أعطى إطلاق سراح الضباط الأربعة دفعة من المصداقية للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان. فقد رأى بعض المدافعين عن المحكمة في إطلاق سراح الضباط دليلاً على ابتعادها عن التسييس، فيما لا يزال فريق آخر يشكّك باستقلالية المحكمة. فهل يمكن القيام بتقويم معقول لمدى استقلالية المحكمة وفعاليتها وما يمكن توقعه منها؟
داود خير اللّه *
القوى التي عملت والإجراءات التي اعتُمدت في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما سبقها من تحقيق جرى بإمرة «المجتمع الدولي» تؤكد جميعها أن الدوافع والأهداف وراء إنشاء المحكمة هي سياسية بامتياز. الإسهاب في إقامة الدليل على أن الهدف الأساس من إنشاء المحكمة هو سياسي ليس المراد في هذه العجالة. لكن على مَن يشك في أن المحكمة قامت بدوافع ولأهداف سياسية وليس بلوغ العدالة، أن يمعن النظر في ما يأتي:
1ــــ الاتهامات والأحكام المسبقة التي كان يطلقها مسؤولون رسميون، وخاصة في الدول التي كان لها الباع الأطول في إقامة لجنة التحقيق أولاً، ومن ثم المحكمة الدولية، بحق أطراف معيّنة منذ اللحظة الأولى لاغتيال الرئيس الحريري وقبل إجراء أي تحقيق أو الحصول على أية أدلة.
2ــــ التجاوزات الهادفة التي ارتكبتها لجنة التحقيق الدولية، برئاسة ديتليف ميليس، بما في ذلك مخالفة معظم أصول التحقيق الجنائي، إنْ لجهة انتهاك مبدأ سرية التحقيق أو لجهة بلوغ استنتاجات قطعية في أول تقاريرها دون الاستناد لأية أدلة مقبولة قانونياً، وكذلك اتخاذ إجراءات لا مبرر قانونياً لها مثل اعتقال الضباط المسؤولين عن الوضع الأمني في لبنان.
3ــــ لأول مرة يقيم مجلس الأمن محكمة دولية هدفها محاكمة المسؤولين عن جريمة لا تعريف ولا عقوبة لها في القانون الدولي، ويطبّق بشأنها القانون الوطني حصراً (في وضعنا القانون اللبناني) ويتجاهل مجلس الأمن مجرد التحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، التي هي في صلب القانون الجنائي الدولي ومبرر إقامة كل المحاكم الدولية التي سبقت المحكمة الخاصة بلبنان، وقد ارتكبت إسرائيل هذه الجرائم بحق لبنانيين في فترة تلت اغتيال الرئيس الحريري وسبقت إنشاء المحكمة، أي في عام 2006.
4ــــ لأول مرة، ومن المستبعد جداً أن تتكرر، يلجأ مجلس الأمن إلى الفصل السابع من الميثاق الأممي لإنشاء محكمة أساسها القانوني اتفاقية لم تستوفِ الشروط الدستورية لإبرامها، إن لجانب الجهة الصالحة للتفاوض بشأنها، أو لجهة الموافقة عليها من جانب السلطة التشريعية للدولة التي هي الطرف الأساسي في هذه الاتفاقية. ولأول مرة ينشئ مجلس الأمن محكمة دولية بموجب الفصل السابع لا تنظر بجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية التي كان يعتبرها مجلس الأمن المبرر الوحيد لإقامة محاكم جنائية دولية بموجب الفصل السابع.
5ــــ ولأول مرة يقيم مجلس الأمن محكمة دولية بموجب الفصل

مقال دير شبيغل إشارة خطيرة لما يمكن أن تأتي به الأيام على يد المحكمة الدولية
السابع من الميثاق الأممي لا تموّل من الموازنة العامة للأمم المتحدة، بل تتولى تمويلها دول متطوعة، بالإضافة إلى لبنان، مما يطرح علامات استفهام إضافية بشأن استقلالية المحكمة وديمومتها.
