إنّ العضوية في منظمة التجارة العالمية مهمة لغير الأعضاء، لأنها تضمن معاملتهم بالتساوي مع كل أعضاء المنظمة. وهذا أمر جوهري إذا كانت الدولة تتمتع بقاعدة تصدير ضخمة ولا تريد أن تصبح ضحية للتمييز في الأسواق المنافسة، لكن هناك ثمناً يجب أن يدفعه العضو الجديد في منظمة التجارة العالمية وهو ثمن مرتفع بسبب طبيعة عملية الانضمام وغياب القواعد الواضحة في هذا الإطار
إستير بوسر *
يتطلب الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية تحديث السياسات والنظام القانوني والتنظيمي في الدولة لكي تتماشى مع مختلف اتفاقات المنظمة؛ فمبدأ عدم التمييز بين السلع والخدمات المحلية والأجنبية والمستثمرين أو المزودين المحليين أو الأجانب هو في صلب مبادئ المنظمة، ويجب أن ينعكس في الإطار التنظيمي الوطني ومختلف السياسات الوطنية.
تأتي عملية الانضمام في وقت أصبحت فيه منافع تحرير التجارة، وخصوصاً عبر التحرير السريع والمعمّق في الدول النامية، موضع تساؤل جدي بوجود أدلّة تفترض التزام الحذر. وفي ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، ستؤدي الالتزامات الطويلة الأمد إلى ترسيخ آثار الاستخدام أكثر فأكثر.
بدأ لبنان عملية الانضمام في نيسان عام 1999. وتألّفت مجموعة عمل خاصة به اجتمعت في مناسبات عدة للتركيز على إطار السياسات والإطار التنظيمي في لبنان لتغييره لكي يتماشى مع اتفاقات منظمة التجارة العالمية. وسمحت هذه الاجتماعات بإعداد مسوّدة عن تقرير مجموعة العمل حيث تم تلخيص النقاشات وتحديد التغييرات التي يجب إدخالها على السياسات والإطار التنظيمي في لبنان. ونُشرت النسخة الأخيرة من التقرير في تشرين الأول سنة 2008.
سيتضمن ملف الانضمام الأخير 3 وثائق: تقرير مجموعة العمل الذي يشمل ملخصاً عن الاجتماعات، وشروط الدخول وبروتوكول الانضمام، وجدول الالتزامات الخاص بالسلع وجدول الالتزامات الخاص بالخدمات.
يغطي تقرير مجموعة العمل عدداً واسعاً من القضايا، بما فيها السياسات الاقتصادية، والإطار اللبناني لصنع السياسات وتطبيقها، والسياسات التي تؤثر على تجارة السلع مثل أنظمة الاستيراد وأنظمة التصدير والسياسات الداخلية التي تؤثر على تجارة السلع، ونظام الملكية الفكرية المرتبط بالتجارة، والسياسات التي تؤثر على تجارة الخدمات، وقضايا الشفافية، واتفاقات التجارة.
كانت العديد من السياسات اللبنانية موضع تساؤل أعضاء منظمة التجارة العالمية في ما يتعلق بتماشيها مع قواعد المنظمة. وكل هذه المسائل موجودة في مسوّدة وثيقة الانضمام. هناك الكثير من السياسات التي تعتبر أساسية لتحفيز النمو المحلي والتنمية لكنها مستهدفة في عملية الانضمام لأنها تقلّص الفرص المتاحة أمام المستثمرين الأجانب في لبنان.
ونذكر من السياسات التي كانت موضع نقاش السياسة الضريبية ومتطلبات الترخيص للاستثمار التي تُطبّق على الأجانب والمواطنين بالتساوي باستثناء شراء الملكيات... ولا يمكن مصادرة الملكية إلا للمصلحة العامة مع تقديم التعويضات المنصفة، لكن لم يُقدّم أي تحديد واضح للمصلحة العامة. قد يؤدي ذلك إلى مشكلة إذا قررت لجنة من المنظمة ماهية المصلحة العامة.
على الرغم من أن قواعد منظمة التجارة العالمية واتفاقاتها لا تطالب بالخصخصة، إلا أن الوثيقة تذكر كل الكيانات العامة وكيانات القطاع العام التي تشغلها الشركات الخاصة. ستمارس الدول الأعضاء في المنظمة الضغوط على لبنان للالتزام بالخصخصة وتحديد مهل زمنية لإكمال هذه العملية.
