بالتزامن مع الزيارة «التاريخية» للرئيس باراك أوباما إلى الشرق الأوسط، تنشر «الأخبار» ترجمة لمقال لاثنين من أبرز الخبراء في قضايا الشرق الأوسط، روبرت مالي وحسين آغا. يركّز الكاتبان في «نيويورك ريفيو أوف بوكس» على مناقشة جديّة أوباما حيال حلّ الصراع العربي ــ الإسرائيلي، وما يجب أن يفعله الرئيس الآتي على جناح حل الدولتين
حسين آغا وروبرت مالي

1


بكل مقياس من المقاييس عملياً ــــ الاسم، والعرق، والجذور، والنشأة ــــ كان باراك حسين أوباما مرشحاً ثورياً للرئاسة. بيد أن الدافع إلى الاعتقاد أنه سيكون رئيساً ثورياً بالنسبة إلى السياسة في الشرق الأوسط على الأقل، يبدو واهناً. لقد حدث التحوّل الجذري في السياسة الأميركية التقليدية مع إدارة بوش، وفي خلاله اجتاحت الولايات المتحدة العراق واحتلته، ونأت بنفسها عن سوريا، والتزمت بمشروع طموح وغير مسؤول في آن معاً قضى بإعادة تشكيل المنطقة. جسدت سياسة بوش حالة من الاضطراب والفوضى العنيفين لأنّ نظرة إيديولوجية متصلبة قادتها وأعمتها في الوقت عينه، كما يعود السبب أيضاً إلى نزعتها إلى تفضيل الوسائل العسكرية على الدبلوماسية منها. وستقتضي خطوة أوباما الأولى إنهاء هذه الحقبة العاصفة، وهو أمر لن يكون بالإنجاز المتواضع.
يمثّل البرنامج الخاص الذي وضعه أوباما للشرق الأوسط محور تخمينات كبيرة، تقع في صميمها مسألة النزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني. وثمة دلائل، كون الرئيس وفريق عمله يتمهلان ويراجعان سياساتهما ويوسعان عملية التشاور، تشير إلى أنهما ملتزمان بالبراغماتية والصبر، وهما ميزتان كانت تفتقدهما محاولة بوش المتسرعة فرض نظام جديد على الشرق الأوسط، كما جهود كلينتون المتهورة للتوصل إلى تسوية شاملة. والمرجح أن الرئيس وفريقه سيركزان، أقله في المرحلة الأولى، على تحسين الظروف على الأرض، بما فيها الوضع الاقتصادي في الضفة الغربية، وكبح بناء المستوطنات إن لم يكن إيقافه، ومتابعة مسألة إصلاح قوات الأمن الفلسطينية، وتحسين العلاقات بين إسرائيل والدول العربية.
ولكن ثمة ملامح أيضاً تدل على طموح كبير يتحيّن الفرصة الملائمة. فأوباما لم يربط ولايته الرئاسية بحل النزاع، ولكنه لم ينأََ بنفسه عن هذا التحدي أيضاً. وبحسب ما أوحى به الرئيس وزملاؤه، إن الاهتمام بالنزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني هو قضية تتعلق بالمصلحة القومية الأميركية. وتبدو الإدارة مستعدة لبذل جهود دبلوماسية واقتصادية وربما سياسية هائلة لهذه الغاية. فيكون الهدف تحقيق حل شامل يتضمن إقامة دولتين بعد أن تُحضَّر الأرضية لذلك.
للوهلة الأولى، تبدو الأسباب التي تدفع المرء إلى الحيرة أكثر من تلك التي تُقنعه. فإذا كان ذاك هو هدف الرئيس، فسيُسعى إلى تحقيقه في ظروف غير مؤاتية بشكل لم يُؤلف من قبل. ففي إسرائيل، حلّ محل رئيس وزراء لم يكلّ يوماً عن تكرار التزامه بقيام دولة فلسطينية، وهو إيهود أولمرت، بنيامين نتنياهو الذي يكاد لا يستطيع أن يحمل نفسه على تلفظ تلك الكلمات. وشركاؤه في الائتلاف، وهم مزيج أفراد من المعسكر اليميني، ومن المصابين برهاب الأجانب، ومن المتدينين، يزيدون الطين بلة. حتى مشاركة إيهود باراك وحزب العمل الذي يترأسه في الائتلاف لا تدعو كثيراً إلى الارتياح. فقد كان باراك رئيس وزراء عندما انهارت المفاوضات الإسرائيلية ــــ الفلسطينية في مؤتمر كامب دايفيد عام 2000؛ ويبدو أن الدرس الأساسي الذي استخلصه هو عدم الثقة بكل ما هو فلسطيني. وعندما كان وزير دفاع في حكومة أولمرت، كاد ألاّ يخفي استخفافه بالمحادثات التي أجراها الفلسطينيون مع حكومته، وصرف النظر عنها على اعتبار أنها «حلقة دراسية أكاديمية». فيصعب على المرء أن يتخيل أن هذا الائتلاف الجديد يذهب أبعد مما ذهب إليه سلفه الذي لم يقم بما يكفي، بنظر الفلسطينيين.
