خليل صويلحمشهدان لن ينساهما من طفولته في فلسطين لحظة النكبة. الأول: جملان يحملان أمتعة العائلة ويبتعدان باتجاه الشمال. ومشهد ثانٍ للأم وهي عائدة إلى البيت لتنثر الحبوب لطيورها، ثم وهي ترفع حجراً، كانت قد خبأت تحته مصاغها. أما الأب فكان مقتنعاً بالعودة إلى أرضه بعد عشرة أيام على أبعد تقدير. «لست متأكداً من أنني عشت هذه الصور فعلاً، أو أنها مجرد أطياف متوهّمة لطفل في السادسة»، يقول فيصل درّاج متذكراً لحظة الخروج من قريته الجاعونة إلى بنت جبيل في الجنوب اللبناني. ستغادر العائلة بعد أيام في سيارة عتيقة باتجاه القنيطرة لتتوقف في قرية الجويزة. هناك ستجلس الأم كل صباح أمام عتبة البيت، تراقب حركة البشر، وعيناها ترنوان إلى ما بعد الجبال التي تفصلها عن مكانها الأول. وكانت كلما لمحت رجلاً يتجه غرباً تقول: «هذا الرجل طالع الجاعونة». لن يطول المقام بالعائلة في هذه القرية، إذ ستستقر في حيّ الأكراد في دمشق. سيتجاوز الناقد الفلسطيني حقبة الخمسينيات بكل أسرارها ـــــ «هذه الفترة امّحت من ذاكرتي تماماً، وإن كانت أطيافها تطاردني أحياناً» ـــــ ليتوقف عند دمشق الستينيات. دمشق التي علّمت اللاجئ القروي بعاداته المختلفة، كيف يقول «عفواً»، و«شكراً جزيلاً»، وأن يُفتتن بالسينما إلى حدّ العشق. في حيّ الأكراد معقل الحزب الشيوعي، سينكبّ على قراءة صحيفة «نضال الشعب»، ويقرأ عن أسماء يسمع بها لأول مرّة، مثل رئيف خوري وأنور عبد الملك ومحمود أمين العالم. انتسابه إلى قسم الفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة دمشق فتح أمامه آفاقاً واسعة، بوجود أساتذة كبار أمثال عبد الكريم اليافي وبديع الكسم. هكذا سينكبّ على قراءة لينين، وماركس، وفرويد، وباشلار، وسارتر، وساطع الحصري، وسينخرط في السجالات الساخنة التي كانت تدور في مناخ حزبي محموم بين أسوار الجامعة، من دون أن ينتسب إلى أيٍّ من الأحزاب المتصارعة حينذاك: «كنت قريباً من الشيوعيين». هذه الفضاءات المتعددة التي كانت تحتضنها دمشق، مثّلت للشاب الفلسطيني ما يسميه «رومانسية المعرفة» بوجود كمّ هائل من المجلات كـ«الهلال» و«الآداب» و«الطليعة» و«الطريق»، فتشجّع على خوض غمار الكتابة، مدفوعاً بمفاهيم المادية والنقد التجريبي.
سفره إلى فرنسا لدراسة الفلسفة في جامعة تولوز، كان نقلة في حياته: «هناك اكتشفت الفلسفة على أصولها. ثم أنجزت رسالة الماجستير عن «الاغتراب والاغتراب الديني بين ماركس وهيغل». وفي جامعة السوربون وجدت فضاءً آخر». في باريس 1969 التي كانت لا تزال تعيش تأثيرات ثورة الطلاب، أعاد تقويم تجربته، في ضوء اكتشافاته الجديدة في مدينة الأنوار بصحبة برهان غليون وداود تلحمي وفاروق مردم بك... «لم أتعلّم ما هي الفلسفة، بل تعلّمت كيف تصبح الثقافة نمط حياة». هكذا سيعيد قراءة الفلسفة على نحو آخر، ليرتطم بتيارات أخرى، وسيكون غرامشي بوصلته إلى اليسار الثقافي ممثلاً آنذاك برولان بارت، وإمبرتو إيكو، وحتى كلود شتراوس.