على سبيل المثال، أعلنت الحكومة أنها ستخصص قطاعات الاتصالات والنقل والكهرباء وأنها ستضع مسوّدة لقانون خصخصة المياه ومياه الصرف. ومن المتوقع خصخصة المرافئ ومعامل التكرير التي تملكها الحكومة ومركز بيانات الزلازل. وطرحت أسئلة على الحكومة بشأن الاحتكارات التي تملكها الدولة على غرار التبغ والاتصالات والهواتف النقالة والخدمات البريدية والقمار والشحن والنقل الجوي. بالإضافة إلى ذلك، طُلب من لبنان تبسيط شروط التسجيل للمستوردين واعتماد متطلبات الترخيص.
هناك مجال آخر لا يتطلب أي التزام من جانب الدولة للانضمام إلى المنظمة ألا وهو المناقصات الحكومية. فيمكن الحكومة وضع قواعد تدعم العروض المحلية على حساب العروض الأجنبية. في الوقت الحالي، لا تقدم التشريعات الوطنية أي أحكام عن العروض الأجنبية. فلا يحظر على الأجانب المشاركة في المناقصات الحكومية ويعاملون بالتساوي مع اللبنانيين.
لكن العروض قد تتضمن بنوداً محددة تقيّد استخدام الأجانب لتنفيذ المشروع أو تحد مشاركة اللبنانيين أو تطالب بوجود عقد بين المشارك اللبناني والشركة الأجنبية. علاوة على ذلك، التزم لبنان في وثيقة الانضمام بالسعي لكي يصبح عضواً مراقباً في لجنة الاتفاق بشأن المناقصات الحكومية عند الانضمام إلى المنظمة من أجل إطلاق مفاوضات العضوية لاحقاً.
في ما يتعلق بالسلع الزراعية، طُلب من لبنان شرح عدد من التدابير غير الجمركية، بما فيها القيود الكمية والعمل على تطابقها مع متطلبات المنظمة. وانتقد أعضاء منظمة التجارة العالمية إعانات التصدير الخاصة بالمنتجات الزراعية لمساعدة المصدّرين لجهة رسوم الترانزيت المرتفعة، وسيضطر لبنان إلى إلغاء كل إعانات تصدير المنتجات الزراعية عند انضمامه إلى المنظمة، بينما لا يزال هناك الكثير من الدول النامية التي تستعمل إعانات التصدير التي سيُبتّ بأمرها في نهاية دورة الدوحة، وهو أمر لن يحصل في القريب العاجل.
وأخيراً، تشير الوثيقة إلى أن الاتفاقات الدولية تطبق على حساب التشريعات الوطنية، أي أن الاتفاقات الدولية تصبح عند تصديقها، جزءاً من التشريعات اللبنانية، بما فيها مبدأ المعاملة الوطنية من دون الحاجة لإدراجه في التشريعات الوطنية. ويجب أن يصدق البرلمان على الاتفاقات والمعاهدات الدولية ويوقع عليها رئيس الجمهورية، كما ينبغي نشرها في الجريدة الرسمية لتدخل حيّز التنفيذ. ويضع ذلك مسؤولية كبيرة على كاهل البرلمان لأنه من المهم أن يتمكن من تقييم الالتزامات المختلفة واتخاذ القرار المناسب بشأنها.
لا تُعتبَر هذه التغييرات في تدابير السياسات والإطار التنظيمي، الالتزامات الوحيدة التي يجب أن يتعهد لبنان تنفيذها، فهناك التزامات السلع والخدمات. ويجري التفاوض بشأن هذه الالتزامات مع أعضاء المنظمة المهتمين بالموضوع ويقدم لبنان عرضاً عن السلع والخدمات وفق طلبات الأعضاء.
قُدّم أول عرض في المجالين عام 2003 ثم تلاه عرض آخر عام 2004. هذه العروض هي الثمن الحقيقي الذي يجب دفعه للانضمام إلى المنظمة، بما أنها تفتح السوق اللبنانية أمام أعضاء المنظمة.