ما جاء ذكره هو غيض من فيض، لكنّه يحرّم على العاقل التصوّر أنّ بلوغ العدالة هو هدف جهود الدول صاحبة القرار في مجلس الأمن بالنسبة لكل الإجراءات القضائية التي اتخذت بشأن اغتيال الرئيس الحريري وجميع الذين سقطوا بعده، وكانت أصابع الاتهام تمتد إلى الأطراف نفسها المتهمة باغتيال الرئيس الحريري.
حتى اليوم لم يظهر أن الإجراءات التي اتخذت قد أتت ثمارها بالنسبة للكشف عن المسؤولين عن اغتيال الرئيس الحريري. إن كل ما يمكن تسجيله لمصلحة المحكمة حتى الآن هو أنها وضعت حداً للظلم الذي أوقعه رئيس لجنة التحقيق الدولية الأول، ديتليف ميليس، وذلك بإطلاقها سراح الضباط الأربعة، وإنْ كان لذلك أثره على صورة القضاء اللبناني لجهة النزاهة والكفاءة والاستقلال عن السلطة التنفيذية.
بقطع النظر عن النوايا الحسنة، وخاصة من قبل ذوي الضحايا، في معرفة المسؤولين عن اغتيال الرئيس الحريري والذين سقطوا بعده، فالقرائن والأدلّة على أن معظم الإجراءات الدولية التي اتخذت على أثر اغتيال الرئيس الحريري كانت بدوافع ولأغراض سياسية يصعب دحضها. ولكن من المعقول، وهذا المرجو، أن تتوافر في أعضاء المحكمة الدولية، وخاصة المدعي العام وقاضي المرحلة التمهيدية، النزاهة والاستقلال المعنوي والكفاءة لتعطيل أهداف التسييس. وأخصّ المدعي العام وقاضي مرحلة ما قبل المحاكمة بالذكر لأنهما الطرفان اللذان يسيطران على مرحلة التحقيق وجمع الأدلة والأمر بالتوقيف وإخلاء السبيل ويعملان في حمى مبدأ السرية دون رقيب أو حسيب. فإذا كان لتسخير الإجراءات القضائية لبلوغ أهداف سياسية أن ينجح، فهما الوسيلة، لأن علنية المحاكمة وما تفرضه من ضمانات لتحقيق العدالة تحد كثيراً من إمكان تجاوز تلك الضمانات، ولأن الفساد ينمو في الظلام.
ما الذي يمكن توقعه من المحكمة الدولية الخاصة بلبنان في ضوء ما تقدم؟
الجهود التي بذلتها قوى دولية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، بهدف إقامة إجراءات قضائية على الصعيد الدولي للبحث عن ومعاقبة قَتَلَة الرئيس الحريري لا سابق لها وتدل على الأهمية التي تنيطها هذه القوى بعملية الاغتيال وآثارها على مصالح سياسية لها. فلم يسبق أن حَظيَ اغتيال شخصية سياسية، مهما علا شأنها، بالاهتمام الدولي الذي لقيه اغتيال الحريري. فاغتيال رئيسة وزراء باكستان مثلاً، بنازير بوتو، التي لا تقلّ شهرة عن الرئيس الحريري، والتي اغتيلت في ظروف مشابهة، لم يلق اهتمام مجلس الأمن ولا الدول صاحبة القرار في توجهاته. مهما كان الرأي باستقلالية القضاء الدولي ونزاهته وتجرده، وخاصة في ما يتعلق بالمحاكم الدولية التي تقام خصيصاً للنظر في جرائم معيّنة، مهمّ ألا يصرف النظر عن الأسباب الفعلية التي دفعت بعض القوى إلى بذل جهود غير مألوفة دولياً لإقامة محكمة فريدة من نوعها في أساسها القانوني واختصاصها وظروف نشأتها.
خارج إطار المحكمة، لا أحد يعلم، أو يفترض به أن يكون على اطّلاع على مجريات التحقيق أو أن تكون لديه أدلة للظن بأي طرف أو تبرئته؛ الأمل أن تكون العدالة هي الهدف الوحيد للعاملين في المحكمة، وأن تكون الكفاءة والنزاهة وسيلتهم إليها بصرف النظر عمّن قد يظهره التحقيق فاعلاً أو محرّضاً أو متآمراً في عملية اغتيال الرئيس الحريري وجميع الذين سقطوا بعده.
