لغة «أزادي» عندما كان يعارض الشاه، ولكنه لم يقل عنها إلاّ النزر القليل حين تولّى السلطة. وكان خلَفه كقائد أعلى، آية الله علي خامنئي، من بين أولئك الذين حققوا الدعوة إلى «الحرية» بين الشباب ورفضوا أن يستبعدوا المفهوم بكامله؛ ولكنه، مع زملائه المفكّرين، ادّعوا لها أصلاً «إلهياً وإسلامياً» على نحو جوهري. وزعم أن فكرة «الحرية الروحية» تفرض «حرية تحقيق المرء واجباته»، و«القيام بعمل كبير واتخاذ خيارات كبيرة» سبيلاً إلى الترفّع. أما الأنواع الأخرى من الحريات التي كان الناس يطالبون بها، فقد انتهكت الحكم الديني في إيران، وهو نواة الجمهورية الإسلامية.
ينبثق لبّ مشروعية الجمهورية الإسلامية من «القِيَم التي أمر بها اللّه»، وهي «المبادئ الإسلامية». ومع ذلك، ليس كل ما في هذا النظام السياسي إلهياً؛ فثمة مجال أيضاً لـ«الشعب» الذي يستطيع، من خلال نوّابه، أن يسنّ قوانين في برلمان على النمط الغربي. ولكنّ كلاً من نواب الشعب وقوانينهم، إسلامهم، يخضعون لموافقة مجموعة صغيرة نالت بركة الفقيه الأعلى. إذاً ثمة حلقة مقفلة من المحسوبية تنتج سيطرة الزمرة الإسلامية التي تحكم إيران.
هل هذا ما كان يدور في فكر ملايين الثوّار عندما راحوا يردّدون جمهورية إسلامية في ذلك الشعار الذي يحدد مطالبهم «استقلال، «أزادي»، جمهورية إسلامية»؟ في ذلك الزمن، عنت اللفظة بوضوح تغييراً في النظام، تغييراً من الملكية إلى الجمهورية، من الأوتوقراطية إلى الديموقراطية. ولكن صفة «إسلامية» في تعبير «جمهورية إسلامية» لم تكن واضحة لكثر.
في الحقيقة، لم يُشِر الإيرانيون مسبقاً إلى مثل هذه الجمهورية. ففكرة الخميني عن ولاية الفقيه، التي تكلّم عليها في كتابه المعنون «الحكومة الإسلامية» في أوائل السبعينيات، كانت في الأساس مسألة فقه شيعي أكثر مما هي مخطط للحكم؛ وبقيت شبه مجهولة إلى ما بعد الثورة.
ما بدا الشعب أنه فهمه بتعبير «جمهورية إسلامية» في خلال الثورة ناسب الفكرة غير الواضحة التي تقول ببديل عادل وتقي وقابل للمحاسبة أو ديموقراطي عن الشاه. وأكّد الخميني هذه الفكرة في مقابلة أجرتها معه محطة «أن. بي. سي» في 11 تشرين الثاني 1978 أعلن فيها أن «الجمهورية الإسلامية ستكون ديموقراطية حقاً». في الواقع، إن مسودة دستور الجمهورية الإسلامية (التي وافق عليها آية الله الخميني في باريس) كانت علمانية وديموقراطية على نحو لا بأس فيه. فقد استُوحِيت من دستور الجمهورية الفرنسية، ولم تحمل أي إشارة إلى السيادة الإلهية أو ولاية الفقيه؛ أشارت فقط إلى «مجلس حرس» تضمّن 6 محامين و5 رجال دين كانوا موكلين الإشراف على الشريعة.