وتعتبر هيكلية التعريفات في لبنان هيكلية تحررية للغاية. ففي قطاع الزراعة، يدخل 18،5% من المنتجات إلى المنطقة الحرة في لبنان، و50،5% من المنتجات المستوردة تخضع لتعريفة بين 0 و5% ، و0.8% من الواردات تخضع لتعريفة بين 5 و10%، و4،7% من الواردات تخضع لتعريفة بين 10 و15%، و5،9% من المنتجات تخضع لتعريفة بين 15 و25%، و7،8% من المنتجات تخضع لتعريفة بين 25 و50%، و9،7% من الواردات تخضع لتعريفة بين 50 و100%، و1،9% من المنتجات الزراعية تخضع لتعريفة تتخطى 100%.
بالنسبة للمنتجات غير الزراعية، يدخل 42،7% من الواردات إلى المنطقة الحرة، و44،1% من المنتجات تخضع لتعريفة بين 0 و5%، و3،4% تخضع لتعريفة بين 5 و10%، و2،3% تخضع لتعريفة بين 10 و15%، و4،2% تخضع لتعريفة بين 15 و25%، و2،8% من المنتجات تخضع لتعريفة بين 35 و50%، و0،5% من المنتجات تخضع لتعريفة بين 50 و100%.
بالإجمال، يخضع 87% من الواردات غير الزراعية في لبنان إلى تعريفة بين 0 و5%، وهي نسبة منخفضة للغاية. لكن هذه هي التعريفات المطبقة حالياً ويمكن أن يرفع لبنان التعريفات في أي لحظة وإلى أي مستوى يشاء. لذلك، يتمتع لبنان بالمرونة لتغيير التعريفات غير أن هذه المرونة ستختفي مع انضمام لبنان إلى منظمة التجارة العالمية بما أنه سيكون هناك سقف محدد للتعريفات المفروضة على كل منتج. وهذا السقف هو قيد المفاوضة حالياً وكان لبنان قد حدد سقفاً منخفضاً في العرض الذي قدمه عام 2004.
تعتبر التعريفات مهمة لثلاثة أسباب. أولاً، تعمل التعريفات على حماية الإنتاج المحلي سواء في قطاع الزراعة أو الصناعة. في قطاع الزراعة، قد يكون من المهم وجود تعريفات مرتفعة إذا أرادت الحكومة حماية المنتجات المحلية لضمان الأمان الغذائي، والسيادة الغذائية، والاستخدام في الزراعة، والمعيشة الريفية. في الغالب، أصبحت الدول مستورداً غذائياً صافياً بسبب الانفتاح الكامل على المنتجات الزراعية الأجنبية مما يعرضها للخطر في حال ارتفاع أسعار الغذاء ونقص المنتجات الغذائية. ودمر هذا التحرير التجاري الاستخدام والمعيشة الريفية في العديد من البلدان، من دون تقديم بديل قابل للحياة. لذلك، من المهم وجود حد أدنى من حماية الإنتاج الغذائي المحلي. في ما يتعلق بالتصنيع، تعتبر التعريفات ضرورية لحماية الاستخدام في بعض القطاعات، وعلى الأخص إذا لم تكن هذه القطاعات ناضجة حتى الآن.
فضلاً عن ذلك، تلعب التعريفات الصناعية دوراً مهماً في عملية التصنيع. فعند الانتقال من الإنتاج المنخفض التقنية إلى الإنتاج المتوسط والعالي التقنية، تحتاج الدول إلى حماية صناعاتها الناشئة وإنتاجها الصناعي حتى يصل إلى مستوى النضوج الكامل. ويمكن تأمين هذا الدعم أو الحماية عبر وسائل عدة، مثل نقل التكنولوجيا، والهندسة المعاكسة، والإعانات والتعريفات. يجب أن تكون التعريفات مرتفعة كفاية ومرنة بسبب اختلاف مستويات التعريفة في مراحل التنمية المتنوّعة. لذلك، من الضروري أن يكون سقف التعريفات مرتفعاً بما يكفي ليسمح باستعماله بمرونة، حتى لو بقي العديد من التعريفات المطبّقة منخفضاً.