من الناحية الفلسطينية، لقد فشلت حتى الآن محادثات المصالحة المكثفة بين حماس وفتح، التي تلعب فيها مصر دور الوسيط، في جمع الحركة الوطنية معاً. ونتيجة الحرب في غزة في كانون الأول/ ديسمبر وكانون الثاني/ يناير بين إسرائيل وحماس، تضخم ثمن انقسامات الفلسطينيين أضعافاً عدة، هذه الانقسامات التي تعتبر مكلفة في أي ظرف من الظروف. وأثبت النزاع، إذا كان ثمة حاجة إلى الإثبات بعدُ، أن الرئيس محمود عباس لا يستطيع الاستمرار في التفاوض مع إسرائيل بشأن السلام عندما تكون إسرائيل في حالة حرب مع الفلسطينيين، وأن الفلسطينيين لا يستطيعون تحقيق السلام مع إسرائيل عندما يكونون في حالة حرب بعضهم مع البعض الآخر. تمتلك حماس القدرة على إعاقة أي تقدم وستستخدمها؛ يمكنها أن تعمل كمناوئ شرس لأي تسوية فلسطينية محتملة. أما المفاوضات الثنائية التي فشلت عندما كان أولمرت رئيس وزراء وحماس مجرد فصيل من الفصائل الفلسطينية، فلا يُرجَّح أن تنجح بعدما صار نتنياهو يتسلم زمام الأمور وكبرت حماس حتى أضحت واقعاً إقليمياً.
إذا كانت إدارة أوباما، على الرغم من هذا المشهد البائس، عاقدة العزم على الدفع باتجاه تحقيق اتفاق نهائي، فربما يكمن السبب في أن الرئيس يخطط لأمر آخر. فهو قد ينوي، في مرحلة من المراحل، أن يتجاهل المفاوضات بين الفريقين وأن يقدّم لهما، بدعم من ائتلاف دولي واسع يشمل دولاً عربية وروسيا والاتحاد الأوروبي، اتفاقاً مفصلاً لإقامة دولتين سيصعب عليهما جداً رفضه. ينبعث هذا المفهوم من الفكرة القائلة إن القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية لن تتمكنا من التوصل إلى اتفاق إذا تُركتا لرغباتهما، وستحتاجان إلى كل ما يستطيع العالم استجماعه من ضغوط وإقناع من أجل الإقدام على الخطوات الأخيرة والمصيرية.
هذا أحد الخيارات. ولكن قبل القفز نحوه، يجب التدقيق في المسائل الأساسية. فدفع الطرفين إلى التوقيع لن يكون إنجازاً وضيعاً، ولكنه ليس التحدي الوحيد، وربما ليس التحدي الأهم، إذ إن ثمة مسألة أخرى ترتبط بكيفية تلقّي الشعبيين الإسرائيلي والفلسطيني حلّ إقامة دولتين في الجو السائد. فهل سيعتبرانه موثوقاً به أم غير شرعي؟ هل سيعتبران أنه يضع حداً لنزاعهما أم يفتتح فقط جولته التالية؟ هل سيكون أكثر فعالية في تعبئة الداعمين أم في شحذ همم المناهضين له؟ باختصار، أي مشكلة سيحلّ فعلياً حلّ إقامة الدولتين؟

2


إن تحدي إنهاء النزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني تمحور أخيراً بشكل شبه تام حول تكريس جهود لا طائل منها للتفاصيل المتعلقة باتفاق الدولتين. وتركزت الجهود الهادفة إلى تحقيق تسوية ما، سواء بشكل رسمي أو غير رسمي، على ضبط نسب الأراضي التي سيجري ضمها وتبادلها؛ وتقسيم السيادة على القدس وتحديدها؛ وتوصيف خاصيات دولة فلسطينية؛ وإيجاد السبل التقنية لإعادة توطين اللاجئين والتعويض لهم، ولكن غالباً ما أتت هذه النقطة الأخيرة في مرحلة لاحقة أكثر مما مثّلت اهتماماً مركزياً. وكانت الإخفاقات المتتالية والعجز المتكرر عن تلبية الحاجات الإسرائيلية والفلسطينية مربكَين. حتى الآن على الأقل، لم تدعُ هذه الصعوبات إلى الشك في الافتراض القائل إن ثمة توازناً يقوم بين المصالح أو يمكن أن يقوم كلياً ضمن اتفاق الدولتين، يُنظر إليه فقط كمسألة تحتاج إلى بذل جهد أكبر.
قد لا يكون عجز الرئيس عباس ورئيس الوزراء أولمرت عن التوصل إلى تسوية سنة 2008، بعد الأهداف التي حُدِّدت في مؤتمر أنابوليس، عجزاً نهائياً، ولكنه يفسح المجال أمام الارتياب في الافتراض القائل إن مزيداً من الأمور نفسها يمكن أن تولّد نتيجة مغايرة. فعباس يلقى الترحيب إلى حد كبير على اعتبار أنه أحد القادة الفلسطينيين الأشد براغماتية. أما أولمرت، فلم يسلك طريقاً مباشراً مثله نحو مخيم السلام ولكنه أظهر إيمان من تأخرت هدايته، إيماناً قوياً عميقاً. بعد أشهر من المحادثات، رفض عباس اقتراحاً إسرائيلياً ينص على تنازلات أكبر بكثير، في ما يخص حجم الأراضي المخصصة للفلسطينيين مثلاً، من ذاك الذي كان ياسر عرفات قد رفضه منذ ثماني سنوات وبسببه شُجب الرئيس الفلسطيني بقوة على اعتبار أنه عدو عنيد للسلام. ويبدو ضعيفاً السببُ الذي يدفع إلى الاعتقاد أن إدخال المزيد من التعديلات على الاتفاق كان ليعطي نتائج مختلفة.