لكن قبل التصديق النهائي على المسودة في جمعية مخوّلة وضع الدستور خُطِّط لتأليفها، أدخل الإسلاميّون المتشدّدون في المجلس الثوري وأعضاء الحزب الإسلامي الجمهوري تغييرات جذرية عليها، فحوّلوها، إلى حدّ ما، إلى ما بقيت عليه حتّى يومنا هذا. فعلوا ذلك من خلال إطلاق حملة شعبية كثيفة دعماً لبعض المطالب اليسارية التقليدية، وتلك المتعلّقة بإعادة توزيع الثروات: إصلاحات تطال الأراضي، وتأمين منازل للجميع، وتأميم الصناعة والتجارة الخارجية، ومصادرة الأراضي، وقد زُيِّن كل ذلك بغزارة بخطاب مناهض للولايات المتحدة. كما أنهم اتهموا أولئك الذين اعترضوا على الدستور (سواء كانوا ليبراليين أو علمانيين أو حتى مسلمين معتدلين) بتأدييهم الرأسمالية والغرب ومعاداتهم الثورة (باختصار، تصرف شبيه للغاية بما يقوم به محمود أحمدي نجاد اليوم). في هذا الجوّ المشحون حيث خشي العديد من النقاد رفع الصوت، نجح الإسلاميون المتشددون في تمرير مسودة الدستور المعدّلة والمؤسلمة، مسودة أمّنت السلطة لحكم قلة دينية جديدة.
ليست الدولة الإسلامية توتاليتارية (ثمة شقوق داخلية عديدة ومقاومة اجتماعية) ولا بالية سابقة للعصر الحديث (فهي تمارس السلطة إلى حد كبير عبر مؤسسات حديثة مثل البرلمان والرئيس والبيروقراطية الحديثة)؛ ولكنها تبقى فاشية في العمق، وأبوية عملياً وصدّيّة (Exclusive) إيديولوجياً، تحرم ملايين المواطنين من المشاركة في القرارات المرتبطة بالحياة العامة. وتستمر في انتهاك حقوق الإنسان، وفي فرض سيطرة اجتماعية قاسية وانضباط أخلاقي ومعاملة للمرأة تقوم على كره النساء. وفي هذا الحكم الديني، يتباين بقوة التشديد الساحق على واجبات الشعب مع سعي هذا الشعب إلى الحقوق وإلى التمسك بالنظام الجمهوري.
والحركة الإصلاحية، التي ظهرت في تسعينيات القرن المنصرم وتحولت جزئياً إلى الحكومة الإصلاحية التي استمرت ما بين 1997ــــ2004 (وقضت قبل انتخاب محمود أحمدي نجاد في حزيران عام 2005 بسنة واحدة)، نشأت تحديداً من أجل دمقرطة الجمهورية الإسلامية. ولا عجب في أن الاندفاع والتفاؤل، وقد ساد الثلاثة سيادة مذهلة عقب انتخاب محمد خاتمي، أعلنت قدوم «الثورة الثانية» في إيران، ثورة كان يُفترض بها أن تكمل ثورة عام 1979. ودفعت الناس إلى الاعتقاد أن طريقة جديدة في ممارسة السياسة تلوح في الأفق، وأن تغييراً أساسياً يمكن أن ينشأ، لا على شكل ثورة عنيفة بل على صورة طريقة سياسة مسالمة. وقام عدد كبير من الإيرانيين (حوالى 70% من الناخبين في مشاركة بلغت نسبتها 80%) بالتصويت لرجل دين ذي مرتبة وسطى، هو خاتمي، كان قد وعد بتحقيق «إصلاحات» ــــ الديموقراطية، وحكم القانون، والحكم بالاستحقاق، والتسامح والمجتمع المدني. «إصلاح»، اللفظة التي كان يمكن أن تشير إلى معنى «خيانة» في الثمانينيات من ذلك القرن أضحت الشعار في تلك المرحلة، سياسة أمل.