ثالثاً، يمكن أن تساهم التعريفات في موازنة الحكومة، وخصوصاً إذا كانت الحكومة تملك القليل من مصادر الدخل. لكن يجب ألا يكون ذلك السبب الوحيد لاستعمال التعريفات حيث يجب الحد من الاعتماد عليها لتوليد الدخل الحكومي. مع ذلك، قد يكون الاعتماد على التعريفات سبباً مقنعاً لتحرير التجارة تدريجياً من أجل تفادي الثغرات والخفوضات في الموازنة لجهة الإنفاق العام في قطاعات مهمة مثل الصحة والتربية.
يظهر تحليل عرض السلع الذي قدمه لبنان عام 2004 أن التعريفات المطبّقة حالياً اعتُمدت أساساً لالتزامات السلع. وأضيف عدد من النقاط المئوية لهذه المعدلات لتحديد سقف معيّن سيصبح في صلب الالتزامات اللبنانية للسلع، (تتراوح التعريفات حالياً بين 0 و70 %، وقد التزم لبنان في عام 2004 بألا يتجاوز معدّلات التعريفات لديه نسب تتراوح بين 5 و90%).
في الواقع، يشير تحليل التعريفات القصوى المقترحة في عرض عام 2004 إلى أن أغلبية هذه التعريفات منخفضة (أقل من 15%) في قطاعات صناعية عدة، بما فيها قطاعات النسيج والألبسة، والمعادن، والمنتجات المعدنية، والأدوات، والآلات (الكهربائية وغير الكهربائية)، وقطاع السيارات، وكل أنواع المركبات، والكاميرات، والساعات، والأجهزة البصرية، والألعاب، والأسلحة، والمنتجات الإلكترونية، والإذاعة، والتلفزيون، وأغلب الأدوات الزجاجية.
هناك حماية أفضل نوعاً ما (تعريفة بين 20 و40%) لبعض المنتجات أو مجموعات المنتجات مثل الصمامات، والثلاجات، والبرادات، والمصابيح الكهربائية، وأغلب الأثاث، والمراتب (الفرش)، والأسلاك الكهربائية، والكابلات، إلخ، والقبعات، والخوذ، والمنتجات الجلدية، والعطر والتبرّج، والبلاط، وصخور البناء، وبعض المنتجات المعدنية، والأحذية، والبطانيات والبياضات، والسجاد، وبعض المنتجات الكيميائية، وبعض الأوراق والمنتجات الورقية، ومواد البناء مثل النوافذ، والأبواب، والأرضيات الخشبية، والإسمنت، والجص.
تقدم الحكومة اللبنانية حماية مرتفعة (تعريفة أكثر من 50%) لبعض السلع الزراعية كالدواجن، ولحم الخنزير، والحليب، واللبن، والأجبان، والبيض، والمشروبات الكحولية، والبيرة، والتبغ، وبعض البذور والعسل، والعديد من الخضار والفواكه (وفق الموسم) وحبات الصنوبر والزعتر والنعناع الطازج والزيت والموز والبسكويت (40%)، ومستحضرات الفواكه والبوظة والزيتون والطماطم والبطاطس، ومنتجات الكبد، والذرة والهليون والخيار.
تظهر هذه الالتزامات بأنه ستُحمى المنتجات الغذائية/ الزراعية الرئيسية من أجل حماية الاستخدام والإنتاج المحلي. لكن الالتزامات في التصنيع تظهر سقف تعريفات منخفضاً يتراوح بين 5 و15% لمعظم المنتجات. سيؤثر ذلك بشدة على التنمية الصناعية في لبنان لأنه سيصعب تطوير بعض هذه القطاعات إذا بقيت مستويات التعريفة منخفضة من دون إمكانية رفعها في المستقبل بسبب الالتزامات التي تعهد بها لبنان في منظمة التجارة العالمية. فالتنمية الصناعية تتطلب المرونة في مستويات التعريفة وتفترض تعريفات قصوى بين 30 و60% وفق المنتجات والقطاعات بدل التعريفات المنخفضة بين 5 و15% التي سيوافق لبنان عليها.
فضلاً عن ذلك، قدم لبنان عرض السلع عام 2004. منذ ذلك الوقت، جرت مفاوضات ثنائية أدت إلى طلبات خفض إضافية من أعضاء المنظمة. لذلك، من المتوقع أن يكون العرض النهائي لسقف التعريفات أكثر انخفاضاً، وعلى الأخص في ما يتعلق بالقطاعات والمنتجات التي كانت محمية في عرض عام 2004.
