نهلة الشهال(إلى الحزب الشيوعي اللبناني بمناسبة نقده الذاتي)



لإرسال رسالة الى المحرر، انقر هنا

يتدفّق في لبنان مال طائفي ـــــ سياسي مهول على الناس، متحوّلاً إلى منظومة حياة كاملة لها قوانينها، وتراتبيّتها، وعلاقاتها، والـ«كود» العائد لها، وكلّ ما يعرِّف المنظومات. يتنافس المال السياسي ـــــ الطائفي في ما بينه، فيُسرّ المتلقّون. يعتاش على الحرب الأهلية، وإن غير متفجرة. يستحضر وقائع تدل على وجودها، تخويفاً وثأراً، ثمّ الأهمّ، شوكاً فتصبح إمكاناً دائماً. وهذه كلها مراحل مترابطة من الحرب الأهلية، لا تقوم واحدة من دون سواها. هي مترابطة إلى حد أنك تسمع اليوم في أزقة طرابلس مثلاً، كلاماً مستفيضاً وتحليلات متنوعة عن 7 أيار 2008، وكأنه الأمس والغد معاً. وحين تبدأ النقاش، يبتسم جليسك من فرط سذاجتك، ويصف «لك الأمر» ببرود من يعلم الخبايا وأنت جاهل.
و«الأمر» هنا هو فن استدامة الحرب الأهلية الباردة. تلك هي معادلة الاقتصاد السياسي اللبناني. وهو اقتصاد ريعي مئة بالمئة، بدءاً من منشئه حتى منتهاه. مصدره الريع النفطي في المنطقة، وبالتحديد ما تتمكن من بذله بيسر السعودية وإيران. وهو يصل عبر ارتباط القوى المحلية بالمصدر، ثم يوزع على الناس عبر شبكة متشعبة لكل منها مفاتيحها، ليستقر جزء منه في جيوبهم على شكل مساعدات عينية، وأحياناً نقدية، وتسديد فواتير الاستشفاء والتعليم والكهرباء بالدرجة الأولى، ثم السكن والغرامات المختلفة... ما يُبذل من مال سياسي ـــــ طائفي كفيل بإنشاء مشاريع إنتاجية ضخمة، أو خدمية متقدمة: نتكلم على السياحة، ولبنان بات شديد التخلف لهذه الجهة، وهناك ألف مقترح للتطوير بحيث تصبح السياحة حقاً مصدراً ثابتاً للدخل. نتكلم على استناد لبنان إلى خبرة متراكمة في مجالي التعليم والصحة، بينما يبقى الكثير مما يمكن القيام به ليصبحا فعلا قطاعين محوريين في المنطقة كلها، يدرّان عوائد... وهذا يتطلّب استقراراً، ولبنان برميل بارود... ويروح يتفرع جدل على أيهما أسبق، البيضة أم الدجاجة، وعلى سلاح حزب الله، وعلى التطبيع مع إسرائيل، فلا ترى نهاية النفق. ويظهر في المنطق السائد أن الحال القائمة عال العال، أو أنها، من فرط قوتها واتساع مداها أفقياً وعمودياً قدرٌ غير قابل للتغيير، وهي على كل حال تلبي غرض إبقاء الناس على قيد الحياة، وتوفير مصالحهم الأساسية، عبر مزيج من الشحاذة والخوة (حسب الموقع والإمكانات)، فلمَ تعقيد الأمور والتعب، وما هذا الترف؟ ولا يبقى لك إلا الكلام عن أن تلك حقوق أساسية وليست مِنّة، وأن الوضع القائم يهدر كرامة الإنسان ومستقبله وقدرته على الإبداع... مما يمكن بصراحة الاستغناء عنه! ثم كيف، وعلى ماذا سيعتاش جيش الزعماء ذاك، من كل الانتماءات والطوائف، لو انتهت هذه الحال أو تقلصت. إنه الاقتصاد السياسي للحرب الأهلية الباردة المستديمة، كما هناك اقتصاد سياسي لها حين تغادر برودها، قد لا يختلف كثيراً عن هذا.
تتم استدامة الحرب الأهلية في لبنان عبر الاستقطاب الحاد بين الانتماءات المتنافرة، بدءاً من الانقسام السني ـــــ الشيعي الذي بات طاغيا، حالّاً محلّ الانقسام السالف، الإسلامي ـــــ المسيحي، وانتهاءً بانقسامات فرعية لا متناهية، تمثل صراعات بين الطوائف الأخرى، وهي كلها مهمة، إذ لديها إحساس بذاتها ومعرفة بقدرتها على التدخل في هذا التوازن الرجراج، حسماً أحيانا أو إزعاجاً يتطلب «أخذ الخاطر» أحياناً أخرى، لتنتهي بتوزّع وفق الأهواء داخل المعسكر نفسه بين زعيم وآخر، يمتاز واحدهم بمقدار «كرمه»، والثاني بصيانته المستمرة لعلاقاته مع الناس وخدمته لهم، وقوة علاقاته حيث يمكنه «الفك عن حبل المشنقة»، أو بألف سبب وسبب...
ويتطلب اشتغال «الأمر» إبقاء درجة من التوتر العنفي حاضرة. فلا بأس أحياناً من إطلاق بعض قذائف «الإنيرغا» تحت جنح الظلام فوق رؤوس البنايات بين حارات متعادية، ولا بأس إثر ذلك من حرق محل تجاري لفرد من المعسكر الآخر متى طالته اليد، ولا بأس بين الحين والآخر من حوادث أكثر جدية، يقع فيها قتيل أو اثنان. بل لا بأس من حوادث غامضة تحمل دلالات أوسع: إطلاق النار من داخل التلفريك، المعلم السياحي الرمزي، أو تبادل النار مع حاجز للجيش، ما يخرج عن باب الطوائف وحاراتها إلى الوطن كله.
يعيش اللبنانيون بالدرجة الأولى من هذا. وأما سواه، مما يمثل مداخيل جديّة متداولة، فلا يقل ريعية: عائدات تحويلات أبنائهم في الخارج التي تناقصت ولا شك مع مشكلات الاقتصاد العالمي، السياحة والخدمات الملازمة لها، ومنها الاحتيال والدعارة بأشكالهما المختلفة، لجوء بعض الأموال العربية إلى مصارف البلد بسبب الفائدة المرتفعة المعروضة، إلخ... وأما القطاعات التي يعرّفها الاقتصاد بأنها إنتاجية، وعلى رأسها الزراعة، فهي مهملة بشدة، ويبرَّر ذلك بعجز لبنان عن التنافس في هذا المجال، بحيث بات الاستهلاك المحلي نفسه مستورداً.
والأنكى هو وجود الحالة نفسها، وفق هندسات مختلفة، في معظم البلدان العربية. فهنا وهناك انفلات للنهب، وحاضنته الفساد، وشرطه تفكيك المؤسسات كلها وعلى رأسها الدولة، يقابله تسكين للمجتمع عبر خدمات إحسانية متفاوتة القوة. أنحن قاتل طواحين هواء؟