ما الذي قد يدفع فتاة عشرينية إلى خوض مغامرة كسر الحصار على غزة، ومن ثم عيش يوميات العدوان عليها يوماً بيوم، على الأرض؟ لنتالي أبو شقرا، أسباب تتعلق بـ«الصديق الزين» الذي تحدث عنه الشاعر المصري صلاح جاهين، ويتنظره الفلسطينيون كل يوم
رنا حايك
بعد 7 شهور أمضتها في غزة، «المعزل العرقي»، كما تسميها، عادت الشابة اللبنانية نتالي أبو شقرا إلى بيروت حاملة في جعبتها ذكريات أليمة عن فصول الدم والقهر، وغضباً هائلاً تنوي استثماره على نحو منتج.
بعد أن ترفض احتساء كوب من النسكافيه لأن الشركة التي تنتجه تدعم إسرائيل، وبالتالي فإن كل كوب منه يساهم بقتل طفل في غزة، تسرد نتالي تجربتها.
من قرية بحمدون حيث مكان الإقامة، ومن مدرسة الشويفات الدولية حيث الدراسة، كانت حقوق الأقليات هي المدخل إلى عالم التمرد. في بحمدون «خلينا نقول إنو كان محيطي انبسط فيي أكتر لو طلعت ملكة جمال»، كما تقول، لافتة إلى أن المشكلة لم تكن أنها تعمل بالسياسة فحسب، بل أنها تعمل في سياسة «غير سياستن هن». فهناك، حين تتجاوز الفتاة سلطة الأب بمفهومها الواسع، يكتنفها الغموض، فتتحول «إما إلى رجل وإما إلى امرأة مستهترة بعيونهم». وفي بيت العائلة التي تنتمي إلى البورجوازية الصغرى، كان مستقبل الفتاة موضباً ومنمقاً بحسب أجندة الأسرة وأحلامها: «ستصبحبن دكتورة، تفتتحين عيادة وتتزوجين وتنجبين». أما في المدرسة، حيث «تعرّفت إلى جميع أشكال التمييز العنصري»، كما تقول نتالي، فقد كان الصبية يمرحون في ملعب واسع، فيما تفصل الفتيات عنهم وتتحدد إقامتهن خلال فرصة الغداء في حيز جغرافي بالكاد يسعهن، أما الأستاذ الذي تأثرت نتالي به، فقد كانت عيناه تلمعان بأسى «من هو محروم من ممارسة لائحة طويلة من الوظائف والحقوق الممنوعة عنه بصفته لاجئاً فلسطينياً». وهناك أيضاً الصديقة السورية الأصل التي كانت كلما نطقت بادرها باقي الزملاء بـ«حكيت الشقيقة».
أهالي غزة أحرار رغم الحصار وطيبتهم لامتناهية