صحيح، لم تنبعث حكومة الإصلاح من العدم، بل جسّدت الخط السياسي لحركة أوسع تلت المرحلة الإسلامية وتطورت منذ أوائل التسعينيات ضمن إطار عملية «إعادة البناء» التي أعقبت الحرب. وعبّرت حركة ما بعد المرحلة الإسلامية هذه عن المشاعر الناشئة لدى النساء والشباب والطلاب والمثقفين والمجموعات المهمشة سياسياً، المؤيدة لانفتاح اجتماعي وسياسي وديني. وقد هدفت إلى تجاوز المشروع الإسلامي، وإلى حلّ الدولة الإسلامية وكبح المراقبة الاجتماعية للرجال والنساء والانضباط الأخلاقي ووضع حد لاحتكار الحقيقة الدينية. ورغبت في إقامة دولة علمانية ــــ ديموقراطية ضمن مجتمع تنتشر فيه التقوى على نطاق واسع وتستعيد لغة الحقوق ظهورها السابق. كان مشروع خاتمي الإصلاحي يقضي بوضع الأهداف السياسية المحددة ما بعد المرحلة الإسلامية موضع التنفيذ. وقامت الاستراتيجية على تمكين المجتمع المدني من أسفل، وتدبّر إحداث التغيير من فوق حيث كان الإسلاميون المحافظون لا يزالون يحتفظون بسلطة حقيقية. في تلك المرحلة، تعزز المجتمع المدني، وامتلكت صحافة حرة، وحياة مجتمعية، وفعالية الحركات الاجتماعية حيويةً غير مسبوقة. وصدمت موقفَ المتشددين الأخلاقي مجموعةٌ من النقاشات العامة عن الشؤون السياسية الدينية وحكم القانون والعنف والنساء والغرب. ومع ذلك، تغيرت أمور قليلة في سلطة المحافظين المؤسساتية، لا سيما الهيئات غير المنتخبة، والجيش والشرطة وميليشيا الباسيج المؤلفة من المتطوعين، كما مؤسسات الدعاية والعديد من مجموعات الضغط العنفية؛ ولكن الخطاب الإصلاحي مثّل التحدي الأكبر لعقيدة ولاية الفقيه من الداخل.
بعدما تضرّر المتشددون من هيمنة الإصلاحيين الاجتماعية، أطلقوا، بدافع الانتقام، عملية كبيرة، سياسية وقانونية قادها عنف صارخ، من أجل استعادة ما كانوا قد خسروه على مرّ تلك السنين. ويجسد أحمدي نجاد وحكومته ذلك الانتقام من أجل إرجاع عجلة التاريخ إلى الوراء.
فقد مثّلا دعوة حثيثة للعودة إلى الوضع السابق، وتحديداً إلى حالة الثورة التي ميزت أوائل الثمانينيات من خلال استحداث مصادر جديدة للشرعية، أي شعبوية وراديكالية وخطاب يدّعي أنهما سيجريان التغيير المنشود. كانا ولا يزالان مصممين على قيام ثقل موازن لأي إمكانية نشوء حكومة إصلاحية أخرى. وسعيا بعناد إلى تعزيز سلطة الإسلاميين المحافظين بما يتناسب مع رؤى آية الله مصباح يزدي، وهو الأب الروحي لأحمدي نجاد، من خلال تجريد الجمهورية الإسلامية من مركّبها الجمهوري، وتحويلها إلى حكومة إسلامية فيها تُقلَّص الانتخابات لتصبح مناسبات للتعبير عن الولاء للفقيه الأعلى بصفته جوهر «النظام الإسلامي».
ولكن كيف يستطيع «رجال الدين» هؤلاء أن يبرروا أخلاقياً ما يُعتقد أنه احتيال واسع النطاق ولامشروعية صارخة وخداع مذهل؟ الحقيقة أن النظام «المقدس» جداً الذي يجهد المتشددون للحفاظ عليه ــــ ولاية الفقيه ــــ يمكن أن يُستخدم من أجل تبرير مثل هذه الإجراءات المتطرفة وتقديسها طبعاً. وفي هذا النظام (كما أكّد آية الله الخميني)، يتمتع «الحكم الإسلامي» (الولاية) بحق الصدارة على كل الواجبات الأخرى، ويمسك الفقيه الأعلى بالسلطة المطلقة لتغيير أو تجاهل أي قانون ومبدأ أو حتى أوامر دينية يعتبرها غير ملائمة لـ«الحكم الإسلامي». فإذا كان تجاهل الدستور أو منع الناس من أداء صلواتهم اليومية يمكن أن يُبرَّرا بحجة «ملاءمة النظام»، فلمَ ليس التزوير في الانتخابات؟ في مثل هذا الإطار الأخلاقي، يمكن أن يصبح الكذب واجباً، فضيلة. وبالتالي من قلة التبصّر اختزال الأزمة بصراع بين الإيرانيين الميالين إلى الغرب وسكّان المدن من الطبقة الوسطى، والغنية، من جهة، وطبقة يُفترض أنها مؤيِّدة للطبقة العاملة ونجاد المناهض للامبريالية الذي يدّعي الفوز، من جهة ثانية. يبدو أن التاريخ يعيد نفسه. فقد سادت مشاعر مشابهة خلال أزمة الرهائن في أوائل الثمانينيات لدى اليسار الدولي ونظيره الإيراني قبل أن يصفّي هذا الأخيرَ النظامُ نفسه الذي دُعي أنه «مناهض للامبريالية».