سيركز حلّ الدولتين القابل للتنفيذ على جزء كبير من تطلعات الفريقين، فيحفظ الطابع اليهودي والأكثرية لإسرائيل، ويؤمن لها حدوداً نهائية معترفاً بها، ويحافظ على علاقاتها مع المواقع المقدسة اليهودية. أما الفلسطينيون في الضفة الغربية وغزة، فسيعيشون بحرية من الاحتلال الإسرائيلي، وتكون لهم السيطرة على المواقع المقدسة الإسلامية في القدس، ويحظى اللاجئون بفرصة لاختيار ظروف حياة عادية عبر التوطين والتعويض. إذا كان تحقيق هذه الأهداف كافياً، فلمَ أثبت الفريقان عجزهما عن حلّ الخلاف؟
إن التطلعات تعكس التجربة التاريخية. وهي تشمل، بالنسبة إلى الشعب اليهودي في إسرائيل، التشريد والاضطهاد وحياة الغيتو وأهوال المحرقة؛ والبحث الطويل المثبط للعزم عن وطن عادي، مقبول ومعترف به. ثمة توق شديد إلى مستقبل لن يردد صدى الماضي وإلى نوع الأمان العادي ــــ القبول غير المشروط بالوجود اليهودي في المنطقة ــــ الذي لا يستطيع حتى التفوّق العسكري الكاسح أن يؤمنه. كما أن لدى شريحة ناشطة لا يُستهان بها من الشعب الإسرائيلي على الأقل، تعلّقاً عميق الجذور بالأرض، بكل تلك التي تمثّل أرض إسرائيل.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، ترتبط المطالب التي تحتل الأولوية بالتركيز على تجربة تاريخية والتعويض عنها، تجربة الحرمان، والطرد، والتشتت، والمجازر، والاحتلال، والتمييز العنصري، وإنكار الكرامة، والقتل المستمر لقادتهم، والتفتيت الجائر لنظام حكمهم الوطني.
هذه التطلعات الإسرائيلية والفلسطينية هي من النوع الذي سيكون من الصعب جداً على اتفاق دولتين أن يحققه، مهما كان دقيق الضبط. فعلى مرّ السنوات، تحوّل الهدف تدريجياً من التوصل إلى السلام إلى تحقيق اتفاق الدولتين. قد يبدو هذان الهدفان وكأنهما يمثلان الشيء نفسه، لكنهما ليسا كذلك: فقد يكون السلام ممكناً من دون اتفاق من هذا النوع، كما أن مثل هذا الاتفاق قد لا يقود بالضرورة إلى السلام. من شأن تقسيم الأرض أن يمثّل وسيلة مهمة لتحقيق تعايش سلمي وقابل للحياة وللاستمرار بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وسيكون كذلك على الأرجح. إلاّ أنه ليس النهاية.

3


لفكرة إقامة دولة فلسطينية جنباً إلى جنب مع إسرائيل جذور مضطربة تثير الاهتمام بشكل غير عادي، فهي ــــ من الخطة البريطانية في ثلاثينيات القرن المنصرم إلى خطة التقسيم التي وضعتها الأمم المتحدة عام 1947 ــــ ذات جذور أجنبية في الجوهر. ليست ولم تكن يوماً مطلباً فلسطينياً نابعاً من أهل البلاد إلا في حقبة قصيرة من الماضي القريب. فقد عنى التقسيم القبول بأقل من كامل المنطقة التي كانت خاضعة للانتداب البريطاني على فلسطين؛ كما أنه بات يعني منع عودة اللاجئين الذين طُردوا أو الذين هربوا عام 1948. وفي المرحلة الأكبر من تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، لم تشعر هذه الحركة بأنها معنية بتلك الفكرة. كما لم يكن الإسرائيليون أكثر افتتاناً بها، وقد لزمتهم حتى مدة أطول لكي يصبحوا أكثر تقبلاً لفكرة دولة فلسطينية بدت لأعينهم، في الوقت نفسه، مصطنعة إذ لم يقم كيان مماثل لها في الماضي، وخطيرة لأن معظم الفلسطينيين والعرب أنكروا على الإسرائيليين الحق المتبادل بوطن يهودي.
قَبِل الفلسطينيون أخيراً بحل الدولتين في أواخر ثمانينيات القرن المنصرم، ولو أن هذا القبول كان دوماً موضع تذمر بشكل ما. فاكتسبت مسألة إقامة دولة الدلائل التي ترمز إلى قضية وطنية، ولكنها لم تطابق يوماً فعلياً التطلعات الوطنية. فقد راقت للعقل أكثر من القلب بالنسبة إلى الأكثرية؛ وكانت طريقةمفيدة، وهو أمر يحمل النقاش، لتحقيق أهداف أعظم ولكنها لم تكن يوماً الهدف بحد ذاته. على عكس الصهيونية التي اعتبرت إقامة الدولة الهدف المحوري، كان الجهاد الفلسطيني يركز بالدرجة الأولى على مسائل أخرى. فلم يكن غياب الدولة سبب بليتهم، كما لن يكون إنشاؤها هو الحل الكامل.