لكن المراقب للتطورات التي تلت اغتيال الرئيس الحريري، لا بد أن يستذكر ما يلي:
منذ اللحظة الأولى لاغتيال الرئيس الحريري، امتدت أصابع الاتهام باتجاه سوريا والمتعاونين معها في الداخل اللبناني. وانطلقت ألسنة الرسميين في بعض الدول، بدءاً بواشنطن وباريس، وكذلك لجنة تقصّي الحقائق وبعدها لجنة التحقيق الدولية، برئاسة ديتليف ميليس الذي جزم في أول تقرير له، وكان التحقيق لا يزال في أولى مراحله، بأن الجريمة ارتُكبت بعلم وتسهيل من المسؤولين السوريين، وقد أمر باعتقال أربعة من كبار الضباط اللبنانيين بحجة أنهم كانوا ضالعين في خطة الاغتيال هذه. وقد تبيّن في ما بعد أن أسباب اعتقالهم ملفّقة فأخلت المحكمة سبيلهم في أول عمل قامت به فور بدئها ممارسة مهماتها.
لجنة التحقيق الدولية التي عملت ما يقارب الأربع سنوات، وقد توالى على رئاستها ثلاثة قضاة دوليين، وباستثناء التقرير الأول الصادر عن ديتليس ميليس، الذي خالف معظم قواعد التحقيق وارتكب أخطاءً جساماً جعلته موضوع ملاحقة قضائية في باريس من جانب أحد ضحاياه، لم يصدر عنها أي تقرير يشير إلى ضلوع سوريا، أو أي طرف آخر، في عملية اغتيال الرئيس الحريري أو أي من الاغتيالات التي تلت. إلا أن ذلك لم يحدّ من نشاط الماكينات الإعلامية من اختيار الجهات المسؤولة وتأليب الرأي العام عليها. ذكرت كذلك بعض وسائل الإعلام أن حركات أصولية قد تكون وراء اغتيال الرئيس الحريري، وذلك بناءً على بعض عبارات وردت في تقارير لاحقة للجنة التحقيق الدولية. وجاءت تلميحات على ألسنة بعض السياسيين الذين لا يكنّون مودة لحزب الله بأنه قد لا يكون بعيداً عن عمليات الاغتيال، إلى أن جاء المقال الشهير في المجلة الألمانية، دير شبيغل، يزعم أن لدى دائرة التحقيق في المحكمة الدولية أدلّة على ضلوع حزب الله في عملية اغتيال الرئيس الحريري. ردود الفعل داخل لبنان على المقال المذكور، بصورة عامة، امتازت بالحكمة. فقد أدرك معظم المسؤولين الغاية من هذا المقال. فرأى البعض أن التوقيت يشي بأن الهدف هو التأثير في مجرى الانتخابات النيابية، وأدرك آخرون أن الغاية هي الفتنة المذهبية وإشعال حرب أهلية، وخاصة أن كبار المسؤولين الإسرائيليين سارعوا إلى تبني مزاعم المجلة الألمانية واستغلالها إلى أقصى الحدود.
