الكذب عند الكبار عادة سيئة جداً، ولكن الأمر لا يُنظر إليه من هذه الزاوية عند الحديث عن الأولاد إذا كذبوا، المشكلة في هذه الحالة تخفي معاناة يجدر تداركها بسرعة، والمسؤولية تقع على الأهل بشكل رئيس، إنهم المسؤولون عن العوالم التي يختلقها ابنهم كي يهرب من واقع يبدو غير قادر على مواجهته. في هذا التحقيق إضاءات على حالات منوّعة لأطفال يكذبون أمام أصدقائهم أو معلميهم أو أهلهم

سناء صفوان
فاتنة (14 عاماً) فتاة جميلة وأنيقة، «دلّوعة» والديها فهي وحيدتهما، يعملان على تأمين كل ما تريده. منذ نعومة أظفارها، تسمع فاتن جملة تتكرر على لسان والديها: « أنت أجمل وأرتب فتاة في الدنيا، ولن يستطيع أيّ أهل أن يؤمّنوا لأولادهم ما نؤمّنه لك». في تصرفاتها اليومية تبدي فاتنة غيرة كبيرة من كل الفتيات من حولها. ولقد دفعتها هذه الغيرة إلى جعل الكذب أداتها لتبدو الأفضل على الإطلاق. تبالغ في الحديث عن ثمن ثيابها، تكره أن يرتدي أحد ملابس أو أكسسوارات شبيهة بما تملكه. اخترعت لنفسها «حبيباً» تدّعي أن اسمه عدي، وأنه يحبها بجنون، ويشتري لها أثمن الهدايا، إذا تلقّت أقراطاً من أبيها تقول لصديقاتها «هل رأيتم روعة هذه الأقراط؟! إنها هدية عيد ميلادي من عدي، ولن أُخبركنّ عن سعرها حتى لا تصبن بالصدمة».
تعلق الدكتورة بيلا عون (معالجة نفسية) على حالة فاتنة، قائلة إن الولد الوحيد هو الملك في بيته، الذي لا يقبل أن يتقاسم شيئاً مع أحد، وقد يصبح أنانياً جداً عندما يكبر، وتضيف «إن ما تقوم به فاتنة أمر طبيعي لأنه يعكس لديها حب الامتلاك». ترى عون أنه كان يجدر بوالدَي فاتنة أن يعلّماها التقاسم، واللعب مع أولاد الجيران، أو الأقارب، وتساءلت «لماذا يحقّقان لها كل ما تطلبه؟ في الواقع هذا يفسر أنهما يعانيان شعوراً بالذنب تجاهها لسبب ما».
رنا (10 أعوام) كانت تلميذة نشيطة ومتفوقة، وخاصة في مادة الرياضيات، التي كانت «تعشقها»، وكمكافأة لها على تفوقها، كان والدها يشتري لها هدية كلما نالت علامة عالية في الامتحانات. مع نشوب الخلافات بين والديها تراجع أداء رنا الدراسي، كانت الصغيرة تبكي لشدة الخوف من أن ينفصل أبواها، ثم تحوّلت إلى اللهو وعدم التركيز في الصف. أخفت رنا رسوبها عن والديها، وادّعت الاستمرار في التفوّق، كما هي حال محمد (13 عاماً)، وهو الأخ الأصغر لثلاثة مراهقين فشلوا في إكمال دراستهم، محمد الذي يدرس لساعات يومياً لم يحقّق نتائج باهرة، ولكنه ادعى التميّز في المدرسة.
تلفت عون إلى أن رنا ومحمد لجآ إلى الكذب ليحافظ كل منهما على صورته الإيجابية في نظر أهله، ومحمد أراد أن يدّعي أنه على قدر المسؤولية الكبييرة التي يحمّله إبّاها ذووه.