ويثير عرض الخدمات الذي قدمه لبنان عام 2004 القلق على غرار عرض السلع. فمن واجب الدول التي تتفاوض بشأن الخدمات التزام الحذر في ما تتفق عليه مع منظمة التجارة العالمية وتحديد التعهدات والقيود من أجل تفادي أي تأثير سلبي على تطور الخدمات المحلية ومزوّدي الخدمات المحلية وضمان الحصول على خدمات (عامة) نوعية ذات سعر مقبول. في المبدأ، تُعتبر التزامات الخدمات المتفق عليها مع المنظمة غير قابلة للتغيير لأن ذلك يتطلب التفاوض مع أعضاء المنظمة وتقديم التزامات أخرى ترضي الأعضاء الذين أثّر عليهم هذا التغيير.
بالطبع، إن فتح قطاعات الخدمات للسماح للمزودين الأجانب بولوج سوق الخدمات وتوسيع نطاق الخدمات المقدمة وتعزيز المنافسة قد تكون خطوات مفيدة. فذلك، قد يؤدي إلى زيادة الاستثمار الأجنبي في الخدمات، وتنوع الخدمات المتاحة وتعزيز جودتها، وخفض أسعار الخدمات. لكن بعض تجارب تحرير الخدمات كانت سلبية لأن الشركات الأجنبية التي تسعى إلى تحقيق أقصى حد من الأرباح لم تعمل على مساعدة الفقراء والمحرومين ولم تعد استثمار أرباحها لتطوير قطاع الخدمات.
حتى لو كانت آثار تحرير التجارة إيجابية فهذا لا يعني بالضرورة تطبيق التزامات منظمة التجارة العالمية والاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات. لكن يمكن تحرير التجارة أحادياً مع السماح للحكومة بإجراء تغييرات في الأنظمة عندما تقتضي الظروف الاجتماعية والاقتصادية ذلك.
يجب تحرير الخدمات تدريجياً، وينبغي أن يختبر كل بلد أحادياً عملية فتح الخدمات أمام المنافسة الأجنبية والمزودين الأجانب. وعندما تتحقق النتائج الإيجابية، يصبح من الممكن الالتزام بالاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات. تسمح هذه الاتفاقية والمفاوضات المرافقة لها بهذا النوع من المرونة بما أن الدول يمكن أن تفتح أي قطاع أو قطاع فرعي تشاء في الوقت الذي تريده. لكن عمليات الانضمام تثقل كاهل المفاوضين وتضغط عليهم لفتح مجموعة من القطاعات والقطاعات الفرعية أمام أعضاء منظمة التجارة العالمية من دون أخذ مستوى التنمية في قطاع الخدمات في الاعتبار. فالتزامات الدول النامية التي ترغب في الانضمام إلى المنظمة تتخطى حتى التزامات الدول المتقدمة في الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات، ويُخشى من أن تؤدي هذه الالتزامات إلى تقويض تنمية الخدمات والحصول على خدمات نوعية ذات كلفة مقبولة في هذه الدول. علماً بأن التزامات الخدمات تقوّض حق الحكومة في تنظيم قطاع الخدمات لأنه لا يمكن تغيير هذه الالتزامات إذا قررت الحكومة ذلك مستقبلاً.
في ما يتعلق بلبنان، التُزم بولوج السوق في أساليب التوريد الأربعة (التوريد عبر الحدود، والاستهلاك في الخارج، والاستثمار، وحركة الأشخاص) وفي العديد من القطاعات والقطاعات الفرعية. في الأسلوب 1 (التوريد عبر الحدود أي من موردي الخدمات الأجنبية الذين يقدمون الخدمة في لبنان من وطنهم)، تشمل الالتزامات (الكاملة أو الجزئية) القطاعات الفرعية الآتية: معظم الخدمات المهنية والكومبيوتر والخدمات ذات الصلة وخدمات البحث والتطوير وخدمات الاستشارات الإدارية وخدمات صيانة المعدات وإصلاحها، وخدمات التصوير والطباعة والنشر، وخدمات المؤتمرات وجميع خدمات الاتصالات السلكية واللاسلكية (باستثناء خدمات الإنترنت) ومنح الامتيازات وجميع خدمات التربية وجميع خدمات تحويل الأموال والدفع، وكل الخدمات الرياضية والثقافية والترفيهية، وخدمات استئجار السفن مع المشغل وصيانة السفن وإصلاحها ونظم الحجز بالحاسوب للنقل الجوي وخدمات وكالات الشحن وخدمات الإنترنت وخدمات التأمين وخدمات وكالات السفر ومنظمي الرحلات (وكالات السفر الأجنبية يجب أن تنفّذ جولات محلية في لبنان من خلال مزوّد خدمات محلي) ونقل الركاب والشحن (جميع السفن الراسية في لبنان يجب أن يكون لها وكيل شحن محلي، أي شخص طبيعي لبناني).
