في زحمة الانتخابات، يتذكّر السياسيون وعوداً قطعوها. معظم تلك الوعود، بقي حبراً على ورق في فنيدق. هناك، في تلك القرية العكارية النائية، للحرمان تاريخ عريق لم يمحُه دفق الأموال في المواسم الانتخابيّة المتعاقبة
فنيدق ــ سناء الخوري
تمعن قارئة الفنجان نظرها في تضاريس التفل العالق في قعره. المتحلِّقات حولها ينقّلن أعينهنّ بين الفنجان وعينيها، ينتظرنها لتنطق بما يخفيه الغيب. «رجل محترم وصادق جدّاً... خياركِ هذا هو الخيار الصحيح مئة في المئة»، تقول لإحداهنّ. كنّ قد تجمَّعن حول صينية القهوة في أحد منازل فنيدق، لكنّ دويّ المفرقعات، احتفاءً بزيارة أحمد الحريري للقرية العكارية، كاد يخترق الجدران. أتى الحريري عرّاباً لانسحاب المرشح السابق عبد الإله زكريا من المعركة، لمصلحة ابن بلدته خالد زهرمان ـــــ المرشّح على لائحة «تيار المستقبل». 45 كيلومتراً بعد عاصمة الشمال طرابلس صعوداً نحو عكار، قطعها الحريري، وصولاً إلى فنيدق الواقعة على ارتفاع 1200م عن سطح البحر. «المشوار» كان مبرّراً، وخصوصاً أنّ انسحاب زكريا تحوّل إلى مهرجان انتخابي زحفت إليه نصف البلدة.
عزَفَت بصّارتنا عن الفنجان خائبةً. استعارتُها للمفردات الانتخابيّة في مهنة كشف النصيب لم تنفع لشدّ جمهورها لوقت أطول. رتّبت كل من الفتيات حجابها، وخرجن مسرعات إلى الدار يتفرَّجن. رايات «المستقبل» الزرقاء نبتت في زواريب البلدة إلى جانب أشرطة الكهرباء المهترئة. نصف فنيدق احتفل عصر ذلك اليوم. أمّا النصف الثاني، من مناصري النائب السابق وجيه البعريني، فالتزم المنازل.
يعمل إيدي جود وصديقه عمر زهرمان في ماكينة البعريني الانتخابيّة. عادا إلى الدار، بعدما استطلعا الأجواء، وجلسا إلى جانبنا يشربان الشاي. «أبو وليد سيحصد نصف الأصوات، أو أكثر من ذلك بقليل في أسوأ الحالات». ثلاثة مرشحين يتنافسون على أصوات فنيدق، التي تزيد على 7500 صوت: خالد زهرمان عن الموالاة، وجيه البعريني عن المعارضة، والدكتور حسن مرعي مستقلّ. يخبرنا عمر أنّ «المصاري قسَّمت العائلات، فليس هناك من عائلة تناصر بأكملها مرشّحاً واحداً فقط»، يؤكد. «الفرق في حالة البعريني أنّه استمرّ في دعم الناس رغم خسارته في الدورة الماضية»، يقول إيدي شارحاً أسباب ارتفاع حظوظ رئيس لائحة «إنماء عكار». ثلاثمئة شخص من أبناء قريته، وظّفهم النائب السابق في «أفران البيادر» التي يملكها. أبناء البلدة ممن تُحجَز سياراتهم بسبب مخالفة ما، أو ممن يتورّطون في عراك أو في تهريب مازوت، ينجدهم البعريني غالباً. أما خدمات هذا الأخير الاستشفائيّة، فحدّث ولا حرج. أحد الشيوخ من أنصار البعريني قال مشيراً إلى حفيده: «ارمِ هذا الولد عن السطح... من يأخذه إلى المستشفى؟ أبو وليد. إنّه زعيم، وليس مثل الذي باع البلد بالمصاري ويشتري الصوت بمئتي دولار».
محرومون حتّى الحرمان
من جهتها، افتتحت مؤسسات الحريري مستوصفاً في القرية التي تبعد عن أقرب مستشفى ساعة في السيارة. عبد القادر جود يعمل في الماكينة الانتخابيّة لـ«تيار المستقبل». انضمّ إلينا على مائدة الشاي مع صديقه ربيع صلاح الدين، في طريق عودتهما من المهرجان. «المستوصف خطوة أولى، نحن موعودون بمستشفى بعد الانتخابات، وبمشروع تكرير مياه، وببراد وبسدّ زراعي»، يخبراننا. هذه الوعود هي غيض من فيض مما ينقص البلدة. مدخول العسكريين وبعض أساتذة المدارس، إضافةً إلى موسم التفاح الذي لا يلقى الدعم والعناية الكافيين، تمثّل عجلة للدورة الاقتصاديّة في فنيدق. وعد التيار بإنشاء جامعة في جرد القيطع، من أجل أن توفّر على الشباب «مشوار» العذاب اليومي إلى «الجامعة اللبنانيّة» في طرابلس، لم ينفّذ بعد. رغم ذلك «نحن مستعدون لمنح التيار فرصة ثانية»، يقول عبد القادر. «مشروع التيار لا يخيفنا، لأنّه لن يأخذنا لا إلى ولاية الفقيه ولا إلى دولة العلوي»، يشرح. ثم يبرّر «النائب السابق محمود المراد كان في «الفينيسيا» لأسباب أمنية، ولهذا لم تتح له فرصة تنفيذ المشاريع». يتدخّل إيدي هنا: «أموال كثيرة أرسلت إلى فنيدق لكنّ بعض المسؤولين في التيار لم يوصلوها إلى الشعب». ينضم ربيع إليهما «نحن محرومون أيضاً النوادي الرياضيّة والجمعيات، التي تنمّي قدرات الشباب، محرومون الكهرباء، محرومون الدعم الزراعي»، تحبك مع عمر فيقول متهكماً «محرومون الحرمان». بعض التجارات الحرّة القائمة على التهريب، والدكاكين الصغيرة لا تقدّم ولا تؤخّر. غياب تعاونيّة زراعيّة، وحاجة البساتين إلى سدّ للريّ بعدما شحّت مياه نبعي الهوّة والقموعة، زادا الطين بلّة.