في بيروت السبعينيات التي حلّ فيها إثر عودته من باريس، وجد مناخاً ثقافياً حيوياً. «إذا كانت باريس قد أتاحت لي المعرفة، فبيروت علّمتني الكتابة». حماسته تجاه قضيته الأم سرعان ما تكشفت عن وهم وخيبة: «كانت القيادات الفلسطينية نموذجاً للزيف والفساد والأكاذيب. منظمات تحتقر المثقف إذا لم يحمل الكلاشنيكوف». لعل هذا ما أبعده مرغماً عن أجواء «الكفاح المسلح»، لينخرط في المشهد الثقافي اللبناني، قريباً من مثقفين حقيقيين أمثال مهدي عامل وحسين مروة وفواز طرابلسي. «هولاء علّموني كيف أنتقل من حقل الفكر النظري إلى ما هو تطبيقي... كذلك لا أنسى فضل أنيس صايغ الذي عملت معه في مركز الدراسات الفلسطينية، فقد تعلّمت منه معنى النظام والاحترام الحقيقي للوقت، وكيف يكون سلوك المثقف صورةً عنه». في بودابست التي عاش فيها ثلاث سنوات (1983ـــــ 1986)، سيهتز يقينه بالشيوعية التي خبرها عن كثب: «لم أجد ديكتاتورية البروليتاريا، بل وجدت نظاماً اعتمد مبادئ الماركسية ذريعة للاستيلاء على السلطة». هذه الخيبات لم تمنعه من الانخراط في مشاريع ثقافية تنويرية. هكذا سيلتقي في دمشق التسعينيات سعد الله ونوس، وعبد الرحمن منيف، فاتفقوا على إطلاق سلسلة «قضايا وشهادت». السلسلة التي سعت إلى استعادة أسئلة الحداثة العربية بمنظور مغاير، أُجهضت بعد فترة من انطلاقتها. «لم أجد دمشق التي خبرتها في الستينيات. لقد رحل معظم أصدقائي: غالب هلسا، وهادي العلوي، ثم سعد الله، ومنيف، فكان عليّ أن أبحث عن منفى آخر».
استقرّ درّاج في عمّان أخيراً، أو ما يسمّيه «المنفى الكامل». يعترف صاحب «ذاكرة المغلوبين» (2001)، بأنه رجل كئيب لا يجد ما يسرّه في حياته، وخصوصاً بعد فجيعته بغياب محمود درويش. «أنا شخص مخذول ومهزوم، أحاول رفض الهزيمة بالكتابة». بسبب هذا القلق يقول إنّ كل ما كتبه كان مجرد تمارين عدا «نظرية الرواية والرواية العربية»، كأنه التقط بوصلته أخيراً «عندما أقع على رواية عربية مدهشة، كأنما حققت بعض أمنياتي. الرواية اليوم هي النص العربي الوحيد القادر على رصد المعيش بغياب علم الاجتماع والتاريخ وعلم النفس، وهي من يفضح وينقض هذا المعيش المهزوم».
وحين نسأله: ألم تفكر بكتابة رواية؟ يجيب فوراً: «أنا روائي مقموع، طموحي أن أصبح ناقداً». يصمت قليلاً ثم يقول: «أفكّر في أن أكتب سيرتي الذاتية. لديّ أسرار بحجم سور الصين... قد تكون دمشق الستينيات هي العتبة الأولى لهذه السيرة». فلسطين التي تنأى في ظل التشرذم والانهيارات المتلاحقة، سبب آخر لليأس الذي يعيشه صاحب «بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية»: «لم أكن متفائلاً يوماً بالشأن الفلسطيني. فلسطين في مأزق دائم، لكنني لم أتوقع أن نصل إلى هذا الحد المأساوي. كان لدينا غضب. أما اليوم فنحن مهزومون».


5 تواريخ

1942
الولادة في قرية الجاعونة (فلسطين)

1969
دراسة الفلسفة في جامعة السوربون في باريس

1990
مشروع «قضايا وشهادات» مع سعد الله ونوس وعبد الرحمن منيف

2004
«نظرية الرواية والرواية العربية» (المركز الثقافي العربي)

2009
يُعدّ لكتاب عن محمود درويش، وآخر عن «الرواية وعلم الاجتماع»