متوقع أن تخبو آثار مقال صحافي مليء بالمغالطات يعرض مزاعم لا دليل عليها في أي من التقارير أو التصاريح التي صدرت عن المحكمة الدولية أو لجنة التحقيق التي سبقتها. لكن مقال دير شبيغل إشارة خطيرة لما يمكن أن تأتي به الأيام على يد المحكمة الدولية إذا كانت الدول الخارجية التي هي وراء إنشائها لا تزال تعتقد أن المحكمة قابلة للتوظيف لبلوغ أهداف سياسية. والظاهر من الاهتمام الإسرائيلي بنتائج التحقيق لهذه المحكمة وبالتحديد ما يتعلق بتوريط حزب الله في اغتيال الرئيس الحريري، إضافة إلى الدور الذي لعبه جون بولتون وسواه من أصدقاء الدولة الصهيونية في إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، كل ذلك يدفع إلى الحذر الشديد ممّا يمكن أن يصدر عن المحكمة الدولية إذا لم ينجح المسؤولون فيها في تحصينها ضد التوظيف لمآرب سياسية. فما هي هذه المآرب وما هي أبعادها وخلفياتها؟
الجهود الدولية التي بذلت في إقامة الإجراءات القضائية التي تلت اغتيال الرئيس الحريري، بما فيها إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان، جهود غير مألوفة في الإطار الدولي، وخاصة من الدول العظمى وفي طليعتها الولايات المتحدة. إن استصدار الدول المقتدرة قرارات من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لا يفسّر بحجة التوقع للعدالة أو الرغبة في الاقتصاص من الجاني أو الراعي لجريمة قتل مهما علا شأن الضحية. فليس هناك سابقة بهذا الشأن. الجهود تلك لا يبرّرها سوى مصلحة عليا غالباً ما تكون في نطاق الأمن القومي للدول المقتدرة. فإذا كان هذا المنطق مقبولاً، فعلينا إذاً أن نحاول إلقاء الضوء على الدوافع الحقيقية وراء جهود الدول التي بدونها لا يمكن استصدار قرارات من مجلس الأمن ولا يمكن للمحكمة الدولية أن ترى النور.
القضية الأساس للتحرك الدولي، والمبرر الظاهر لكل الإجراءات التي اتخذت، هي اغتيال رئيس سابق لمجلس وزراء لبنان. فلا شك بأن الدول التي بذلت الجهد الأكبر لاستصدار قرارات مجلس الأمن في كل ما يتعلق بالإجراءات القانونية التي تلت الاغتيال، وفي طليعتها الإدارة الأميركية في حينه، كانت ترى أن لها مصلحة استراتيجية في اتخاذ هذه الإجراءات. ومن الطبيعي أن العديد من الدول الأعضاء في مجلس الأمن لم تر لها مصلحة جدية في مقاومة مشيئة الدول صاحبة النفوذ الأكبر في مجلس الأمن، فسهّل استصدار القرارات اللازمة من المنظمة الدوليةالهدف الظاهر للولايات المتحدة كان إخراج السوريين من لبنان، وربما الضغط على الحكم في دمشق لتغيير توجهاته ومواقفه من الحرب على العراق، فكان اغتيال الرئيس الحريري الظرف الملائم لتحقيق هذا الهدف. هنا يمكن للّذي باستطاعته إقناع نفسه، القبول بالتصوّر الذي شاع إعلامياً ولدى بعض الشخصيات السياسية، بأن النظام السوري، لقصر في النظر ربما، قد مكّن الدول التي ترغب في إخراج السوريّين من لبنان من بلوغ هدفها، وذلك من خلال رعايته عمليّة اغتيال الرئيس الحريري.
وقد ذهب البعض إلى أبعد من ذلك، فشيّع أن السوريين هم وراء جميع الاغتيالات التي تلت اغتيال الحريري، وإن كان معظمها قد وقع في ظروف كان من الواضح أن الضرر الأكبر من هذه الاغتيالات سوف يلحق بسوريا، وكأن المسؤولين السوريين كانوا يرغبون في تمكين الدول المستهدفة لسوريا بلوغ جميع أهدافها.
إذا جاز التصوّر أن مسؤولين سوريين يمكن أن يكونوا وراء اغتيال الرئيس الحريري وجميع الذين سقطوا بعده بالرغم من أن سوريا كانت أكثر المتضررين من هذه الاغتيالات، فهل يجوز استبعاد أن أطرافاً خارجية أخرى لها مصلحة أكيدة ومعلنة في إخراج السوريينمن لبنان، والحدّ من فعالية تأييد سوريا لحركات المقاومة في المنطقة، قد تكون وراء اغتيال الرئيس الحريري، وبالأخص اغتيال الذين سقطوا بعده في جوّ كان يزيد في إنجاح عملية التأليب على سوريا وتعميق الشرخ بين اللبنانيين. إخلاء سبيل الضباط الأربعة الذين ارتبط اعتقالهم بمزاعم أنهم كانوا جزءاً من مخطط الاغتيال الذي رعته سوريا يسهّل الذهاب في هذا المنحى من التفكير، خاصة وقد تبيّن للمحكمة الدولية أن هذه المزاعم لا تستند إلى دليل.