لقد كان اعتناق الفلسطينيين فكرة إقامة دولة صنيعة رجل واحد أساساً. إذ إن ياسر عرفات، البارع والداهية السياسي، أحدث، مع الوقت، تغييراً جوهرياً في موقف حركته، ذلك لأن قلة تجرأت على إبداء الشكوك في مصداقيته الجهادية. لكن جهوده لم تكن لتخلو من اللبس، فقد تلاعب بالفلسطينيين وأقلق الإسرائيليين عبر تقديم الدولة الفلسطينية حلاً ومحطةً على الطريق نحو الحل في آن معاً. جعل التنازل، القبول بدولة إسرائيلية ضمن حدود عام 1967، يبدو كأنه إنجاز، وتمكّن من أن يقحم في عملية تقسيم الأرض مشاعر التبرير التاريخي والكرامة والشرف. عندما تطلّب الأمر إقناع الغرب وإسرائيل بأنه كان يؤمن فعلياً في حل الدولتين، كان سجله الجهادي الماضي عبئاً عليه. وعندما تعلقت المسألة بإقناع شعبه بحل الدولتين، كان ذلك السجل أكبر مصدر قوة له.
بين الفلسطينيين، لم ينضج مفهوم إقامة الدولة بالطريقة المثالية، وتكبّد العديد من الضربات المؤذية، وخصوصاً على أيدي أولئك الذين زعموا أنهم يدعمونه. ولا يعود السبب في ذلك أساساًإلى جوهره الذي، عبر مجموعة من المفاوضات الإسرائيلية ــــ الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية، لم يتغير كثيراً، وإذا طرأ عليه أي تغيير فهو أنه أصبح أقرب إلى أن يعكس ما يستطيع الفلسطينيون أن يتعايشوا معه. بل يُرَدّ ذلك كلياً إلى مَن يروج له، ولأي سبب يفعل، وبأي طريقة، وضمن أي إطار داخلي أو إقليمي. لا يحكم الفلسطينيون على فكرة الدولة على أساس مزاياها، بل على من يعمل عليها.

4


بدأت الألفية الجديدة بالقبول شبه العالمي بفكرة دولة فلسطينية، وهو بالتحديد الموعد الذي راح فيه دعمها بين صفوف الفلسطينيين يتراجع. فالرئيس بوش، أول رئيس أميركي دعمها بحماسة، عبّر عنها على أنها الحل الأفضل للنزاع الإسرائيلي ــــ الفلسطيني، ثم سارع إلى حصر التحدي بالمهمة الدنيوية القاضية ببناء مؤسسات دولة. فزالت الهالة الثورية التي صبغ بها عرفات الفكرة؛ وما عاد الكفاح يتركز على الحرية وإنهاء الاحتلال، بل صار يتمحور حول إقامة بنى مسؤولة للحكم.
قد يتبين فعلياً أن أقل تركة سُجّلت ملاحظتها من بين التركات التي خلّفها بوش في المنطقة، مع أنها الأعمق والأشد ضرراً، كانت هذا التحويل لمفهوم إقامة دولة فلسطينية من الفكرة الأكثر ثورية إلى الفكرة الأشد محافظة، من فكرة ملهمة إلى فكرة مملة. وقد رأى قسم صغير من الفلسطينيين، لا سيما أفراد من نخبة السلطة الفلسطينية، الهدف من بناء مؤسسات دولة، وكانت لهم مصلحة في ذلك، فمضوا إلى العمل. أما بالنسبة إلى السواد الأعظم، فما كان لهذا النوع من المشاريع أن يشرد عن اهتماماتهم السياسية الأصلية أكثر مما فعل حالياً.
إن فكرة دولة فلسطينية لهي حية اليوم، لكن خارج فلسطين خصوصاً. فقد أصبحت إقامة الدولة مسألة تحتل الأولوية القصوى بالنسبة إلى الأوروبيين الذين يعتبرونها أساسية لتوطيد الاستقرار في المنطقة وكبح جماح نمو التطرف؛ وبالنسبة إلى الأميركيين الذين يرحبون بها على اعتبار أنها عملية محورية في الجهود الهادفة إلى احتواء إيران والإسلاميين المتطرفين أيضاً، وفي إقامة ائتلاف بين ما يُسمى دول الاعتدال العربي وإسرائيل؛ وحتى بالنسبة إلى أعداد كبيرة من الإسرائيليين الذين اقتنعوا أخيراً بأنها الحل الفعال الوحيد لتهديد وجود إسرائيل الذي تمثّله الديموغرافيات العربية. قد تؤلف هذه كلها أسباباً وجيهة، مع أن أياً منها ليس ذا صلة محددة بالفلسطينيين؛ وكل واحد منها يزيدهم نفوراً من رؤية إقامة الدولة، الهدف المزعوم لكفاحهم.
