خليل عيسى*في مقال للسيّد ناهض حتّر (الأخبار، عدد 868) بعنوان «مشرق العصبيات»، يرى الكاتب أنّ «التحليل الماركسي الكوني للمجتمعات والسياسة العربية يظل غير منتج معرفياً، وعاجزاً عن بلورة نظرية للتغيير الاجتماعي والسياسي». والحقّ أنّ ما يناقشه الكاتب هو أفكار الشهيد مهدي عامل فقط لا غير، ولو على نحو غير دقيق. ويعتبر السيّد حتّر أنّ فكر عامل هو «ملاءمة الماركسية محلياً، وكونية الانتقال إلى الاشتراكية، بينما المخبوء السياسي كان يستند إلى إمكانية استيلاء قوة ثورية صغيرة على السلطة السياسية». كما أن الكاتب يرى أنّ من المستحيل تقديم «تحليل في المشرق العربي خارج منطق ابن خلدون».
الماركسية، كما كتبها كارل ماركس، هي دراسة الاقتصاد السياسي. ما كتبه مهدي عامل ليس «الماركسية» مطلقاً، لأنّه ببساطة ليس هناك من ماركسية كونية ما، مطلقة، «لملاءمتها محليّاً»! المسألة أنّ مهدي اعتمد منهج الماركسية البنيوية التي كانت موضة من بعد لويس ألتوسير في الستينيات، وخصوصاً في فرنسا. وقد كانت أطروحته في دراسة الدكتوراه عن ألتوسير نفسه. ماركسية عامل لم تكن «كونية» بل كانت مثالية فكرية. وهي تفترض نموذج ماركسي أورومركزي على أنّه الطريق الوحيد والصحيح للعبور إلى الاشتراكية: هي مثالية في المقاربة اعتمدت «الدولة البورجوازية العلمانية» من القرن التاسع عشر النموذج الوحيد الأوحد، ولذلك فقد كانت «الطائفية» عنده مجرد أداة لتقسيم «البروليتاريا»، أي هي «وَهم» ليس موجوداً إذا نحن ما «وعينا» دورنا الطبقي «الصحيح»، وهي أزمة البورجوازية نفسها لأنّه ببساطة من غير الممكن أن تكون البورجوازية... إلّا علمانية! (راجع مهدي عامل، «في الدولة الطائفية»، 1986).

الحلّ لن يكون بالانتقال من ماركسية مثالية عاملية إلى نبش نظريات عنصرية استشراقية
بعيداً عن دكتاتورية المفاهيم العاملية فإنّه من اللافت للنظر المقاربة الماركسية الأخرى ــــ نعم هناك ماركسيّات عدة! ـــــ للوضع اللبناني من جانب منظمة العمل الشيوعي في لبنان مثلاً، حيث الطائفية ليست خطيئة أصلية ما، بل هي المرَكَّب الفوقي لبنية اجتماعية كانت إقطاعية وساهم دخول رأس المال الأجنبي بتقويتها من خلال نشوء دولة لبنان الكبير (راجع مسعود ضاهر، «الجذور التاريخية للمسألة الطائفية اللبنانية 1697ــــ1861»، 2009).
وبالطبع التحليل ومن ثم «الحلّ» الماركسي لن يكون باعتماد العصبية في مفهومها الخلدوني، الذي لا علاقة له برؤية اقتصادية معينة بل بديناميكية بدو ــــ حضر، اعتمدها ابن خلدون كمركّب بدوي يضعف عند التحضّر مما يسبب انهيار «الممالك والأمصار»... لكن إذا ما أردنا أن نفهم ما يحدث حولنا، فلماذا لا نستعمل أدوات علم الاجتماع الحديث أي ماكس فيبر ومجموعاته الاجتماعية مثلاً؟ فالطائفة كالعرق مثلاً (السود في الولايات المتحدة) مجموعة قد تكون في وضع محروم لأسباب اقتصادية وتاريخية معيّنة. وإذا ما قبلنا ذلك في رؤيتنا لاقتصادنا السياسي في ظروفه التاريخية المختلفة، فقد نصل ربما إلى رؤية أقل طهرانيةً وأكثر واقعيةً لما يحدث حولنا. (راجع والرستين وباليبار، «عرق أمة طبقة»، 1993).
وإذا كانت «العصبية» مرادفة للطائفة في حالتي العراق ولبنان، وهذا ما نظن أنّ الكاتب أراده، فإنّ المنهج الحتّري يضعف عندما يحاول تفسير ما يحدث في سوريا والأردن. يصبح الكلام حينها عن نخب وبورجوازيات أردنية وأردنية ــــ فلسطينية في نظام عشائري. والعشيرة كالطائفة هي أيضاً مركّب اجتماعي يسهم بتوزيع الموارد، وبذلك لا يعود وجود الوعي العشائري مُستنكراً أو مستغرباً بمثابة «الشرّ مطلق»! وإذا كانت الجماهير من سوريا إلى العراق لن تصبح جماهير «وطنية» و«لاطائفية» بمجرّد نعتها بذلك، فلأنّ الاقتصاد السياسي يجعل ذلك غير ممكن!
إلا أن تغييب التحليل الطبقي وإبداله بنظريّات استشراقية استعمارية قديمة جديدة، على أنّ عصبيات (طائفية، عشائرية،...) معيّنة هي التي تحكم «الشرق» على نحو أزلي وغامض لأنّ «العرب ما زالوا خارج التاريخ الحديث، وتالياً خارج الماركسية» على قول الكاتب، الذي يستعيد رأي بعض المثقفين العرب أمثال أدونيس في أطروحته «الثابت والمتحوّل»، هي أيضاً قفزة فكرية رجعية.
وإذا كنّا مثل السيّد حتّر حزانى على الأرقام المتدنية جداً للحزب الشيوعي في الانتخابات اللبنانية الأخيرة، فإن الحلّ لن يكون بالانتقال من ماركسية مثالية عاملية إلى نبش نظريات عنصرية استشراقية تؤبد الوضع القائم ولا تقدم أي فهم لما يحصل، بينما كلا الخيارين يعتمد المركزية الفكرية الأوروبية نفسها كأداة للقياس والمقارنة. لكن الحلّ يكون بدراسة الاقتصاد السياسي في المنطقة العربية كما هو وبدون أي طوباوية مسبقة (ودراسة حنّا بطاطو حول العراق الحديث مثال رائع على ذلك).
فقط حينها قد نتبيّن خيط الضوء.
* باحث لبناني