حتى عام 2004 كان الوجود السوري في لبنان يحظى بتأييد الولايات المتحدة، وكان يصفه بعض مسؤوليها بأنه عامل استقرار في لبنان. ولعلّ الانسحاب الإسرائيلي من لبنان عام 2000 كان يصحبه اعتقاد أو أمل لدى القادة الإسرائيليين بأن حزب الله كحركة مقاومة سوف يزول بزوال الاحتلال الإسرائيلي. ولكن بعد الإدراك بأنه باقٍ، وبفعالية، وهو يلعب دوراً هامّاً في مساعدة الدولة على بسط سيادتها على الأرض والمياه والأجواء اللبنانية، وهو عامل أساسي في تنمية ثقافة المقاومة وانتشارها، وكان له تأثير في قيام الانتفاضة الفلسطينية الثانية، أصبح القضاء على حزب الله هدفاً استراتيجياً ملحّاً بالنسبة لإسرائيل.
حاولت إسرائيل عن طريق أصدقاء لها في الولايات المتحدة إغراء سوريا في المساعدة على إنهاء الوجود العسكري لحزب الله في لبنان. فقدّم، على سبيل المثال، توم لانتوس، وقد شغل منصب رئيس لجنة العلاقات الخارجية في الكونغرس الأميركي وكان من أقرب المقرّبين لإسرائيل، تعهّداً للسفير السوري في واشنطن، الدكتور عماد مصطفى، بأنه يضمن لسوريا بقاءً دائماً في لبنان مقابل المساعدة في إنهاء الوجود المسلح لحزب الله. فلمّا لم يلقَ العرض الصهيوني ـــــ الأميركي استجابة لدى السوريين، أصبح لا بد من وضع خطة مستقلة متكاملة للقضاء على مَن اعتبره الرئيس الإسرائيلي، شيمون بيريز، يمثّل خطراً وجودياً على إسرائيل.
من الطبيعي أن تستهدف هذه الخطة إضعاف حزب الله، عن طريق عزله وتجريده من داعميه ومؤيديه، وخلق مناخ عدائي له في الداخل اللبناني وفي الخارج. فكان قرار مجلس الأمن الرقم 1559 في أيلول 2004. وبالرغم من أن التجاوزات والأخطاء التي ارتكبها مسؤولون سوريون قد هيّأت القسم الأكبر من اللبنانيين للمطالبة بالخروج السوري من لبنان، إلا أن القرار 1559 لم يكن بذاته يضمن الخروج السوري السريع من لبنان، فكان لا بد من حدث يكون بمثابة زلزال سياسي يحتّم ويعجّل في إنهاء الوصاية السورية ويخلق شرخاً مذهبياً يسهل استغلاله في إضعاف حزب الله داخلياً، فكان اغتيال الرئيس الحريري.
ولإعطاء مصداقية للاتهامات والادعاءات السياسية، بدءاً بما كان يصدر عن البيت الأبيض، وكذلك للحملة الإعلامية التي تشيع بأن سوريا هي وراء اغتيال الرئيس الحريري، ومن أجل إخلاء الساحة الأمنية لتسهيل عمل الاستخبارات الخارجية، كان لا بد من إيجاد هيئة قضائية دولية لاختلاق تهمة تورّط كبار الضباط المسؤولين عن الأمن في لبنان كجزء من المؤامرة السورية لاغتيال الحريري. فتكتسب كذلك عملية تلفيق التهم وجهاً شرعياً، إذ يصبح الاتهام قراراً للعدالة الدولية لا مجرد ادّعاء أطراف ذات مصالح خاصة. وهكذا كان.
أمّا الرئيس لحود الذي لم ينجح القرار 1559 في منع تمديد مدة رئاسته، فقد عزله رُعاة القرار 1559 وممثلو الأمم المتحدة للتفاوض بشأن الاتفاقية المنشِئة للمحكمة الدولية، ولو أدى ذلك إلى مخالفة الدستور اللبناني في ما يتعلق بإبرام الاتفاقيات الدولية وبالتالي التشكيك في قانونية المحكمة.
