فرحة المسافرين القادمين بزيارة لبنان أو بلقاء أحبائهم والعودة إلى ديارهم قد تمحو معاناتهم في المطار حيث لا يستخدم بعض النافذين «الصغار» صالونات الشرف، بل يرافقهم عسكريون عبر مداخل جانبية
عمر نشابة
أوّل من يراه القادم إلى لبنان عند خروجه من الطائرة هو رجل باللباس العسكري. وقد يعتقد الزوار بسذاجة أن وظيفة هذا الرجل تقتصر على حماية أمن المطار، لكنهم سرعان ما يكتشفون أن للأمنيين والعسكريين في لبنان وظائف أخرى. يلتفت الخارجون من الطائرة نحو رجل ببزة مموهة وهو يسأل: «أستاذ فلان الفلاني؟»، يكرّر رجل الأمن السؤال حتى يلقى الجواب حين يتقدم أحد المسافرين نحوه ويعرّف عن نفسه بابتسامة وهزّة رأس سريعة. «أهلاً وسهلاً أستاذ. تفضّل معي». يمشي الرجلان مع باقي القادمين في الممر الطويل الذي يؤدي إلى «كونتوارات» الأمن العام حيث يُدَقَّق بجوازات السفر. يستدعي «الأستاذ» الذي عرّف عن نفسه أنظار الجميع. يبدو مستعجلاً، غير أنه ينهمك بالتفتيش عن شيء ما في حقيبته. وبعد لحظات قليلة يخرج علبة مستطيلة يسحب منها سيكاراً طويلاً وتتسارع خطواته.
«السيدة فلان الفلانية؟» يسأل رجل أمن آخر كان أيضاً في الانتظار قرب مخرج الطائرة. تتقدّم سيدة برفقة أولادها وتبتسم. «تفضّلي معي مدام»... ويتكرّر المشهد أمام المسافرين، بينما تتكرّر إذاعة «أهلاً وسهلاً بكم في مطار رفيق الحريري الدولي» عبر مكبرات الصوت.
يستغرب البعض عدم توجه الأشخاص الذين يرافقهم عسكريون إلى صالون الشرف لكونهم من «أصحاب النفوذ». «هول مش شخصيات يا حبيبي» يشرح لـ«الأخبار» مسؤول في المطار «هول ولاد وأقارب ضباط أو مديرين عامين أو شي مستشار وزير».
معظم القادمين لا يعرفون وظيفة رجال الجمارك الذين يتصرّفون كضباط استخبارات
يطلب العسكريون المرافقون لـ«الأساتذة» منهم بتهذيب تسليمهم جوازات السفر. وبينما ينتظر عشرات القادمين في طوابير طويلة دورهم لختم الباسبور والمرور إلى قاعة وصول الأمتعة، يتوجه «الأساتذة» إلى «الكونتوارات» الجانبية المخصصة للدبلوماسيين (لا وجود لها في مطارات الدول المتقدمة). «صباحو حبيبي. كيفك اليوم». يخاطب الأمني زميله «مشّيلي هالباسبورات عالسريع». تقف في أحد الطوابير أمّ لأربعة أطفال لا تكفّ عن الهزّ لإسكات رضيعها الذي يبكي من شدّة إرهاق السفر. تسألها ابنتها التي لا يتجاوز عمرها سبع سنوات وهي تشير بإصبعها إلى أحد الكونتوارات الجانبية: «ماما ليش ما منروح من هونيك متل عمّو؟»، فتجيب الأم بغضب: «ما بعرف ماما، خلص اسكتي وامسكي إيد خيّك». يطول الانتظار، إذ إن عدد موظفي الأمن العام لا يبدو كافياً لتشغيل كل «الكونتوارات»، ويشكو بعضهم التعب بسبب ساعات العمل الطويلة وكثرة المسافرين. «يلّا عيني هات باسبورك قبل ما إغفى»، يقول أحدهم لشاب عائد إلى بلده بعد طول غياب وطول انتظار في الطابور. يتعاطف الشاب مع الموظف ويتفقان على «شو هالدولة المهترية بدها ألف سنة تتصير دولة!». ويختم الموظّف بعد ختم الباسبور قائلاً: «أهلا وسهلا خيّي».
قد لا ينتبه معظم القادمين «البيض» إلى عشرات السيدات «السُّمر» (أو «العبيد» بحسب المصطلح العنصري المعتمد لدى العديد من اللبنانيين) اللواتي ينتظرن قدوم «مستعبِديهن» إلى المطار، كأنهن بضائع تنتظر تخليص المعاملات الجمركية قبل تسليمها لأصحابها. «ناطرة معلّمها» يجيب رجل أمن عن سؤال عن إحدى السيدات التي افترشت أرض المطار بعد ساعتين من الانتظار. فالمقاعد التي خُصّصت للمنتظرين لا تستوعب عددهم الكبير. تسأل «الأخبار»: «وين باسبوراتهن؟». «هون معي أنا»، يجيب موظف الأمن العام «لما يجي الزلمي بسلّموا ياهن بحسب الأسماء اللي مسجّله البنت تحتها. يعني بحسب الكفيل». إن عدم إعادة جواز السفر لصاحبه هو انتهاك واضح للقانون وللاتفاقيات الدولية التي تعهّد لبنان احترامها، غير أن ذلك لا يبدو من اهتمامات موظفي الأمن العام في المطار: «هيدا آخر همي حبيبي، أنا بطبق الأوامر وبسّ».