فلم تحمل «مناهضةُ الامبريالية» التي يقول بها أحمدي نجاد معاني كثيرة في ما يخص رفاه الشعب العادي وتحريره: المحرومون والفقراء والنساء. ويكفي المتشددين أنهم حرموا معظم المواطنين من أرباحهم الاقتصادية وحقوقهم الإنسانية، فيما قدّم خطابهم المتطرف وممارساتهم الصدّيّة التبريرات لأعداء الليبرالية الجديدة وعظّموا موقعهم في الغرب. ومبادئهم غير الديموقراطية أمدّت الأقل تسامحاً بين المصابين برهاب الإسلام ومثيري الحرب في الولايات المتحدة وأوروبا بعدّة مكّنتهم من العمل، ما أتاح لهم شنّ حملة ممدّدة يقع ضحاياها، خصوصاً، المسلمون الفقراء والمضطهدون.
في ظلّ حقبة «مناهضة الامبريالية» التي قادها أحمدي نجاد، تراجعت أعداد المنظمات غير الحكومية؛ وسُجن مئات الطلاب وأعضاء المهن والنساء والناشطون في المجتمع المدني المنشقون عن النظام، وقُمعت الاحتجاجات الكبيرة التي قام بها الأساتذة وسائقو الباصات وعمّال آخرون. وفي عهد حكومة أحمدي نجاد، أُوقفت الإعانات الحكومية، وسجّلت الخصخصة رقماً مرتفعاً جديداً (ثماني عشرة مرة أكثر مما كانت عليه ما بين 2001 و2003)، وسبّب معدّلُ تضخّم بلغ 25% بتركيع أصحاب الدخل المنخفض. لقد ركزت حملة أحمدي نجاد الانتخابية عام 2005 على محاربة الفساد وإنشاء فرص عمل وإعادة توزيع كريمة للمال النفطي. لكن في ظل حكومته، سجلت المحسوبيات والفساد مستوى جديداً، وارتفع عدد الأشخاص الذين يعيشون دون خط الفقر (بنسبة 13%)، إذ صار ما بين 9 ملايين و10 ملايين شخص يعيشون دون هذا الخط (وفقاً لمجلس العمل الإسلامي). في الواقع، إذا أُريد الحكم على السياسات الاقتصادية والدعم للقطاع العام، فالمير حسين موسوي يميل إلى «اليسار» حتماً أكثر من محمود أحمدي نجاد.
لا بل أكثر. لا يعكس الخلاف بين أحمدي نجاد وموسوي انقساماً بين الريف والمدينة، إذ يبدو أن المرشحَين ينالان دعماً من الجمهورَين. فقد أصبحت إيران، في الواقع، مجتمعاً حضرياً ومتعلماً على نحو متزايد في العقود الثلاثة المنصرمة. فالتمدن الزاحف (عبر التعليم المتزايد ومدّ الشبكة الكهربائية وبنية الأسرة النووية والتخصص وزيادة وسائل الإعلام وقراءة الصحف) قاد الريف إلى فلك نبض حضري تقوم فيه (وعلى الرغم من قيود قاسية) أوساطٌ عامة تُسمِع صوتها، وحياة مجتمعية، وصحافة محترمة، و11 مليون مستخدم لشبكة الإنترنيت ومئة ألف شخص يعبّر عن رأيه عبر هذه الشبكة، وكلها عناصر تمثّل تحدياً جدياً للدولة الإسلامية بحد ذاتها، تلك الدولة التي ساعدت على إطلاق هذه التطورات.