فإذا اعتبرنا أن ما يقوله المسؤولون الإسرائيليون عن حزب الله بأنه يمثّل خطراً وجودياً على إسرائيل جدي، فلا شك بأن إسرائيل سوف تفعل المستطاع مباشرة ومن خلال الأصدقاء وحلفاء لها للقضاء على هذا الهاجس الوجودي.
ففي ضوء الأهمية التي توليها إسرائيل للقضاء على حزب الله، وبالنظر للجهود غير المألوفة التي بُذلت في إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وما سبقها من أحداث وإجراءات على المستوى الدولي، وأخذاً في الاعتبار النفوذ الذي كان يتمتع به أصحاب القرار من أصدقاء الدولة العبرية في إدارة الرئيس بوش في ما يتعلق بالسياسة الأميركية في الشرق الأوسط، فهل يجوز استبعاد أن تكون إسرائيل وحلفاء لها وراء اغتيال الرئيس الحريري، وخاصة مَن كان لسقوطهم بعده أثر هامّ في تعميق الشرخ في الداخل اللبناني واستعداءَ شريحة كبرى من اللبنانيين لحزب الله؟
رُبَّ قائل إن ما سبق لا يعدو كونه فرضية قوامها قرائن ودوافع ولا تستند إلى أدلّة حسيّة وبالتالي لا يجوز الاطمئنان إليها قبل أن تكمل المحكمة الدولية عملها. أجيب: هذا صحيح، لا بل المرجوّ أن تقدم المحكمة الدولية في الشهور المقبلة أهم الأدلّة وأكثرها دعماً أو نفياً لهذه الفرضية. فالمحكمة ورثت عن لجنة التحقيق الدولية ليس فقط التحقيق بجريمة اغتيال الرئيس الحريري، بل كذلك اغتيال، أو محاولة اغتيال، عدد كبير من الشخصيات السياسية والإعلامية. وبالرغم من أن الدوافع وراء عمليات الاغتيال والإفادة من نتائجها تعزز احتمال أن تكون إسرائيل وراء هذه الاغتيالات، ناهيك بالشبكات التي تعمل لمصلحة إسرائيل والتي قُبض على البعض منها، فما هي احتمالات أن تقوم المحكمة الدولية بنشاط جدي في هذا المجال وأن يسمح لها الاستمرار في عملها إذا فعلت؟ وهل ستبذل المحكمة الجهود التي يتوقعها اللبنانيون بالنسبة للكشف عن قَتَلَة سمير قصير وجورج حاوي وجبران التويني وسواهم من الذين سقطوا بعد اغتيال الرئيس الحريري؟ هذا ما ستظهره الأواتي من الأيام.
هذا لا يعني إطلاقاً إخراج أي طرف من دائرة الشبهة إذا كانت الأدلّة المقبولة قانونياً تبرّر ذلك. فلا إدانة ولا تبرئة لمتهم إلا نتيجة لمحاكمة عادلة. ولكن مجرى العدالة الدولية، والتجاوزات التي ارتُكبت خلال التحقيق من جانب لجنة التحقيق الدولية، بما فيها الاعتقال الكيفي، منذ اغتيال الرئيس الحريري وحتى اليوم، تبرّر التنبّه والحذر.