للدعم العالمي سلبياته. فكلما ازداد ظهور حل الدولتين بمظهر الحل الذي يخدم مصلحة أميركية أو غربية، ناهيك عن الإسرائيلية، قلّ إعجاب الفلسطينيين به. ويصعب بث روح الحماسة في صفوف الفلسطينيين لمشروع يهدف صراحة إلى حماية مصالح عدوهم التاريخي (إسرائيل)، أو هزم إحدى منظماتهم السياسية (حماس) أو إنقاذ الأنظمة العربية المؤيدة للغرب التي لا يظهرون لها ذلك التعاطف الكبير. يشعر العديد من الفلسطينيين بأن مفهوم إقامة الدولة قد استولى عليه مذلّوهم التاريخيون الذين رفضوه عندما كان، باختصار، فكرة فلسطينية فقط، لكي يدعموه عندما جعلوه فكرتهم الخاصة. فعملية تشريع إقامة الدولة من المنظور الدولي ساعدت على تجريدها من مصداقيتها في نظر أولئك الذين يُفترض بهم أن يكونوا المستفيدين منها.
وفَقَدَ مفهوم الدولتين بريقه بصورة إضافية بسبب ما حلّ بدعاته الفلسطينيين. اليوم، لم يعد فلسطينيون كثر يعتبرون أن قادتهم ينفذون مشروعاً وطنياً، بل يرونهم مجرد أدوات لمخططات أجنبية تهدف إلى دعم قسم من الفلسطينيين ضد القسم الآخر. فعندما تبحث السلطة الفلسطينية عن الإرشاد، تبدو أنها تنظر إلى الخارج: إلى الولايات المتحدة لكي تحكم ما إذا كان البرنامج الموضوع لحكومة وحدة وطنية مزعومة يُعتبر أنه يفي بالمطلوب، أو من أجل طلب المساعدة على ابتكار خطة أمنية؛ وإلى إسرائيل وسائر العالم لمعرفة كيفية التعامل مع غزة.
في هذا كله، تطرح خيارات سياسة السلطة الفلسطينية مشكلة أقل من تلك التي تثيرها الطريقة التي يبدو أنه جرى التوصل إليها عبرها، إذ لا تقوم على أساس فكرة فلسطينية أصيلة عن المصلحة الذاتية القومية، بل على مفهوم أجنبي للشكل الذي يجب أن تكون عليه. قد يختار القادة الفلسطينيون بمفردهم المواجهة مع حماس أو الوحدة أو أيّ أمر آخر، وقد ينجح القرار أو يفشل، لكن على الأقل سيكون القرار قرارهم. بدلاً من ذلك، يتكلمون ويتصرفون حالياً كما لو كانوا يترأسون بعض الفلسطينيين، الذين يتمتعون بسمعة حسنة أكثر من سواهم، فيما يتركون للآخرين أمر تولي المجموعة الأكثر مشاغبة. فيُضعف كل هذا موقع السلطة الفلسطينية حتى في أعين عديدين كان يمكن أن يكونوا الأكثر ميلاً إلى دعم برنامجها لو كان الوضع مختلفاً، ويعزز المعارضة لها حتى بين كثر لا يملكون أي قاسم مشترك مع جدول أعمال الإسلاميين.
أيّ من هذا لم يكن مقدّراًً. لقد تسلم عباس السلطة عام 2005 مع مشروعية تاريخية عمرها أربعون سنة من الكفاح الجهيد؛ وامتلك سلطة لم تتجرأ لا حماس ولا فتح على الشك فيها؛ أتى كصاحب رؤية تمتعت بالمصداقية حينها، وهي حل الدولتين الذي مثّل طويلاً قلب معتقداته. كان يمكن استخدام ذلك استخداماً مفيداً لتحقيق خطته الأساسية التي قضت بجعل سياسات حماس أكثر اعتدالاً من خلال كسب تعاون الحركة الإسلامية، وبتحويل الرئيس الفلسطيني إلى الوسيط الضروري بين الفلسطينيين، جميعاً، والمجتمع الدولي بغية تحقيق اتفاق سلام مع إسرائيل. إلا أن ذلك لم يكن.
يأكل شرعيةَ عباس احتضانُ الغرب الخانق له، احتضان خانق زاده سوءاً أنه أميركي، وأميركي يصدر عن الرئيس بوش علاوة على ذلك. ضعفت سلطته بسبب تطفل الولايات المتحدة لدرجة راح فيها الفلسطينيون يتساءلون عما إذا كان رئيسهم يتخذ القرارات أو يفرضها عليه آخرون. وغشى بصرَه تحوّلُ حل الدولتين من فكرة وطنية إلى فكرة أجنبية.
ينبعث مأزق عباس من المساعدة التي حُرمها كما من الدعم الذي منحه إياه بشكل غير حكيم أولئك الذين يزعمون أنهم يريدون له الخير، الولايات المتحدة والأوروبيون على وجه الخصوص. فدفعوه مراراً وتكراراً نحو اتجاهات قاومها بداية حدسُه، ولكن، لأنه لا يملك فريقاً داعماً له ولا أدوات السلطة اللازمة من أجل الثبات في الموقف، استسلم إليها في النهاية، مبتعداً عن الوحدة الوطنية ومتجهاً نحو اعتماد أكبر على المحسنين الأجانب. وبما أن الولايات المتحدة والأوروبيين يبررون أعمالهما بالزعم أنه كان عاجزاً، زادا من إظهاره بمظهر العاجز. إن عباس فرصة لم يُتوقّف يوماً عن إضاعتها.