قبل الوصول إلى «كونتوارات» الأمن العام يمرّ القادمون إلى لبنان أمام مراقب وزارة الصحة الذي تبدو ملامح الضجر على وجهه بوضوح. يعتمد تقنية تعريف المصابين المحتملين بأنفلونزا الخنازير عبر آلة تفحص حرارة الجسد. يفترض أحد المسافرين القادمين أن عدد المشتبه فيهم بالتقاط أنفلونزا الخنازير قد يزيد إذا راقبت وزارة الصحة المسافرين بعد مرورهم عبر كونتوارات الأمن العام، إذ إن حرارتهم ترتفع بسبب إرهاق أعصابهم وترفع ظاهرة «الأساتذة" وتكبّر النافذين على المواطنين وتيرة غضبهم.
ينتظر المسافرون القادمون وصول أمتعتهم وحقائبهم، ويتوجهون بعد ذلك إلى المخرج، غير أن رجلاً باللباس المدني يستوقفهم للتدقيق والتفتيش. معظم القادمين لا يعرفون وظيفة الرجل الذي يتصرّف كضابط استخبارات. يذكّر البعض بحقبة تولّي عناصر «الأمن والاستطلاع» السوريين التفتيش في المطار. يسأل صاحب «الهيبة» الاستخبارية: «من وين جايي؟»، وينتظر الجواب كأنه يتمتّع بخبرة واسعة بعلم النفس تمكّنه من كشف ما يثير الشكوك من خلال الاستماع إلى نبرة الكلام. يتصفّح جواز السفر بهدوء ثمّ يهزّ برأسه لإرشاد الناس إلى باب العاصمة، تماماً مثلما كان يفعل رجال الأمن السوريون على حاجز ساحة شتورة. إنه موظف مديرية الجمارك، لكن صعوبة التعرّف إليه تكمن في عدم وجود حواجز تدقيق جمركي بهيبة استخبارية في أي مطار في العالم.
يفتح الباب ويدخل القادمون إلى قاعة يحتشد فيها مئات المستقبلين. يتوجّهون بصعوبة إلى مدخل المطار حيث يخاطبهم عشرات السائقين العموميين: «تاكسي؟ تاكسي؟». تتراوح التسعيرة بين ثلاثين دولاراً وأكثر من ضعفها حسب سذاجة المسافر القادم وجهله أو مظهره الخارجي و«شطارة» السائق. يصعب إفلات الزبائن الذين لم يأتِ من يستقبلهم، إذ ليس في المكان وسائل للنقل المشترك.
يشاهد القادم فوضى أول شارع يزوره في لبنان: الشارع المواجه لمخرج المطار. كأن ذلك سيخفف من صدمة لاحقة أثناء تجواله في أرجاء البلاد. شرطي السير المرهق من الحرّ والزحمة لا يبالي بتوقّف بعض سيارات النافذين على جانبي الطريق، بينما يصرخ وتعلو صفارته بوجه آخرين يرجونه السماح لهم بالتوقف لثوان لتحميل حقائب القادمين. ولإجبار الناس على استخدام الموقف الخاص وتسديد رسومه الباهظة، زُرعت معوّقات في كل الطرقات المجاورة للمطار. وبسبب استمرار البعض بالتوقف رغم ذلك، أُضيفت سلسلة معوّقات موازية. و«أهلاً وسهلاً بكم في بيروت... مدينة عريقة... للمستقبل».


الوصول إلى باب الطائرة من دون ختم الجواز

يقف موظف في الأمن العام ببزته العسكرية على بعد أمتار قليلة من باب الطائرة. هو آخر من سيودّعه المسافرون المغادرون. يدقّق بالأوراق الثبوتية ليتأكد من أن زميله على «كونتوار» الخروج لم ينسَ أو لم يتناسَ ختم جواز السفر. وإذا كان ذلك مستغرباً للبعض، فالاحتمال الآخر الوحيد هو أن يكون المسافر قد تمكن من الوصول إلى باب الطائرة من دون أن يمرّ بـ«كونتوار» الأمن العام. «خليك واقف جنبي وبتشوف قدّيش بيمرق باسبورات مش مختومة» يجيب موظف الأمن العام عند سؤاله عن سبب إعادة التدقيق. يدعو ذلك إلى التساؤل عن الثقة التي يفترض أن تتميز بها العلاقات بين موظفي الأمن العام أنفسهم وبينهم وبين زملائهم في الأمن الداخلي والجيش في المطار. فإذا تمكّن بعض المسافرين من الوصول إلى باب الطائرة من دون ختم الجواز، فما الذي يمنعهم من الوصول إلى الطائرة من دون حيازتهم جواز سفر أو ما يعرف عنهم. وماذا لو كان من بين هؤلاء أشخاص مطلوبون للقضاء؟ «حلّ» المديرية في زيادة عدد الموظفين للتدقيق، علماً بأن الأمن العام يشكو أصلاً نقصاً فاضحاً في العديد.