محمد شعير
لا بدّ من النيل. لهذا، يضرب محمد المخزنجي مواعيده على شاطئ النهر. ثمّة ملامح تجمع بين الكاتب والنيل. المخزنجي مقتحم ومغامر، رغم هدوئه الظاهر، بل لعلّه أكثر المغامرين في مجال القصّة العربية: من قصصه القصيرة جداً إلى القصص الأطول، ومن القصص النفسية مروراً بالخوارق، إلى القصص المبنية على المعرفة العلمية، وصولاً إلى توظيف الحيوانات في الدراما الإنسانية. كاتب المقال والعلّامة في أدب الرحلات، عمل محرراً في مجلة «العربي» في الكويت، درس الطبّ النفسي وقال عنه يوسف إدريس ذات مرة: «كل الكتّاب في كفة، والمخزنجي وحده في كفة».
نفاجأ حين نكتشف أن كاتبنا بلغ الستين، فهو يحتفظ بروحه الشابة وقدرته على المغامرة متوارياً في قلب الحدث. لم يدخل في معارك أدبية أو شخصية تفقده روحه المتسامحة. «تاريخ الحضارة الإنسانية هو تاريخ ضبط النفس»، يقول ضاحكاً. «أنا أمارس هذا لأحمي نفسي وأحررها في الوقت عينه. «الدنيا مش خناقة» وهي تحتاج التأمّل، «وخصوصاً إذا كنت رجلاً تمتهن الكتابة»، يضيف.
في ورشة لإصلاح السيارات، في مدينة المنصورة (شمال القاهرة)، تفتّح وعي محمد المخزنجي. والده، صاحب الورشة، تخرّج من «مدرسة الصنايع» وفضّل العمل الحر على الوظيفة الحكوميّة. أشهر الصيف كانت فرصته ليعمل معه أبناؤه، تماماً كما كانت ليالي رمضان فرصته ليجمعهم حوله ويحكي لهم حكايات بتلوينات مختلفة، ككتاب «بدائع الزهور» الشهير... ورث محمد الصغير عن والده حب الحكي، ومن العمل معه في الورشة تفتحت عيناه على «التناقضات الاقتصادية بين البشر»، كما يقول.
في المرحلة الابتدائية، كان مدرّس اللغة العربية، الأستاذ عثمان، يخيّر التلاميذ بين كتابة القصة أو المقال، وكان المخزنجي يختار دائماً كتابة القصة. مرّة كان الأستاذ عثمان يصحح مواضيع الإنشاء. أمسك بكراس محمد وتوقف عنده قليلاً، ثمّ نادى عليه وطلب منه أن يقف بجواره، ثمّ خرج من الصفّ وعاد ومعه ناظر المدرسة. هذا الأخير طلب من محمد أن يقرأ ما كتب. صمت الناظر للحظات بعدما انتهى الصغير من القراءة، ثمّ قال للتلاميذ: «صفقوا له». يتذكر صاحب «سفر» هذه الحادثة دائماً، ويقول: «أية موهبة تحتاج إلى مكتشف، ونبل من الآخرين».
بداية المخزنجي الفعليّة كانت مع شعر العامية: «اكتشفت أنني لا أصلح كثيراً لهذه المهمة، وخصوصاً أن طموحي كان أبعد من المتاح، فتركت الشعر». في القصة وجد ذاته أكثر، فهي «فن مواجهة الموت» من وجهة نظره، «لأنّك تنجز حيوات كثيرة عبر القصّ». لكنه لم يغادر الشعر حتى بعد استقراره على القصة، إذ إنّ لغته كثيفة شفافة وحادة، تعلي من القيمة البصرية وتجعلها الدلالة الكاشفة والمحورية في البناء.
اختار المخزنجي دراسة الطب «لأسباب عاطفية». عندما التقى أحد الأطباء في ورشة والده، وذهب معه ذات مرة يرشده إلى الطريق. «اكتشفت أنه طبيب السجن، ورأيت كيف يستقبله المساجين ويعالجهم بحنو. حينها قررت أن أصبح طبيباً مثل الدكتور إميل فوتي».
في سنواته الدراسية الأولى في كلية الطب في المنصورة، كان طالباً أقرب إلى الفشل، لكن الوضع اختلف في السنوات النهائية: «كانت العلوم جامدة في البداية. لكن عندما بدأت أرى اقتران العلم بالإنسان وسلوكه العضوي بدأت المسألة تصبح مدهشة». لا يرى صاحب «رشق السكين» أن هناك فرقاً كبيراً بين الأدب والطب، «فكلاهما انشغال بالألم الإنساني».
