اكتشاف البوابة الثانية في موقع خربة كيافة في فلسطين سمح للسلطات الإسرائيلية بالتأكيد أن تلك هي مدينة الملك داوود. نظريات دينية تهدف إلى خلق رابط بين الأرض وماضيها البعيد قد تبدو للمراقب «ساذجة»، لكنها في الواقع رابحة في الترويج
جوان فرشخ بجالي
معظم الحفريات الأثرية في إسرائيل تردّ على هدف واضح وهو إبراز العلاقة بين الدولة العبرية والعهد القديم. لكن، في موقع خربة كيافة الذي تطلق عليه السلطات الإسرائيلية اسم «شعارييم» أي المدينة ذات البابين، أكد علماء الآثار أنهم عثروا على مدينة الملك داوود بعد اكتشاف بوابة المدينة الثانية. فهم كانوا قد أطلقوا تلك النظرية سابقاً، مرتكزين على وصف العهد القديم للمكان. فالموقع لا يبعد عن القدس كثيراً، وهو في وادي السند الذي سمّاه علماء التوراة وادي إيلاح. وبحسب نصوص العهد القديم، فوادي إيلاح كان قد شهد المعركة بين داوود وشمشوم العملاق، التي انتهت بانتصار داوود الذي أقرّه شعبه ملكاً عليه، فأسس مدينة في الوادي وسوّرها بجدران عالية وكان لها بابان. ذلك هو وصف الكتاب المقدّس للمدينة، ولما بدأت الحفريات الأثرية في خربة كيافة غيّر العلماء اسم الموقع إلى «شعارييم» أي المدينة ذات البابين، وكانت فرحتهم لا توازى حينما عثروا على أسوارها العالية وبوابتها التي تعود كلها إلى فترة العصر الحديدي 1050 إلى 970 قبل الميلاد التي يطلقون عليها في إسرائيل اسم «فترة داوود».
وقد استخلص العلماء بأن هذه هي مدينة الملك داوود، مع العلم بأنه غالباً ما تكون مدن العصر الحديدي في منطقة الشرق الأوسط مسوّرة بجدران عالية، يعمل سكانها على إبقاء أبواب المدينة فيها، وذلك مشهود له في لبنان وسوريا والأردن وتركيا. إلا أنه أُعطي للمكتشفات الأثرية في خربة كيافة طابع ديني توراتي بحت، وذلك بطلب من مؤسسة «ستون» التي تموّل المشروع. ومؤسسة ستون (Foundation Stone) مركز يهودي للدراسات والتربية يعتبر علم الآثار صلة وصل بين العهد القديم وإسرائيل. ويعمل المسؤولون في المركز بلا انقطاع لإبراز المكتشفات الحديثة باعتبارها «تنويراً» للقصص التاريخية التي ذكرها العهد القديم. ويعطي المركز لكل مكتشف قيمة عاطفية ودينية. وقد بدأ ذلك بتغيير الأسماء من العربية إلى العبريّة، خربة كيافة صارت شعارييم، ووادي السند باتت وادي إيلاح. وتشرح مديرة مؤسسة ستون أن من المتوقع قريباً «بدء السياحة الدينية إلى الموقع. وعندها سوف يحمل السياح الكتاب المقدس من العهد القديم ويقرأون مقاطعَ منه تصف مدينة الملك داوود ومعركته مع شمشوم، ثم ينظرون من حولهم، وقد اعترتهم القشعريرة، فيقولون: «هنا حصل كل ذلك»!
وتعمل جمعيات ومؤسسات يهودية لا تحصى في إسرائيل، من دون توقف، لإثبات أن هذه الأرض هي الأرض التي شهدت أحداث العهد القديم. وتالياً، خلق صلة وصل بين الماضي القديم والحضارات المندثرة وإسرائيل. تسييس علم الآثار يهدف إلى إعطاء إسرائيل والشعب اليهودي حق الوجود التاريخي والديني الشرعي في أرض فلسطين. باختصار: دراساتهم وأبحاثهم المسيّسة الغرض تهدف إلى محو ذكر فلسطين وثقافتها وحضارتها، وإبراز تلك الأرض كأنها بقيت خاوية صحراوية منذ اندثار المدن القديمة حتى قيام الدولة العبرية. وبذلك تكون إسرائيل الوريث الشرعي وصلة الوصل الوحيدة بين ذلك الماضي وهذا الحاضر.
الخطر يكمن في أن هذه الأساليب، التي كانت تُعدّ سابقاً «ساذجة»، بدأت تثبت نجاحها في إسرائيل. وقد عهدت الحكومة الإسرائيلية أخيراً إلى منظمة إيلاح الصهيونية المتطرفة بإدارة الحفريات والحياة في حي سلوان وتنظيمها، رغم أن ذلك مخالفٌ للقوانين الإسرائيلية.
وبينما يجري الإسرائيليون خلف التاريخ والآثار لتثبيت كيانهم السياسي والديني، يتناسى الفلسطينيون تاريخهم ومواقعهم الأثرية من مبدأ أن ذلك «كماليات» لا تقوى الدولة حالياً على الاهتمام بها. هذا بالإضافة إلى نزف القطع الأثرية الذي تعاني منه المدن الفلسطينية كلها، وخاصة أن القطع تباع في السوق الإسرائيلية. فلا مجال للمقارنة بين ما يعيشه علم الآثار واختصاصاته في الجامعات الإسرائيلية والدعم العالمي الذي يلاقيه وواقع الجامعات الفلسطينية التي لا تتمكن حتى من القيام بأي حفريات أثرية على أرضها بسبب ضيق المال وصعوبة القرارات.
حينما بدأ علم الآثار في القرن التاسع عشر كان يهدف أولاً إلى إبراز أن التاريخ أقدم مما يقول له العهد القديم. ولكن يبدو أن علم الآثار يعيش في إسرائيل اليوم وضعاً معاكساً لما تأسس له. فهناك يسخّر علم الآثار لتأكيد «حقائق» العهد القديم «ووقائعه». أما نتائج تلك الحفريات فتسيّس لاحقاً لتخدم «حق إسرائيل في الوجود».