Strong>بيار أبي صعباللحية البيضاء أسبغت عليه هيبة إضافيّة. ومثلها التعب الذي يتسرّب من التماعة العينين والمشية المنحنية المتباطئة. لكنّ المسحة الرسوليّة نفسها كانت على وجهه، قبل ثلاثين سنة. حين التقينا روجيه عسّاف في قلب الحرب الأهليّة، كان يشعّ بجاذبيّة خفيّة... فتبعناه.
إنّه إنسان معنيّ بالشأن العام، بعد ذلك يأتي الفنّ الذي يعتبر اليوم من أبرز معلّميه. تسأله عن موسوعته المسرحيّة التي يوقّع غداً جزءها الثاني... فيتحدّث عن الفنّانين الشباب الذين سيقتحمون الطيّونة، بدعوة من تعاونيّة «شمس». شاغله الأساسي هو أن يستعيد المهمّشون وسائل التعبير من السلطة. في «دوّار الشمس»، جمع شبّاناً وشابات من كل المناطق والطوائف والشرائح، كي يخترعوا وطناً بديلاً. كل ذلك رفد مشروعه القائم على السرد، والاحتفاليّة، والعمل الجماعي، وإشراك الجمهور، والغَرْف من الذاكرة الجمعيّة.
في الخمسينيات، لفت الطفل الموهوب الذي يحبّ الأضواء، أنظار أساتذته في «الفرير». كلّما صفّق له الجمهور في المناسبات المدرسيّة، كان يشعر «بمتعة قويّة...». راح يعطي دروساً خصوصيّة، ليشتري بالفلوس مسرحيّات «كلاسيك لاروس». واصل التمثيل، بحثاً عن مزيد من المتعة. دخول كليّة الطبّ، مع اندلاع ثورة الـ ١٩٥٨، لم يمنعه من مواصلة هوايته بالفرنسيّة طبعاً. لكن انشغالاته الحقيقية كانت في العمل الاجتماعي والسياسي من خلال «الشبيبة الطالبية المسيحيّة».
يتذكّر روجيه: «عندها بدأ كلّ شيء في بيروت: المسرح والتلفزيون والمركز الجامعي للدراسات المسرحيّة». وفي ١٩٦٣، جاء هوبير جينيو إلى «مهرجانات بعلبك» بمسرحية لكورناي: «لأوّل مرّة التقيت مخرجاً يعيد قراءة النصّ: «أوراس» صار شخصيّة فاشيّة متعصّبة. أصابني العمل بالذهول». المسرحي الذي كان مقاوماً للنازيّة، أعجب بالممثّل الشاب، وعرض عليه أن يلتحق بـ«معهد ستراسبور» الذي يديره في فرنسا. لم يتردّد روجيه، ضارباً عرض الحائط بسنوات الدراسة الأربع في معهد الطبّ. يؤكّد أنّه لم يجد نفسه يوماً أمام أزمة مصيريّة: «المصادفة لعبت دوراً مهمّاً في حياتي». عاد من ستراسبور في ١٩٦٥ قبل التخرّج، بسبب مرض والده. وصل في الوقت المناسب ليشارك مع غابرييل بستاني في «عودة أدونيس» التي دشّنت «مسرح بيروت».
مثّل مع جلال خوري (أرتورو أوّي) وشكيب خوري (غودو) والرحابنة (فخر الدين)، قبل أن يجرّب الإخراج. طبّق أمثولة جينيو، جاعلاً من رودريغ، بطل كورناي الشهير، ضحيّة السلطة البطريركيّة. أما مسرحيّة لوبي دي فيغا Fuenteovejuna فاعتبرها ناقد «لوريان لوجور» عملاً «شيوعيّاً هدّاماً». هنا جاءت النكسة لتشكّل منعطفاً مهمّاً في حياته. كان اللقاء مع نضال الأشقر، وتأسيس «محترف بيروت للمسرح» والانخراط في المعارك القوميّة والاجتماعيّة. أخيراً التقت مشاغله الفنيّة والسياسيّة. بات يتقن العربيّة ولا يمثّل إلا بها. في قلب الحرب الأهليّة لاحقاً، بُعيد تأسيس «مسرح الحكواتي» سيلتقي الإسلام بالطريقة نفسها. الفنّان «الطليعي» الفرنكوفوني، بات مثقفاً «عضويّاً» منخرطاً في واقعه العربي.
