بدأت تقارير خبراء التغيّر المناخي تؤكد أن «الهلال الخصيب» سيختفي خلال هذا القرن. فمياه تلك المنطقة الممتدة من بلاد ما بين النهرين إلى منطقة الشرق الأوسط ستنضب. ونهرا دجلة والفرات سيتحوّلان إلى سبيلي مياه، بسبب كثرة السدود المبنية عليهما والجفاف وسوء إدارة الموارد المائية. وتؤكد تقارير العلماء التي نشرتها مجلة «نيو سينتيست» (New Scientist) البريطانية أن الجفاف الذي يعانيه العراق حالياً سيصبح دائماً. وكانت وزارة المياه العراقية قد صرّحت هذه السنة بأن موسم الأرزّ العراقي (الأرزّ العنبر) قد أُتلف كلياً بسبب الجفاف، وبأن العراق سيضطر إلى استيراد القمح والشعير والأرزّ بعدما كان يصدرها. علماً أن الوزارة المذكورة قد توصلت بعد محادثات طويلة أُجريت مع الحكومة التركية إلى الحصول على منسوب من المياه يكفي لإنقاذ محاصيل الخُضروات لهذه السنة.لكن أتى «سعر» عملية «إنقاذ» تلك المحاصيل بنتائج كارثية على منطقة الأهوار الواقعة في جنوب العراق، وهي منطقة التقاء نهري دجلة والفرات قبل أن يصبّا في البحر. لذا، فهي مستنقعات واسعة جداً لها تأثير بيئي كبير في جنوب العراق كله، وهي محور حياة آلاف أنواع الحيوانات، واستمرار لطريقة حياة وتقاليد عمرها أكثر من 10.000 سنة. فبيوت الأهوار مبنية من التراب داخل المستنقعات ويجري التنقّل عبر زوارق مصنوعة من أوراق الأشجار والقصب، وأول مأساة حصلت للأهوار كانت عملية تجفيفها بقرار من صدام حسين بعد أحداث 1991، وأتت نتائج تلك العملية كارثية على غير صعيد، ولا سيما إنسانياً وبيئياً. وعُدّت في حينه بداية نهاية تلك المنطقة وحضارتها... لكن، بعد حرب 2003 بدأت حملات عالمية لإنقاذ الأهوار وإعادة الحياة إليها. وبقي برنامج الأمم المتحدة للبيئة يدير تلك العملية حتى عام 2006 عندما سلّمها إلى وزارة المياه العراقية. إلا أن هذه الأخيرة فضّلت التماشي مع سياسة حكومتها وتحويل المياه إلى الأراضي الزراعية، بحجة إنقاذ المحاصيل وتأمين الإنماء الاقتصادي. ما وضع الأهوار في دائرة الخطر المائي، ويظهر بوضوح، في الصور التي تلتقطها الأقمار الاصطناعية، تقلص المساحات المائية. ويبدو الآن كأن عملية إنقاذ الأهوار قد توقفت وقد عُدل عن المشروع.
ويؤكد خبراء التغيّر المناخي أن الجفاف الذي يصيب المنطقة والسدود المتعددة سيقلّصان حجم نهر الفرات نحو 73 في المئة، ما يُعد نهاية للهلال الخصيب في العقود المقبلة. ويرى علماء يابانيون وآخرون بريطانيون أن هذه العملية قد بدأت فعلياً.
وللتذكير، يمثّل الهلال الخصيب المنطقة التي عُرفت تاريخياً بمهد الحضارات بسبب جريان تلك الأنهر الضخمة فيها، ما سمح للإنسان بالاستيطان على ضفافها، وبناء الحضارات وازدهارها، ومنها السومريّة والبابليّة والآشوريّة... وكان تغيّر مجرى الأنهر وتحوّلها في تلك الأزمنة هما السبب الرئيس لنهاية الحياة في عدد كبير من المدن القديمة، التي أصبحت اليوم تلالاً أثرية تحوي في باطنها أسرار تلك الحضارات وعلاقتها اللامتناهية بمياه
النهرين.
ج. ف. ب.