الهدف الظاهر كان إخراج السوريين من لبنان، وربما الضغط على دمشق لتغيير توجهاتها في العراق
المستقبل القريب سوف يظهر مدى المهنية والاستقلال المعنوي والحكمة التي يتمتع بها أعضاء المحكمة الدولية. وبالرغم من الميل للترجيح بأن تسخير العدالة الدولية والإساءة إلى سمعتها، كما حصل من الرئيس الأول للجنة التحقيق الدولية، لن يتكرر، وقد يكون جميع قضاة المحكمة الخاصة بلبنان على درجة عالية من النزاهة والاستقلال المعنوي وهم يسيطرون بفعالية على عمليات التحقيق ومَن يتولاها من موظفين، ولكن بالنظر للأساليب الملتوية وربما غير القانونية التي رافقت نشأة المحكمة وكذلك الإجراءات القضائية التي سبقتها، بما في ذلك الاعتقال الكيفي الذي تعرّض له الضباط الأمنيون، فمن غير المتوقع أن يرضخ أي طرف قادر يشك في نزاهة قرارات المحكمة واستقلاليتها بالدعوة للاستجواب خارج محيطه ودون الضمانات المطمئنة. وقد لا تعكس طلبات الاستجواب سلوكاً يفتقر إلى المهنية أو النزاهة من صاحبها. فعملية اختلاق الأدلّة يمكن أن يكون مصدرها استخبارات دولة معيّنة أو أطرافاً لها مصلحة في توجيه التحقيق باتجاهات لها أبعاد سياسية في الداخل اللبناني. وقد يوضع المدعي العام لدى المحكمة أو قاضي المرحلة التمهيدية في موضع المضطر للتثبّت من صحة الادعاءات والدلائل التي تصل إلى قلم المحكمة وملفاتها. ويزيد من هذه الاحتمالات أن القواعد الإجرائية وجمع البيّنات التي تطبّق في كل مراحل التحقيق والمحاكمة، لدى المحكمة الخاصة بلبنان، تعطي لمقدم المعلومات، من دول وهيئات، الحق في إلزام المحكمة عدم الإفصاح عن مصدر المعلومات لأسباب يعتبرها صاحب الشأن ماسّة بأمنه القومي. فيبقى مطلق التهمة وصانع الدليل خارج الضوء.
فلو فرضنا جدلاً أن المحكمة الدولية وجدت نفسها في موضع مَن لعمله أثر في تعميق الشرخ وتأجيج الشحن المذهبي في الداخل اللبناني، وهذا أمر غير مستبعد، فكيف سيكون سلوكها يا ترى؟ وكيف، وبأيّة ظروف، سوف تعمد المحكمة إلى الضغط على السلطات اللبنانية لتنفيذ مذكرة التفاهم بين لبنان والمحكمة الدولية التي وقّعت في 5 حزيران 2009 لجهة توقيف أي فرد تطلبه المحكمة وتسليمه؟ وإلى أي مدى سوف يلتزم القضاة المسؤولون لدى المحكمة بمبدأ سرية التحقيق حتى نهايته وحتى صدور قرارها بالاتهام وبدء مرحلة المحاكمة العلنية؟
خلافاً للمألوف لدى محاكم الجنايات الدولية التي سبقتها، فإن للمحكمة الخاصة بلبنان أن تحاكم المتهم غيابياً إذا لم تتمكن أو لم تحصل على التعاون اللازم لتوقيف المتهم. فهل تلجأ المحكمة إلى ذلك إذا توافرت لها الأدلّة على اتهامات جدية، أم أنها ستعمد إلى إجراءات من شأنها إبقاء المتهم في دائرة الشك وأن تجرّ مجتمعاً مأزوماً ممزّقاً إلى حافة الحرب الأهلية بحجة ضرورة استكمال التحقيق في هولندا مثلاً قبل اتخاذ قرار بالاتهام أو إسقاط التهم، وبذلك تحقق الهدف من بذل جهد غير مسبوق في إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان؟ الإجابة عن هذه الأسئلة هي ما يجب أن يتوقعه اللبنانيون من المحكمة الدولية.
الأمل كل الأمل أن يكون عمل المحكمة في إطار من النزاهة والحكمة والتجرّد. ولكن مأساة المآسي أن تختفي الحقيقة وراء المشيئة القادرة لقاتل الرئيس الحريري، وذلك بإقامة محكمة تحاكم عدوّاً بريئاً، اختاره هو، عن جريمة هو مرتكبها. وسخرية القدر أن يكون الحليف الرئيس في إنجاح خطّة الجاني غفلة لبنانية ترضعها ثقافة طائفية عمياء.

* أستاذ محاضر في القانون الدولي بجامعة جورجتاون في واشنطن