5


كان يمكن عملية إقامة دولة أن تمثّل إنجازاً فلسطينياً، ويمكن أن تكون كذلك مجدداً إلى حد ما، ولكنها الآن أصبحت غنيمة يحققها طرف آخر. ليس هذا بالأمر المشؤوم بالضرورة. فأوباما يملك ما لم يملكه أي رئيس أميركي قبله، وقد يجازف امرؤ بالقول إن قلة من بعده ستمتلكه: القدرة على أن يكلم جمهوراً أجنبياً وعلى أن يرفع كرامته من دون أن يحطّ من كرامة أميركا البتة. قد يؤدي عزمه الواضح على توسيع المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية لكي تشمل عشرات الدول العربية والمسلمة بطريقة ما إلى منح الدبلوماسية الأميركية دفعاً إضافياً لافتاً. ومع الوقت والتشبث، قد تنجح استراتيجية تقوم على بناء ائتلاف دولي يمارس ضغوطاً على الفريقين من أجل تقديم التنازلات الضرورية، ويقدّم لهما حلاً نهائياً يتضمن إقامة دولتين. فدولة يعدّها بوش أمر، ودولة يحضّرها أوباما ستكون أمراً مختلفاً تماماً.
لكن من ناحية أخرى ستكون المسألة مقامرة. فإذا فسّر عدد كبير من الفلسطينيين والإسرائيليين أن مثل هذا الحل يدفع إليه الأشخاص غير المناسبين للأسباب الخاطئة وبالطريقة الخاطئة، فلن يعتبروه حلاً بتاتاً. سيعارضونه ويسعون إلى تعبئة أولئك الذين، من دون دعمهم، يبقى الاتفاق قائماً على أرضية غير ثابتة. فلمدة معينة من الوقت على الأقل، ستكون المنافع المتأتية من اتفاق ما أقل وضوحاً من التنازلات التي يستلزمها، وتُعدّ هذه الفترة مرحلة ثمينة بالنسبة إلى المناوئين له. وأيّ اتفاق لا يُنفّذ أو لا يدوم سيُنتج آثاراً تطرفية لا يمكن أن يحققها أبداً أيّ غياب للاتفاق.
قد يكون ثمة سبيل آخر، ينطلق مما هو أقل من بذل جهد آني لإنجاز اتفاق الدولتين أو اقتراح أفكار أميركية تتعلق بهذا الخصوص. إنه يتألف، بدلاً من ذلك، من محاولة تغيير الجو السياسي وإعادة صياغة العملية الدبلوماسية. ويستلزم ذلك أولاً تحديد الهموم والتطلعات الأساسية لدى الإسرائيليين والفلسطينيين، والاعتراف بها، ثم وضعها في صلب العملية التي، بدورها، ستشمل تبديل الطريقة التي يُتصوّر فيها حلّ تدعمه الولايات المتحدة وتقدّمه للطرفين، لكي يرى فيه الفلسطينيون ثمرة لكفاحهم الوطني والإسرائيليون تتويجاً لسعيهم التاريخي، لا نتيجة ثانوية متأتية من مساع استراتيجية بذلها آخرون. ربما تكون النتيجة النهائية هي نفسها: دولتان، تقوم الواحدة إلى جانب الأخرى. ولكن الرحلة ستكون أكثر أصالة وتلقى وجهتها قبولاً أكبر.
بكلمات أخرى، لا تكمن المهمة في صياغة أجوبة للأسئلة المتعلقة بالحدود والأمن والقدس أو بكيفية التعويض على اللاجئين، بل تصبح هذه المقاربة بتزايد حدثاً ثانوياً يهم خصوصاً المفاوضين الرسميين. ولا تتركز المحادثات على إنشاء مؤسسات فلسطينية، أو تثني على أهمية حل الدولتين في محاربة التطرف وإعادة تشكيل المنطقة. عندما يدعو وزير الخارجية الإسرائيلي، أفيغدور ليبرمان، إلى التخلي عن الشعارات البالية ــــ الأرض مقابل السلام، حل الدولتين ــــ فهو يمتلك هدفاً سياسياً، كما أن لديه وجهة نظر. فتكرار هذه الأهداف مرّات لامتناهية لم يقرّب تحقيقها وفتّت مصداقيتها. يستطيع خطاب أميركا أن يقيم صلة من جديد مع آمال الفريقين وحاجاتهما إذا عالجها وعاد إلى الأساسيات، لا سيما الاعتراف بالمظالم اللاحقة بالفلسطينيين والتعويض عنها، وإعطاء الإسرائيليين ما يريدونه من اعتراف بهم وبأنهم يمثّلون حالة طبيعية، وهو اعتراف حُرموا منه عبر التاريخ.
إن اعتماد لغة جديدة سيساعد على ذلك، كما سيفعل جمهور أوسع. لطالما رُوّج لمعسكرات السلام من الجانبين على أساس فكرة الدولتين. غير أن الترويج لهذه الفكرة لم يعد ممكناً بعد الآن. فكلما ازدادت مطابقتها مع الاقتراح، بدت أقل جاذبية. يجب على الولايات المتحدة أن تتواصل مع جماهير شكاكة وقادرة على إحداث التغيير ولكنها لا تبالي بالمحادثات الجارية بشأن اتفاق الدولتين. يتجسد أحد الأمثلة بالمستوطنين، وهم يمثّلون مجموعة إسرائيلية ديناميكية وناشطة، ومع ذلك يعاملها العالم الخارجي نموذجياً كأنها مجموعة من مجذومي الزمن الحديث. فيمكن عملية سياسية أكثر شمولاً أن تعترف بوجهات نظر هؤلاء المستوطنين وباهتماماتهم، وتأخذ مصالحهم بعين الاعتبار، وتدعوهم إلى المشاركة في النقاشات.