في الأسلوب 2 (الاستهلاك في الخارج أي شراء اللبنانيين الخدمات في الخارج)، وردت الالتزامات الكاملة والجزئية في: الكمبيوتر والخدمات ذات الصلة وخدمات البحث والتطوير والخدمات العقارية وخدمات الإيجار/ والاستئجار من دون مشغلين، وغيرها من الخدمات التجارية، وجميع خدمات الاتصالات باستثناء خدمات الإنترنت والتشييد والخدمات الهندسية ذات الصلة وخدمات التوزيع والخدمات التعليمية والخدمات البيئية وخدمات الدفع وتحويل الأموال والسياحة والخدمات المتصلة بها والخدمات الرياضية والثقافية والترفيهية وخدمات النقل والخدمات المهنية، وبخاصة التدقيق في الحسابات إلخ (يجب أن تؤمن الخدمات من خلال عضو مرخص في النقابة اللبنانية المعنية)، وخدمات التأمين.
في الأسلوب 3 (استثمار الشركات الأجنبية في لبنان)، وردت الالتزامات الكاملة والجزئية في: الكمبيوتر والخدمات ذات الصلة وخدمات البحث والتطوير وخدمات الاستشارات الإدارية وخدمات الاختبار التقني والتحليل وخدمات البناء والتنظيف وخدمات التصوير وخدمات التغليف وخدمات المؤتمرات وكل خدمات الاتصالات باستثناء خدمات البيانات والصوت النقالة، ومنح الامتيازات وخدمات الصرف الصحي وخدمات تنظيف غازات العادم وخدمات الحد من الضوضاء وجميع خدمات الدفع وتحويل الأموال والضمانات والالتزامات والفنادق والمطاعم (إلا أنه يمكن رفض تقديم إذن من أجل حماية المناطق التاريخية والفنية)، وخدمات المرشدين السياحيين والخدمات الترفيهية والثقافية والرياضية وخدمات النقل الجوي (نظم الحجز بالكمبيوتر وتسويق خدمات النقل الجوي وبيعها) والخدمات المهنية مثل الخدمات القانونية والمحاسبة والتدقيق في الحسابات التي يقدمها أعضاء مرخص لهم بذلك في النقابة اللبنانية المعنية وخدمات الهندسة المعمارية (القيود المفروضة على المساحة القصوى للمشروع والعدد الأقصى للمشاريع)، والخدمات العقارية (للأشخاص الطبيعيين اللبنانيين أو المحامين الأعضاء في النقابة اللبنانية المعنية)، وخدمات الإيجار/ الاستئجار (فقط من خلال شركات مساهمة)، وخدمات الإعلان، والخدمات الزراعية الثانوية والصيد والأحراج، وخدمات التصنيع الثانوية (فقط من خلال شركات مساهمة)، وصيانة المعدات وإصلاحها (فقط من خلال شركات مساهمة)، والطباعة والنشر (المطبوعات الأجنبية ذات الانتشار الجغرافي العالمي فقط التي لديها مكتب يمثلها في لبنان ولا يمكن الشخص إدارة أكثر من دار نشر أو مطبعة واحدة)، والخدمات البريدية (يجب أن تكون الشركة جزءاً من شبكة دولية من دون إمكانية فتح فروع ثانوية)، وخدمات البناء والخدمات الهندسية المتصلة بها (تخضع لاختبار الحاجات الاقتصادية)، وخدمات التوزيع (فقط للشركات المساهمة والشراكات والشركات ذات المسؤولية المحدودة)، وخدمات التربية، خدمات التأمين (للشركات المساهمة فقط)، ومعظم الخدمات المصرفية والمالية (من خلال شركات مساهمة، ويمكن توفير مختلف الخدمات فقط من خلال المصارف والمؤسسات المالية)، والخدمات الصحية والخدمات الاجتماعية ذات الصلة، ونقل الركاب والشحن (فقط من خلال إنشاء شركة مسجلة لغرض تشغيل أسطول تحت العلم اللبناني وتخضع لشروط معينة)، وخدمات استئجار السفن العابرة للبحار مع المشغل وصيانة السفن وإصلاحها (فقط من خلال شركات مساهمة)، وخدمات وكالات الشحن والنقل (فقط من خلال شركة مساهمة أو عن طريق الشراكة أو شركة ذات مسؤولية محدودة).