تجربة المحترف غيّرت نظرته إلى العرض. مع رضا كبريت، أعاد خلق «مفتّش» غوغول، بعد ارتجالات ونقاشات: «اكتشفنا أشكالاً أخرى. النظريّة كانت دائماً تأتي بعد التجربة». قبل «مجدلون» (٦٨)، سافر سرّاً إلى أحد مخيّمات الفدائيين في الأردن ليعانق موضوعه. وباستثناء «إضراب الحراميّة» التي كتبها أسامة العارف (٧١)، أخذ أعضاء الفرقة يحدّدون بنية أوليّة للعمل، ثم يعهدون إلى كاتب بوضع النصّ، ليصار إلى إعادة تشكيله في البروفة... بعد «إزار» (٧٢) احتدمت الخلافات الشخصيّة والفكريّة بين روجيه ونضال، فكانت نهاية التجربة.
انتقل إلى تحقيق حلمه بمسرح شعبي مع شوشو، فأخرج له «آخ يا بلدنا» (٧٣). لكن الاستابليشمنت السياسي لم يحتمل حدّة النقد ومباشرته في «خيمة كركوز» (٧٤)، فحذف الكوميدي بعض المشاهد. تركه عسّاف ليمضي، متأثراً بأفكار روجيه نبعة، إلى مزيد من الراديكاليّة. توجّه إلى القرى الجنوبيّة ومخيّمات اللاجئين، وترك للناس أن يعبّروا عن قضاياهم من خلال الفرجة.
هكذا برزت تجارب عدّة ـــــ أبرزها «عيناتا» ـــــ لترفد منذ عام ١٩٧٨ أعمال فرقة «الحكواتي» التي تشكّل ذروة في مسيرته. تحلّق حول روجيه آنذاك شركاء مثل حنان الحاج علي التي ستصبح رفيقة دربه، ورفيق علي أحمد، وبطرس روحانا وأحمد زعزع. «بالعبر والإبر» كانت تجربة انتقاليّة، لكن «من حكايات ٣٦» كانت نقلة نوعيّة. وترافقت مع «بيان الحكواتي» (٧٩) الذي يدعو إلى «تغيير نوعية العلاقة مع الإنتاج المسرحي، ومع الجمهور».
أنضج المحطّات هي «أيّام الخيام» التي استبقت الاجتياح الإسرائيلي الثاني (٨٢). ثم جاء فيلم «معركة» (٨٥)، وتجارب عابرة مع أحمد الزين («عصافير» أريسطوفان) وآخرين. بعد انتهاء الحرب، صمت روجيه طويلاً، بحثاً عن نقاط ارتكاز جديدة. أخرج «الجرس» لرفيق علي أحمد الذي سيسلك طريقه (المونو دراميّة) الخاصة. «ربيع مروّة وإلياس خوري أعاداني إلى المسرح» يقول. مثّل «حبس الرمل» في إدارة الأوّل الذي سرعان ما سيعلن قطيعة جماليّة مع أستاذه. وقدّم مع الثاني «مذكرات أيّوب» في الذكرى الخمسين لاستقلال لبنان (٩٣).
«جنينة الصنائع» كانت المشروع الذي مهّد لولادة تعاونيّة من نوع خاص (شباب المسرح والسينما) ما زالت ناشطة. اليوم يشعر أن الأمور تجاوزته قليلاً، كمخرج، «بعد ما أنجزه ربيع مروّة وعصام بوخالد». مشروعه المقبل عن القدس قبل النكبة، من خلال سيرة بول غيراغوسيان وأعماله: «سيعتمد العمل على الوسائط الجديدة، ليروي ملحمة مشتركة بين الأرمن والفلسطينيين واللبنانيين».


5 تواريخ

١٩٤١
الولادة في بيروت

١٩٦٣
ترك دراسة الطبّ والتحق بـ«معهد ستراسبور للمسرح» في فرنسا. تركها بعد عامين، فأدّى بطولة «عودة أدونيس» في افتتاح «مسرح بيروت»

١٩٦٨
تأسيس «محترف بيروت للمسرح» مع نضال الأشقر الذي عاش أربع سنوات خصبة. بعدها أخرج مسرحيتين لشوشو، هما: «آخ يا بلدنا» و«خيمة كركوز»

١٩٨٢
«أيام الخيام» أنضج تجارب «مسرح الحكواتي» الذي كان قد تأسّس قبل أربع سنوات، وأصدر بيانه الشهير في أيار/ مايو ٧٩

٢٠٠٩
يوقّع غداً الجزء الثاني، من موسوعته «سيرة المسرح ــــ أعلام وأعمال» (الآداب). التحضير لإطلاق «فوروم الشباب» تحت مظلّة تعاونيّة «شمس» التي أبصرت النور عام ٩٩، وانتقلت من «مسرح بيروت» إلى «دوّار الشمس» (الطيّونة) منذ أربع سنوات