يسأل عبد القادر: «لماذا لا تنشّط الدولة السياحة في القموعة؟ خمس أرزات جعلوها كلّ لبنان. فليأتوا إلى القموعة لنريهم كيف يكون الأرز والشوح». هنا ينتفض ربيع كمن تذكّر همّه الأكبر في هذه الدنيا: «والله يا عمي أخجل من دعوة أصحابي إلى هنا». ممَّ يخجلون؟ هل يعتقد الشباب الجامعيون الأربعة، أنّ بلدتهم متخلّفة؟ يفاجئهم التعليق، ويجيب إيدي بشيء من الخجل «ليس هناك تخلّف، بل طاقات لا أحد ينمّيها». طاقات؟ لا شك مع هذا المعدل الإنجابي. يعلّق عمر بظرف «من أين سنجلب الأصوات إذاً؟».
فرغ إبريق الشاي، يرافقنا إيدي وعمر في «مشوار» طويل على طرقات البلدة. الكثافة السكانيّة مرعبة. النساء والأطفال يملأون الشرفات المتراصّة. سنتيمترات قليلة تفصل بين بيت وآخر، وفي الشارع الرئيسي تبقى المهمّة الأصعب: تفادي الحُفر. أمّا الدكاكين، فتبدو للوهلة الأولى أكثر من الشرفات ومن البشر حتّى. في أحدها، نسأل أستاذ الرياضيات وليد مصطفى عن ميوله الانتخابيّة: «زي ما هيي، بدا تنزل بيضا». ما الذي سيقدّمه إليكم تيار المستقبل؟ «موعودون ووُعدنا سابقاً، ونحن بحاجة إلى الكثير». سيّدة تملأ كيسها باللوبياء، تجيب حين أسألها عن توجهها الانتخابي: «شو بدّك تبلينا! نريد رحمة ربّ العالمين. نحن محرومون كل شي، وموعودون... إن شاء الله خير». امرأة شابّة تحمل طفلها، تتدخّل: «أكيد، زي ما هيي... هناك وعود بمشاريع كثيرة ووُضع الحجر الأساس لبراد التفاح». تسأل الطفل: «مع مين أنت يا ماما»، يجيب بلثغة الأطفال «مع وزِيه»، يقصد وجيه البعريني. أحمد طالب، ينتصر لما قاله الطفل، ويرفع صوته «عافاك! وجيه اشترى لي فرّامة. أمّا الباقون، فلم نشمَّ من رائحتهم شيئاً إلا الوعود».
أحد مخاتير فنيدق، خلدون طالب، يدعونا إلى فنجان قهوة «الناخب الأول في هذه الدورة هو الدولار»، يقول. «في عكار كلّها قرارنا مصادر. المؤسف أننا انتقلنا من سلطة العصا إلى سلطة المال. فنيدق أكثر بلدة محرومة في لبنان. عدد سكانها 27 ألف نسمة، ولا تجدين فيها ضابطاً أو موظفاً في الإدارات العامّة. كلّ عام يتخرج من عندنا 70 طالباً، ويذهبون إلى الشارع، وإذا أردنا تعيين أحدهم في وظيفة عامة فقد ندفع 2000 دولار رشى». زين، ناظر في مدرسة، ومتخرج من كليّة الحقوق، يناصر تيار «المستقبل» لأنّه «يمثّل الطائفة السنيّة، وقد وعدنا بفرص عمل للشباب». أما فيفيان جود، فهي لا تعد نفسها بشيء. تقول الشابّة «لن أنتخب أحداً. سوف أكتب اسمي على الورقة، وأضعها في الصندوق. آخ لو يتغيّر هالشعب! خلّي الطابق مستور».


صعود رجال الدين

يبقى لرجال الدين أثرهم في التوجّهات السياسية لإحدى أكبر القرى السنيّة. رئيس اتحاد بلديات جرد القيطع مثلاً، الشيخ سميح عبد الحي، يملك مدرسة «البراءة» المنافسة لمدرسة «الإيمان» التابعة لوجيه البعريني، ويحظى بحيثيّة شعبيّة قد تخوّله الترشّح لانتخابات 2013. كان لعبد الحيّ الدور الأكبر في بناء مسجد للقرية، بلغت كلفته 700 ألف دولار، كما أنّه على صعوبة ذلك، يحتفظ بعلاقات متينة مع كل الأطراف السياسيّين الفاعلين في المنطقة. عبد الحي هذا كان من أعيان «الجماعة الإسلاميّة» لكنّه تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مناصرة تيار «المستقبل»، ما جعل حضور الجماعة يختفي تدريجاً في البلدة. من ناحية أخرى، يبرز دور الشيخ محمد بكار زكريا، الذي أدّى الدور الأبرز في انسحاب ابن عائلته عبد الإله زكريا لمصلحة مرشح «المستقبل».