وأخيراً، في الأسلوب 4 (حركة الأشخاص الطبيعيين أو الهجرة أي الأشخاص الطبيعيين من الخارج لتوفير الخدمات في لبنان)، ليس هناك سوى الالتزام الأفقي الذي ينطبق على جميع القطاعات والقطاعات الفرعية المذكورة في الجدول الزمني للبنان (المذكور أعلاه). يحدد هذا الالتزام أن الأسلوب 4 يغطي الأشخاص الطبيعيين من دولة عضو أخرى ضمن الفئات الآتية: الزوار من رجال الأعمال (لمدة أقصاها 90 يوماً)، والمدراء التنفيذيون (لمدة أقصاها سنة واحدة)، والمدراء (لمدة أقصاها سنة واحدة)، والاختصاصيون/ الخبراء (لمدة أقصاها سنة واحدة)، والمدراء، والمدراء التنفيذيون والاختصاصيون/ الخبراء المنقولون ضمن الشركات (لمدة أقصاها سنة واحدة)، أضيفت بعض القيود الأخرى في الأسلوب 4 على خدمات التأمين (ثلاثة أجانب متخصصين حداً أقصى في كل شركة مساهمة)، وليس هناك التزامات في الأسلوب 4 بالنسبة لجميع الخدمات المصرفية والمالية للفروع، والتجارة (يجب أن يكون التاجر لبناني الجنسية)، وخدمات المرشدين السياحيين، وخدمات وكالات الأنباء، لكن يجب أن يكون المراسلون من وكالات أو خدمات طباعية أو بث معترف بها.
بذلك، يكون لبنان قد قدم التزامات إلى الأعضاء الآخرين في منظمة التجارة العالمية في جميع القطاعات، بما فيها جزئياً الصحة والتربية، ولكن ليس في جميع القطاعات الفرعية. في الواقع، عُقدت التزامات كثيرة هي التزامات كاملة في تلك القطاعات والقطاعات الفرعية، بما في ذلك الأسلوب 3 (الاستثمار)، من دون فرض أي قيود على كيفية دخول هذه القطاعات. وهناك عدد من الالتزامات التي تخضع للقيود ولكن هذه القيود لا تزال محدودة نوعاً ما.
كما ذكرنا آنفاً، تعتبر التزامات الاتفاقية العامة للتجارة في الخدمات ملزمة للحكومة في جميع هذه القطاعات والقطاعات الفرعية حيث قدمت التزامات كاملة أو جزئية بما أن هذه الالتزامات غير قابلة للعكس. علاوة على ذلك، فإن الالتزامات المبيّنة أعلاه هي الالتزامات التي يقدمها لبنان في العرض المعدل عام 2004. ومنذ ذلك الحين، جرت العديد من المفاوضات الثنائية بين الحكومة اللبنانية ومختلف أعضاء منظمة التجارة العالمية. وستؤدي هذه المفاوضات حتماً إلى مطالبة لبنان بمزيد من الانفتاح في قطاعات الخدمات، وخصوصاً أن هذا القطاع يلعب دوراً مهماً في الاقتصاد اللبناني. ولذلك، من المرجّح أن يتخطى العرض النهائي الذي سيقدمه لبنان إلى أعضاء منظمة التجارة العالمية عرض عام 2004.