أما الحالة المشابهة الأخرى فهي حتماً حالة فلسطينيي الشتات الذين حددت آراؤهم تطلعاتٍ وطنية منذ البداية، وستصوغ رد الفعل الجماعي في المستقبل. وقد عبّر والتر راسيل ميد عن ذلك بوضوح في مقالة نُشرت أخيراً كتب فيها: «يجب على أيّ اتفاق أن يعالج المسائل التي تحتل المرتبة الأولى في اهتمامات اللاجئين المحرومين الذين يجسدون الوطنية الفلسطينية أفضل تجسيد، ويظلون المصدر الأهم للشرعية السياسية في الشؤون السياسية الفلسطينية».
سيلقي الرئيس أوباما خطاباً في القاهرة، على الرغم من أن هذا الخطاب يحمل في طياته خطرَين متساويين نظراً إلى حالة الاستقطاب العربي، وهما تقسيم الرأي العام أو توحيده؛ كما أنه سيقوم، على الأرجح، برحلة الحج التقليدية إلى رام الله. ولكن لماذا لا يُفكَّر بخطاب يمثّل الوقفة الأقوى تعبيراً عن التغيّر، خطاب يتناول هموم اللاجئين الفلسطينيين، ويوجَّه إلى اللاجئين، ويُلقى في أحد مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان؟ الرئيس أوباما، وإلى جانبه الرئيس عباس ويحيط به المسؤولون عن اللاجئين، يخاطب جمهوراً مهللاً من آلاف يحيّونه قادمين من مخيمات تنتشر في لبنان، ومن خلالهم يخاطب ملايين الفلسطينيين المشتتين عبر الكرة الأرضية: يمكن هذا المشهد القوي والمحرِّك أن يكون أنفع من أي خطة أميركية تهدف إلى تغيير المزاج والآراء والمشاعر.
ينبغي حصر النزاع الإسرائيلي الفلسطيني ضمن حدود عام 1967. ولكن يمكن أن يُحلّ فقط إذا عالج من دون تحيّز نشأة هذا الصراع التي تعود إلى عام 1948. في الواقع، كلما ازداد اعتراف الولايات المتحدة صراحة بوضع اللاجئين المأساوي، سهُل وضع حد للإطالة المعيبة لمأساتهم الحالية على أساس الحجة الملتبسة القائلة إنه، إذا حُسِّنت ظروف حياتهم، فسيقضي ذلك على قضيتهم ويلغي حقوقهم.
وسيكون من المهم أيضاً للولايات المتحدة أن تغيّر سبل تعاملها مع الشؤون الفلسطينية الداخلية، ولا سيما مع الرئيس الفلسطيني. فعباس رجل بحاجة ماسة إلى أن يُترك بمفرده. إذا أُريد لأعماله أن تبدو شرعية، ولتوقيعه على اتفاق ما أن يكون له وزنه، لا يمكنه أن يظهر رئيساً لبعض الفلسطينيين فقط، بل ينبغي أن يبدو رئيس كل الفلسطينيين؛ ولا يمكنه أن يسلّم مهمة اتخاذ القرارات الحاسمة لفرقاء من الخارج تحت تأثير الضغط، بل يجب أن يأخذها بنفسه وعلى عاتقه. ينبغي أن يُسمح له بالقيام بما يعتبره صحيحاً. لا تحتاج واشنطن إلى تعزيز الوحدة الفلسطينية علناً، ولكن بوسعها أن تمتنع عن عرقلتها من خلال الإشارة إلى قبولها أي اتفاق مصالحة بين حماس وفتح يسمح فيه الرئيس الفلسطيني باستخدام اسمه. يتحتم على الولايات المتحدة أن تستمر بدعم عباس، ولكنها تقدر على التوقف عن وضعه في ذلك الموقف المقيِّد سياسياً والمؤذي حيث يبدو أن آخرين يقررون مصير شعبه. إذا كان الهدف تقوية عباس، فما من سبيل أفضل.
سترتبط الطريقة التي يجري بها تلقّي مبادرة سلام أيضاً بالمناخ الإقليمي. فكلما ازداد فيه الاستقطاب بين ما يُدعى معتدلين ومتشددين، وكلما بدا الهدف أكثر وأكثر دعم الفريق الأول فيما يُلحَق الضرر بالفريق الثاني، ازدادت المعارضة حدّة. وستجد الحركات الجهادية آذاناً صاغية. أما بين الفلسطينيين، فسيكبر الشعور بأن الولايات المتحدة تشن حرباً باسمهم ولكن ليس لمصلحتهم.

