نهلة الشهاللا شيء يعادل الحرج حيال توصيف سلوك السلطة الفلسطينية ونعته. ولا يكفي، كما بات شائعاً، إسقاط لفظ «الوطنية» التي كانت تتوسط الاسم، لتتم الغاية... هذا رغم دلالة الشيوع.
فـ«الوطنية» هنا كانت على الأغلب تشديداً على وطن فلسطيني مأمول أكثر منها تقويماً للسلطة تلك. وهكذا تستمر هذه الأخيرة، التي ورثت منظمة التحرير، في الاستفادة من تسامح عام مع كل مظاهر السوء التي كانت بارزة أصلاً مع سالفتها. هل السبب حقاً يشبه تسامح الأوروبيين مع إسرائيل، أي الشعور بالذنب؟ وهو مختلف تماماً عن إدراك المسؤولية وتحملها، بل لعله نقيضها، حيث رافق كالتوأم، الشعور بالذنب حيال الفلسطينيين بسبب نكبتهم عام 1948 (وكانت حصيلة عجز وتواطؤ عربيين)، اتهامهم بأنهم «باعوا أرضهم لليهود»، تماماً كما لا يزال يغلف الشعور بالذنب الأوروبي حيال المحرقة اتهام قديم لليهود بكل المثالب الممكنة.
في السنوات القليلة السابقة، جرى التحايل على هذا الحرج بتخصيص بعض رموز السلطة بالعيوب: محمد دحلان مثلاً الذي اتهم ـــــ زوراً ـــــ بأنه يتولى بالسر تدريب قوات خاصة على عمليات القمع الداخلي. وراج كلام كثير عن «اتفاق دايتون» وأنه غمزة إلى الحل الأميركي في كوسوفو، لكن أيضاً لمحاسن الصدف، نسبة إلى الجنرال الأميركي المكلف بتلك المهمة. «الزور» كان يكمن في أنّ تلك ليست مؤامرة من دحلان، بل قرار من السلطة، بحيث نجد اليوم الجنرال كيث دايتون يتكلم عن إنجازاته بكل وضوح، وفي مؤتمرات علنية: بدأت مهمته عقب رحيل عرفات، وتحديداً في آذار 2005، وتولى في البداية تدريب الحرس الجمهوري ثم انتقل إلى تأليف فصائل بلغت حتى الآن ثلاثة من 500 رجل، والغاية أن تصل إلى عشرة، تخضع لوائح أسمائها إلى موافقة متتالية من الاستخبارات المركزية الأميركية ثم «الشين بيت» ثم الاستخبارات الأردنية، ميزانيتها السنوية الحالية 160 مليون دولار ومهمتها الحصرية التصدي «للعصابات الإجرامية ووحدات حماس» هكذا بالنص. وهو يرأس الفريق المشرف،
(United States Security Coordination - USSC) الذي يحوي بريطانيين وتركياً واحداً، والذي يصر على تسميته «مجهوداً دولياً». وفي 10 أيار الفائت، حين تكلم أمام معهد واشنطن لشؤون الشرق الأدنى (إحدى ركائز اللوبي الصهيوني هناك)، أعلن تجديد عقده لسنتين إضافيتين... فالجنرال لا يتبع تغير الإدارة، ورحيل بوش وقدوم أوباما، بل هو شخصياً دليل ساطع على أن أميركا دولة مؤسسات وليست جمهورية موز!
«رجاله الجدد»، على ما قال، باتوا يظهرون على المسرح في الضفة الغربية، وقتلوا منذ يومين في قلقيلية مجموعة من حماس، وقبلها شاهدهم مراقبون مدنيون دوليون يحلون محل القوات الخاصة الإسرائيلية في هجمات على أحياء من نابلس ومخيماتها. يفخر الجنرال بإنجازه: خلال ثلاثة أسابيع من «العمليات» على غزة، بقيت الضفة هادئة، رجاله سمحوا بتظاهرات مؤطّرة، لكنهم منعوا انسياقها للتعاطف مع حماس، رجاله يتلقون رواتب خاصة (يقال حوالى ألفي دولار شهرياً)، رجاله غير مخترقين من حماس...
وفي التلال المحيطة برام الله المتبرجزة والمتغرّبة، كأنها ليست من المكان، يتوالى تشييد المنازل الفخمة لقادة السلطة ومن يدور في فلكهم، وهي تشبه في تعاليها المستوطنات. عمر الملاحظة سنوات، صدمت بداية المتضامنين الأوروبيين السذج، الذين يهرعون إلى هناك للتعبير عن مساندتهم، فيرون ما يعجزون عن تأويله، ويسمعون «شائعات» كثيرة عن ازدهار «البزنس» بين الإسرائيليين وVIP الفلسطينيين، حتى طاولت الأقاويل مشاريع الاستيطان نفسها: ليس العمال الفلسطينيون الفقراء الذين يكدحون كحمّالين وبنائين فيها، وقبلها في بناء الجدار والطرق الالتفافية، بل مقاولوهم، ومورّدو المواد، إلى آخر الحلقة! وهذا اتجاه لم ينفكّ يتوطد. تكمله الإجابة الشعبية عن سؤال مصير المساعدات المالية الدولية: 30 بالمئة للأمن، و10 بالمئة للرواتب العامة، والباقي...
وعلى جبهة أخرى، يفاوض السيد محمود عباس على المحطة الحالية لمسار «العملية السلمية»، فيعينها على أنها تجميد الاستيطان! ولعله ينال أيضاً ترضيةً، تفكيك ما يقال له المستوطنات «المتوحشة». مقابل ذلك، عليه السكوت عن تمدد مستوطنات الضفة واستقرارها، وتهويد القدس، واضطهاد فلسطينيي 48 وطردهم، ومسألة اللاجئين.
وهكذا تتقاطع السياسة مع الاقتصاد والاجتماع والأمن، كما هي على كل حال دائماً وفي كل مكان، لتنتج تلك الظاهرة المؤلمة، التي يلتقطها كل من يزور الضفة: اليأس التام! ربما وجبت إضافة السيكولوجيا إلى التعداد السابق. وهو تعداد يسمح بالكلام عن شريحة سلطوية باتت تعتاش من العملية السلمية المتحوّلة إلى مسار أبدي، شريكها في التأبيد إسرائيل نفسها: «المفاوضات للمفاوضات» لم تعد تخميناً أو استنتاجاً، بل تحولت إلى شعار إسرائيلي رسمي. وهكذا لا يعود انقضاض مجموعة «الرجال الجدد» الذين دربهم المستر دايتون على منزل في قلقيلية عملاً وغْداً، بل استراتيجي!