إن الالتزامات التي يستعد لبنان لتقديمها من أجل الانضمام إلى منظمة التجارة العالمية، مبالغ بها وسيكون لها تأثير خطير على القدرة التنظيمية للحكومة اللبنانية في مجال الخدمات وفي مجموعة واسعة من السياسات والأنظمة الحكومية على حد سواء. وعلاوة على ذلك، ستقوّض الخفوضات الجمركية المقترحة التنمية الصناعية وتعرض التنمية الزراعية للخطر، لا سيما التنمية المستقبلية في هذه المجالات.
في ظل التباطؤ الاقتصادي العالمي والاستقرار السياسي النسبي في لبنان، ينبغي أن تشمل الأولويات الوطنية استحداث الاستخدام الكامل والمنتج والعمل اللائق. يتطلب هذا الهدف توافر مجموعة واسعة من صكوك السياسة العامة التي يمكن أن تساعد الحكومة في تطوير الزراعة والصناعة والخدمات في لبنان. ومن شأن التزامات الانضمام المقترحة أن تقيّد هذه الصكوك، وتحدّ من مرونة الحكومة، وتقوّض على نحو خطير مستقبل التنمية الاقتصادية والاجتماعية. فهذه الالتزامات ستحدد مستقبل إطار السياسة العامة في لبنان، وبالتالي يتعيّن التزام الحذر في اتخاذ القرارات وإشراك جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك النقابات العمالية.
إلا أن انضمام لبنان لا يُظهر الالتزامات المبالغ بها وحسب، بل يثير أيضاً التساؤلات بشأن انعدام الإنصاف في العملية برمتها. الواقع هو أن الالتزامات التي قدمها لبنان ستؤدي إلى رفع موقعه على سلّم تحرير التجارة إلى مستوى أعلى بكثير من البلدان ذات مستويات التنمية المماثلة.
فضلاً عن ذلك، تعتبر عملية الانضمام عملية معقدة. فالمعرفة الفنية الواسعة النطاق ضرورية لفهم اتفاقات منظمة التجارة العالمية وتأثير مختلف التزامات السلع والخدمات. وهذا لا يتطلب مفاوضين يتمتعون بالخبرة الفنية وحسب بل يشمل أيضاً البرلمانيين والأطراف المعنية الأخرى مثل العمال وأصحاب العمل والمسؤولين في الوزارات الأخرى الذين يتمتعون بالقدرة الفنية اللازمة لتقييم الالتزامات المختلفة. إن تمويل الوكالة الأميركية للتنمية مشروعاً بقيمة مليوني دولار لمساعدة لبنان على الانضمام لمنظمة التجارة العالمية، لا سيما عبر تعزيز قدرة المفاوضين اللبنانيين ومساعدة لبنان في إعداد جميع الوثائق وتحقيق نظام تجاري يتماشى مع اتفاقات منظمة التجارة العالمية، أمر مثير للقلق. فالشركة المتعاقد معها لتقديم المساعدة التقنية هي شركة «بوز ألن هاملتون» Booz Allen and Hamilton. وبالطبع، فإن هذه المساعدة التقنية المموّلة من الولايات المتحدة تهدف إلى خدمة المصالح الأميركية في التزامات انضمام لبنان للمنظمة لا مصلحة الشعب اللبناني.
أخيراً وليس آخراً، تجري عملية الانضمام بأكملها في السر، كما أن الوثائق عن الاجتماعات المختلفة وعروض السلع والخدمات والجداول ليست متاحة للجمهور. ولا يُبلّغ عن اللقاءات الثنائية في أي مكان. هذا يقوّض تماماً الشفافية والديموقراطية التي يجب أن تخضع لها هذه المفاوضات في ضوء الآثار السلبية التي تخلّفها على الاستخدام والتنمية والسياسات الحكومية والسيادة، من دون أن ننسى الضغوط والالتزامات الحالية التي يخضع لها لبنان. لذلك، حان أوان المطالبة بالشفافية والمعلومات عن عملية الانضمام وإطلاق نقاش واسع النطاق بشأن هذا الموضوع في لبنان بمشاركة جميع الأطراف المعنية، بحيث يتم تُقيّم الالتزامات الحالية وتُنقّح لضمان نتائج إيجابية في مجالي التنمية والاستخدام في لبنان.
* مسؤولة ملف التجارة في مكتب الاتحاد الدولي للنقابات