كنا ننام على السرير ذاته حتى إذا متنا نموت سوا
تلقّف أساتذة نتالي وأصدقاؤها حماستها ودلّوها إلى الدرب، فنشطت منذ صغرها مع الجمعيات المدنية وتحديداً تلك المتعلقة بحقوق المرأة. خلال حرب تموز 2006 في لبنان، لاحظت الفتاة العشرينية، التي ألهمتها كثيراً قراءاتها عن النضال الجنوب أفريقي تحت نظام الفصل العنصري، أهمية المجتمع المدني في تكوين مجموعات ضغط. هكذا، من حملة المقاومة المدنية في لبنان، وصلت نتالي إلى حركة غزة الحرة التي نظمت أكثر من رحلة بالبحر إلى غزة لكسر الحصار، اعتلت أحد قوارب الكرامة التي أرسلتها الحركة في آب 2008 لتستغل بذلك الفرصة الذهبية التي أتيحت لها: «رمزية أن تطأ بقدميك أرض فلسطين المتخيلة وأن تعيش مع الفلسطينيين الأبطال في الداخل فترى الواقع أخيراً بعدما قرأت عنه الكثير». كان هدفها أن تقف إلى جانب الفلسطينيين، الذين لا يزالون ينتظرون أن «بعد الطوفان، نلاقي الصديق الزين، نستندوا على بعض بالكتفين» بحسب أبيات جاهين. وقد كان. فمنذ أن لاحت اليابسة، حاولت نتالي «ألا يسرقني الأدب، فكتمت فرحة الوصول الطفولية وأنا أذكر نفسي بأن أرض الأحلام والشعر هذه مخضبة بدماء أهلها. خفت أن أفشل في تقدير الواقع وشعرت بمسؤولية كبيرة». كانت خشية الصبية في غير محلّها، إذ بعد وصولها بسبعة أيام، بدأ العدوان. بعد جلسات طويلة هانئة مع «الأهالي الطيبين والأحرار رغم الحصار»، كما تصفهم، «اللي بدن يخبروا لإنو الحصار نفسي أيضاً»، والذين فتحوا لها بيوتهم ليصبح «كل بيت بيتي»، جاء وقت عمادة الدم. «كنا ننام أنا والعائلة التي استضافتني، أسوة بجميع عائلات غزة، على السرير ذاته حتى إذا متنا نموت سوا» كما تقول. بعد المشاهدات الأليمة التي أصبحت عادة وروتيناً، لم يمنعها سنها، لكونها «شو صغتورة» كما كانوا يقولون لها، من النزول إلى الأرض والتطوع إلى جانب الهلال الأحمر الفلسطيني، ولا من المشاركة، بعد انتهاء العدوان، إلى جانب جمعيات المجتمع المدني الفلسطيني «النشطة جداً»، في دعم المزارعين الذين تبعد بساتينهم أميالاً قليلة عن سياج القنص والقتل لتأهيل أراضيهم، والصيادين لاعتلاء «حسكاتهم» مجدداً وجني الرزق من بحر اعتلاؤه محفوف بخطر الموت. من 7 أيام كان مقرراً أن تقضيها الفتاة في غزة، امتدت الرحلة إلى 7 أشهر لأنها قررت البقاء لأطول فترة ممكنة «لإنو ما فينا نوقف حدّن إذا ما عشنا معن» كما تقول. تجربة كلفتها كثيراً حين قررت العودة إلى لبنان حيث احتجزت على معبر رفح، الذي تعتبره «معبر الحرية» بالنسبة للغزاويين، عقاباً لها على تضامنها كما ترى، حيث منعتها السلطات المصرية من اجتياز المعبر، من دون الإعلان عن سبب، ولم تسمح لها بذلك سوى بعد تدخل من جهات عدة من ضمنها حركة كفاية المصرية وحركة
“viva Palestine” ومكتب الناشط الإنكليزي جورج غالاوي، فيما غابت فعاليات المجتمع المدني اللبناني الذين «عاتبتهم بعد عودتي، لكنهم نائمون» كما تقول.
إلا أن ذلك لم يؤدّ إلى تلاشي إيمان الصبية بالمجتمع المدني، الذي تعوّل عليه كثيراً «فالشعوب لم تعد تنتظر شيئاً من حكوماتها، والمخرج الأمثل هو في تواصلها مباشرة وفي تكاتفها». إلا أن ناتالي تعي، رغم حماستها، أنه في الواقع يصعب أن يكون الجميع ناشطين، في مقابل ذلك، تسرد لائحة طويلة ومتنوعة من أشكال المقاومة المدنية التي يمكن لكل شاب ممارستها، وعلى رأسها المقاطعة. فرغم انتقادها الحاد لسلوك الشباب اللبناني المغيّب في جزء كبير منه، تبتلعه دوامات الشوفينية والانسلاخ عن المحيط وقضاياه، ودوامات الاستهلاك، إلا أنها لا تعتب عليه كما تقول، لكن «العتب يبدأ الآن إذا لم يبن على نقطة التحول التي تم تحقيقها خلال العدوان على غزة التي هي الشرارة التي يجب استثمارها، وخصوصاً بعدما أسقطت السياسة ما حققه الغزاويون على الأرض من انتصار للدم على الصواريخ، هي شاربفيل 1960، يجب البحث اليوم عن بديل». والبديل، يكون بالمقاطعة الاقتصادية والأكاديمية، ومن خلال إنشاء المجموعات الطلابية وتكوين حركات فعالة ضد التطبيع كما يكون بالتواصل مع الغزاويين دائماً، عبر الإنترنت مثلاً، لأنهم يتعرضون «لإبادة جماعية متواترة من الضروري أن نستمع إلى معاناتهم فيها».
إذاً هل انتهى مشوار غزة؟ على هذا السؤال تجيب: كلا إنه يبدأ بالنسبة لي، فأنا الآن في صدد تأليف كتاب عن تجربتي في غزة، ضمن سياق سياسي لا إنساني فحسب. كما أنوي متابعة نشاطي في لندن حيث سأنتقل لمتابعة دراستي في أيلول المقبل».


ثمن النضال المزيد من العمل

سافرت ناتالي إلى قبرص حيث عملت مدرّسة لغة إنكليزية لجمع المال اللازم لرحلتها. وفي غزة، علّمت الإنكليزية أيضاً من خلال تناول الموضوع العزيز عليها: النضال الجنوب أفريقي ضد نظام الفصل العنصري، في جامعة الأقصى. هناك، ألهمها كثيراً زميلها، حيدر عيد، الذي عاد ليقيم في غزة رغم أنه حاز الجنسية الجنوب أفريقية