في الجامعة حرر المخزنجي العديد من مجلات الحائط، وغالباً ما حُوّل إلى مجلس تأديب. يضحك: «كتبت موضوعاً عن أحد الأساتذة القادمين من الولايات المتحدة، وكان متحمساً لها جداً. حينها كنت أنا ناشئاً يسارياً، فكتبت أنّه «خنزير متأمرك!»». الكتابة قادته أيضاً إلى السجن عامين، في تجربة يراها مفصليّة في حياته. «كنت عند مفترق طرق مهم في حياتي. السجن يرتّب عليك أعباءً في مواجهة الذات والآخرين، ومواجهة الألم الإنساني». لم ينخرط المخزنجي طويلاً في العمل السياسي. اكتشف أنّه يعمل في السياسة بمنطق الأدب أو بمنطق الفنان. «كان عدد من أصدقائي الشيوعيين يتهمونني بالرومنسيّة الثوريّة. بقيت عنصراً عصياً على التنظيم الشيوعي، وإن كنت ولا أزال أرى في صورة المجتمع الحريص على العدالة الاجتماعية حلماً إنسانياً نبيلاً».
في تلك السنوات أصدر مجموعتين قصصيتين، هما «الآتي»، و«الموت يضحك»، لفتتا إليه الانتباه كاتباً مقتدراً. عن العلاقة القويّة التي ربطته بالراحل يوسف إدريس، يقول: «كانت أكبر مكاسبي في الحياة، وموته كان أكبر خسائري... أهمية إدريس بالنسبة إلي كانت إنسانية قصوى، وفنيّة أيضاً، لكن ليس من أجل الدخول في عباءته العظيمة». إدريس «محرر أدبي»، يقوم حسب تعبير المخزنجي «بتوجيه الكتاب الآخرين إلى قيمة الحرية في اختيار صوت الذات الملائمة».
في منتصف الثمانينيات، وجد نفسه أمام عرضين للسفر. الأول منحة إبداع إلى الولايات المتحدة بترشيح من الدكتور لويس عوض، والثانية إلى موسكو لاستكمال دراسته الطبية، بترشيح من «منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية». اختار السفر إلى روسيا أوائل 1986، وبعد أربعة أشهر على وصوله إلى كييف انفجر مفاعل تشيرنوبيل. «لحظات من الرعب البشري» يقول المخزنجي الذي أحسّ أنّه مؤتمن على تسجيل هذه اللحظة في كتابه «لحظات غرق جزيرة الحوت». في الكتاب كان «الاتحاد السوفياتي احتمالاً لجزيرة إنسانية رائعة، لكنها قامت على ظهر حوت من الأكاذيب والادعاءات ونقائص إيديولوجيا تزعم الاكتمال». كتابه هذا كان شكلاً أدبياً جديداً في الثقافة العربية: «رواية الحقيقة القصصية»، وهو شكل يمزج بين الريبورتاج والسرد الأدبي. عندما سألناه إن كانت كتابة الرواية قد أغرته، بعد التزامه بالطويل بالقصّة. أجاب: «أي رواية تقصد؟ هل تلك التي بدأت مع «روبنسون كروزو» في الغرب؟ أم تقصد الحكاية الإطار وفي داخلها موزاييك من القصص المختلفة كألف ليلة وليلة؟». المخزنجي الذي يرى أنّه «من المفترض ألا ينصاع الكاتب تماماً للأشكال الأدبية المقررة»، لكنّه رغم قناعته تلك، يستعدّ لإصدار روايته «نهر المجانين» التي تخضع للتصنيفات التقليديّة في الأدب...
بعد ثلاث سنوات في روسيا حيث درس طب النفس والأعصاب في «معهد الدراسات العليا للأطباء» في كييف، عاد إلى القاهرة. لكنّ الظروف دفعته للسفر إلى الكويت حيث عمل «مراسلاً متجولاً». هل أفادته الصحافة أم أضرت به؟ يصمت قليلاً: «أفادت وأضرت. لم أكن أتصور مثلاً أن أكتب ثلاثة آلاف كلمة في يوم واحد أو يومين. الصحافة أعطتني جرأة على الكتابة... وفي المقابل سرقت مني الوسواس في كتابة النصّ أو إعادة كتابته وبنائه وهدمه». لكنّ سبع سنوات من العمل الصحافي كافية، حسب نصيحة ماركيز وقبله هامنغواي. «اكتشفت أنّ معظم خلايا الكائن تقريباً، باستثناء المخ وبعض أجزاء الكبد، تتجدد كلّ سبع سنوات». ثمّ يقصدنا بنصيحته: «لا تفنِ أكثر من كينونة من كينوناتك في الصحافة». هو فعل ذلك، ذات يوم، إذ قرّر أن يترك الصحافة متفرغاً لإبداعه!


5 تواريخ

1949
الولادة في مدينة المنصورة، شمال القاهرة

1983
أصدر مجموعته القصصية الأولى «الآتي»

1986
سافر إلى روسيا لإكمال دراسته العليا في الطب، وكان شاهداً على «تشيرنوبيل»، وعاد بكتابين عن التجربة «سفر»، و«لحظات غرق جزيرة الحوت»

2005
حصل على جائزة الأدب المصري لكبار كتاب القصة القصيرة

2009
انتهى من روايته الأولى «نهر المجانين» التي تصدر قريباً عن «دار الشروق» في القاهرة