مصطفى (12 عاماً) يكذب لتجنّب قسوة والده. رغم أنه ولد مهذب ولطيف، فإن الأب صارم وجديّ لا يحب المزاح حتى مع أفراد أسرته، وهو يتدخل في كل «صغيرة وكبيرة» تتعلّق بحيواتهم. بعد المدرسة يتوجّه مصطفى إلى أحد الملاعب ليلعب بكرة القدم، ويدّعي أمام والده أنه يتابع دروساً خصوصية.
تؤكد عون «لو منح الوالد الثقة لابنه لما لجأ الأخير إلى الكذب عليه. فمصطفى على وشك الدخول في سن المراهقة، وفي هذه الفترة يشعر الولد بأنه يكره أهله، ويريد الابتعاد عنهم، وقسوة الأب تواجَه بردود فعل سلبية وعكسية من جانب ابنهم».
تقول عون إن الولد قد يلجأ إلى الكذب ليحمي نفسه من قسوة أهله، أو ليدافع عن نفسه أمام معلّميه، أو ليختلق شخصية ومكانة قوية أو ليهرب من الحقيقة ويدخل في عالم خيالي. كثير من الأولاد يشاهدون «سوبر مان» و «بات مان» ويتأثرون بهذه الشخصيات، ويدّعون أنهم مثلهم. تلفت عون إلى أن الاولاد ما بين العامين والخمسة أعوام يقلّدون بعض الشخصيات، وخاصة تلك التي تتميز بالقوة، «لأنهم في هذه الأعوام يكونون ضعفاء ومحاطين بأشخاص أقوياء أكبر منهم سناً، فيرغبون في إظهار قوتهم أمام أهلهم»، الأطفال في هذه الفئة العمرية لا يجيدون الكذب الحقيقي. أما بالنسبة إلى الأولاد، الذين يبلغون ثمانية أعوام وما فوق، فإنهم يفتعلون الكذب ويتعمّدونه لحماية أنفسهم والدفاع عنها. فقد يعاني الولد قسوة أهله «فيكون الكذب عاملاً دفاعياً له ليهرب من العالم الحقيقي». وتقول عون إن الولد يبدأ فعلياً بالكذب المتعمد في سن الثامنة.
تشدّد عون على ضرورة تدارك مشكلة الكذب بسرعة عند الولد حتى لا يصير هذا السلوك جزءاً من شخصيته، وتقول «على الأهل أن يقولوا لولدهم إنه كذب، ويشرحوا له تفاصيل ذلك، ويبيّنوا بالأسلوب المناسب خطأ سلوكه. ويتعين عليهم أن يعرفوا السبب الذي دفع ولدهم إلى الكذب، وما إذا كانوا هم وراء ذلك، لأن كل مشاكل الأولاد سببها الأهل بالدرجة الأولى. فعدم اعتماد الأسلوب المناسب في التعامل مع الأولاد قد يدفعهم بطريقة غير مباشرة إلى اعتماد سلوك غير سويّ».


احترموا خصوصياتهم

تؤكد عون أنّ معالجة ظاهرة الكذب
عند الأولاد تجري من خلال خلق جوّ من الثقة في قلب العائلة، حيث يعترف كل فرد بمشاعر الآخرين وحرياتهم. لا يجدر بالأهل أبداً أداء دور التحري الذي يحاول نبش كل الحقائق، ومعرفة كل الأخبار، لأن الأولاد سيلجأون حتماً في هذه الحالة إلى الكذب للحفاظ قليلاً على أسراراهم. يجب الإصغاء إلى هموم الولد، ما يتطلّب الوجود الدائم للأهل وانتباههم إلى أولادهم واحترام مشاعرهم وخصوصياتهم. ويتعين عدم إلصاق تهمة الكذب بالولد. ومن الأفضل إنشاء حوار بين الأهل والولد. ومن واجبات الأهل أن يعلّموا ابنهم الفرق بين الأكاذيب غير المقبولة وتلك التي تكشف عن تهذيب ولياقة في التصرف. وتلفت عون إلى أن العقاب الشديد رداً على لجوء الولد إلى الكذب أمر يفاقم الهوة بين الأبوين وولدهما