6


منذ اليوم الأول الذي تولى فيه أوباما ولايته الرئاسية التي بدأت مع اقتراب حرب غزة من نهايتها، تلك الحرب التي هزت المنطقة وجعلتها أكثر تشدداً، كان التحدي الذي يمثّله الشرق الأوسط بالنسبة إليه واضحاً. فعليه أن يكسب دعم المجموعة الكبيرة من العرب والمسلمين الساخطين الذين ما عادوا يثقون بالولايات المتحدة.
ستكون المهمة شاقة. وقد كان انتخابه بدايةً، إذ أثار أسئلة حيث كانت تسود قناعة سلبية شبه موحدة منذ أمد غير بعيد. يستطيع الرئيس الجديد أن يعتمد على المزيد من الخطابات المحرِّكة؛ وسيكون له جمهور على استعداد أكبر للإصغاء، وسيُسلَّط عليه ضوء جديد. لن يقوده ذلك إلى أبعد من هذا، فسيُبرّأ لانتفاء الأدلة الكافية لإدانته، ولكن الشكّ سيبقى كبيراً.
بالنسبة إلى الرئيس الجديد، ينبغي أن تكون نقطةُ الانطلاق الاعترافَ ببعض الوقائع غير المريحة، الوقائع القاسية. وهي تشمل عمق العداء الموروث للأميركيين؛ وعمق الاستخفاف بالخطط القديمة والصيغ البالية؛ وعمق النفور من الزعماء الإقليميين الذين صارت واشنطن تعتمد عليهم؛ وعمق الانجذاب الشعبي إلى الناشطين الجهاديين وإلى السلوك الكفاحي والنظرة المتشددة إلى العالم.
والنتيجة أن بعض الوصفات المهترئة لا يمكنها أن تنجح. فقد أصبح ادعاء التلهف على إنهاء النزاع العربي ــــ الإسرائيلي أو على التوصل إلى حل يقضي بإقامة دولتين مبتذلاً بسبب التكرار العقيم. هذا ما قام به الرئيس بوش، ربما بشغف وحماسة أكثر من أيّ من أسلافه. ومع ذلك، قلة هي التي أصغت إليه لأن قلة هي التي صدّقت ما قال، وأقل هذه القلة الفلسطينيون الذين كان يُفترض بهم أن يمثّلوا جمهوره. كما لن يساعد كثيراً أيضاً الاعتماد على الحلفاء العرب التقليديين، أو إغداق المساعدات عليهم، أو السعي إلى تحسين علاقاتهم مع إسرائيل. فسيكون ذلك بمثابة إقناع المقتنعين، وإثقال إدارة أوباما بعبء الوجوه غير الشعبية، وترسيخ الفكرة القائلة إن أميركا راضية عن تمديد الماضي، من هذه الناحية على الأقلسيحين الوقت الذي تكشف فيه الولايات المتحدة عن مبادرة دبلوماسية كبيرة. ليس الآن. تقوم المهمة الضرورية على تعبيد الطريق أمام ذلك اليوم من خلال معاكسة الشكوك التي جرى فيها تلقّي كل فكرة أميركية جديدة، سواء كانت صالحة أو طالحة، ونسفها، من خطة وزير الخارجية وليم روجر عام 1969 إلى خارطة الطريق. آن الأوان لإحداث تغيير واضح بالألفاظ، وبالأسلوب، وبالمقاربة.
بالنسبة إلى كثر في الولايات المتحدة، غالباً ما تُختصر فكرة مثل هذا التغيير الجذري بالسؤال عما إن كان يجب إجراء محادثات مع حماس أو لا. هذا إلهاء عن جوهر الأمور، فالتحدي هو إذا كان أوباما قادراً على التحدث إلى أولئك الذين تتحدث حماس باسمهم. إنهم الناس الذين فقدوا الثقة بأميركا، وبدوافعها وبكل اقتراح تروّج له.
الموضوع الأوسع هو التالي: ثمة فتحة متوافرة الآن، وهي صغيرة ومعرّضة لانغلاق مفاجئ، ومن خلالها يستطيع الرئيس أوباما أن يهزّ في العمق الأفكار المكوّنة سلفاً لدى الفلسطينيين والعرب والمسلمين، وأن يؤمّن احتمالاً بأن تلقى خطته المستقبلية، مهما كانت ومتى كانت، آذاناً صاغية، وبأن تؤخذ على محمل الجد المجاهراتُ الأميركية بالجدية. لن يحصل ذلك من خلال إعادة تقديم عملية سلام السنوات الماضية، كما لن يحصل بالسعي إلى تقوية الزعماء الذين تعتبرهم شعوبهم، في أحسن الأحوال، ضعفاء وغير كفوئين وعاجزين، وفي أسوئها، غير مسؤولين ولا مبالين ومهملين. ولن يحصل ذلك من خلال تخليد التصنيف الزائف وغير المفيد بين متطرفين ومعتدلين، ومن خلال عزل الفريق الأول والتقرب من الثاني وصولاً إلى الانقطاع عن أهم الفاعلين في المنطقة في نهاية المطاف.
لن يحصل ذلك من خلال العمل على ما عُمِل عليه في السابق. فقد كانت تركة الرئيس بوش من هذه الناحية تحمل ضرراً مزدوجاً: لقد قام بالأمور الخاطئة بشكل بائس، ما قد ينشئ توقعاً خاطئاً بأن هذه الأمور يمكن أن تُنفَّذ بالشكل الصحيح، بطريقة ما.
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)