لا يرتبط نظام أحمدي نجاد بالطبقة العاملة، بل بـ«طبقة دولة» فريدة، تتألف من مجتمع إيديولوجي يتضمن كلاًّ من الفقير والميسور، ويرتبط أفراده بعضهم ببعض من خلال تقاسم الحسنات التي تقدمها الدولة (مساعدة، إعانات، مدفوعات تفضيلية، خدمات، رشى، عمولات)، ويتشاركون نموذجاً إيديولوجياً متشدداً. وهكذا، يتشارك المتمرسون بالحرب وأعضاء من الوسط الديني الواسع بمداخيل النظام (من عائدات النفط) مع زملاء ومقاولين أثرياء وأشخاص من مؤسسات الثورة، وبالتالي يتشجعون على دعم حكومة متشددة استبعدت ملايين الإيرانيين. على ضوء كل ذلك، أثار «الكابوسُ» المتمثل بعهد آخر لنجاد حماسةً غير مسبوقة لدى المرشحين الإصلاحيين. فالشعب الإيراني (وقد رفض جزء كبير منه أن يقترع في انتخابات عام 2005) استغلّ موعد الانتخابات والصدع ضمن النخبة لتحويل استيائه إلى تعبئة علنية مدهشة، تشمل تحركات جماعية عفوية، وبناء تحالفات وتظاهرات كبيرة في الشوارع بأسلوب يشبه الكرنفال؛ فأنشأ كلّ ذلك آمالاً وتوقعات كبيرة.
وأتت نتيجة الانتخابات التي أحدثت صدمة لتحبط الآمال، فأشعرت الناس بإهانة أخلاقية عميقة غذّت بدورها حركة احتجاج لم يُرَ لها مثيل في تاريخ الجمهورية الإسلامية. وهذه الحركة، ليست صراعاً طبقياً ضد حكومة مؤيدة للفقراء ولا حرباً علمانية ضد حكم ديني، هي التي تمثل حركة ديموقراطية تلي الحقبة الإسلامية وتهدف للمطالبة بالمواطنية ضمن نظام ديني ــــ أخلاقي. فهي تعبّر عن التوق الطويل الأمد لحياة كريمة متحررة من الخوف والمراقبة الأخلاقية والفساد والحكم التعسفي. ولأنها نابعة من أهل البلاد وغير عنفية، تجسّد موجة خضراء للحياة وللحرية. انطلقت الحركة بقوة ولكنها ما لبثت أن واجهت إجراءات صارمة فرضها النظام. واحتُجزت طبقة المفكرين (الاستراتيجيون ومنظمو الحملات والكتّاب)؛ وأُسكت تقريباً الإعلام الإصلاحي؛ وعُلِّقت التواصلات الحرة. العنف والتهويل اللذان مارستهما الدولة (قُتل عشرون شخصاً على الأقل وأوقف حوالى ألف شخص آخر)، وحملة دعائية هوجاء في وسائل الإعلام التي تتحكم بها الدولة، وحرب نفسية، كلّ ذلك أدى إلى إضعاف التحركات في الشارع.
قد ينتصر النظام على المدى القصير، بيد أن أموراً كثيرة قد تغيرت إلى الأبد. فلم يعد القائد الأعلى الحَكَم الحيادي صاحب الكلمة الأخيرة؛ بل أصبح موضع نزاع. وواجه الوسط الحاكم أزمة شرعية غير مسبوقة. وتخطت المسألة التزوير الانتخابي باتجاه تحدي القدرة ذاتها التي يتمتع بها الحكم الإسلامي على تلبية رغبات مواطنيه المدركين حقوقهم. وأظهر الشعب كيف يعبّر عن رغبته عندما تسنح له الفرصة.
لن تختفي الأزمة. فمطالب الناس بالحياة والحرية، المرتبطة كلّ الارتباط بحياة الشعب اليومية، ستبقى وتنمو وتعبّر عن نفسها بأعمال يومية تمثّل تحديات فردية قبل أن تنفجر علناً ما إن تجد لها مكاناً في المجتمع أو صدعاً في الجسم الحاكم. ففي النهاية، يُرجّح أن يبقى عدد كبير من الإيرانيين غير قابل للحكم.
الحركة هي حتماً ضد القيام بثورة حالياً، ولكن الثورات لا تعلن عن قدومها مسبقاً. لا بل يتجمع النضال إلى نقطة يجد فيها المحتجون أنفسهم يمسكون بالحواجز أو يفتحون أبواب السجون، فيما يتدافع أخصامهم لعبور الحدود. ويتوقّف ذلك على ديناميات النضال وفق طرائق تصرف الأخصام. اليوم، يريد المحتجون بوضوح إصلاحاً لا ثورة. ووحده المستقبل كفيل بأن يقول ما إذا كان النظام لن يحوّل هؤلاء المصلحين إلى ثوار. فلنأمل ألا يفعل.
* أستاذ العلوم الاجتماعية والدراسات الشرق أوسطية في جامعة ليدن، في هولندا.
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)