مرة جديدة تُكتشف في مدينة صور المعروفة بتاريخها وآثارها، ومن طريق الصدفة أثناء الحفر لتشييد بناء جديد، آثار لا شك في أنها ستسهم في إزاحة الرمل عن سطور مهمة محفورة في تاريخ هذه المدينة
صور ــ آمال خليل
بيروت ــ جوان فرشخ بجالي
في صور، قبل ألف وأربعمئة سنة، حفر السكان في الرمل ودفنوا أمواتهم. بعضهم دفنوا في ما يشبه المقابر العائلية، والبعض الآخر في مقابر فردية، وهناك قبور للأولاد. وفي أحدها دُفن راشدان، وبينهما ولد، كأنهما يحضنانه إلى الأبد. عادة ما تحوي المقابر كمّاً هائلاً من المعلومات عن الشعوب وعاداتها، لكن قبور صور «البيزنطية» فقيرة بالمعلومات عن سكان تلك المدينة في تلك الفترة.
فنادرة هي القطع الأثرية التي عثر عليها العلماء داخل المقابر، ما عدا بعض الفخاريات والزجاجيات التي سمحت لعلماء الآثار بالقول إن تلك المقابر تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد.
قبور حي الرمل التي اكتُشفت في الأيام القليلة الماضية ليست الأولى من نوعها في المدينة حيث يعمل فريق من علماء الآثار بحفريات الإنقاذ منذ سنة تقريباً. الحفريات تجري كالعادة تحت إشراف المديرية العامة للآثار التي توكل إلى فريق مختص إجراء التنقيبات على المواقع قبل أن يبدأ أصحاب العقارات البدء بالبناء.
وهذا بالتحديد ما حصل في حي الرمل، فبعد حصول صاحب العقار على موافقة المديرية العامة للتنظيم المدني على تشييد مبنى سكني، أُحيل الطلب على المديرية العامة للآثار لتتأكد من خلو الموقع من أي أثر قبل بدء الإنشاءات، وخاصة أن العقار يقع داخل المدينة التاريخية.
وبعد شهر من الحفريات الأثرية، اكتشف العلماء في الطبقة الأولى المقبرة البيزنطية المؤلفة من هياكل عظمية لنساء ورجال وعدد كبير من الأطفال دفنوا في مراحل متعاقبة بطرق تراكمية: الهياكل بعضها فوق بعض.
ويشرح علي بدوي، مسؤول الآثار في منطقة صور أن «بعضاً من الهياكل كانت محاطة بقبور مبنية بأحجار رملية، وأخرى دفنت مباشرة بالرمل الذي يحوي كماً هائلاً من الأملاح أدت خلال مرور الزمن إلى تفتّت كل ما وضع داخل القبور وتحلله».
ويشير بدوي إلى «أن الاكتشاف كان متوقعاً بسبب امتداد صور التاريخي، وخاصة في منطقة حي الرمل التي سكنت بعد القرن السادس الميلادي، أي بعد الزلزال الذي ضرب صور وغيّر مسكن أهلها. كذلك كان للحرب البيزنطية الفارسية أثر واسع على مغادرة أهل المدينة ما كان يعرف بالوسط التاريخي وبدء تشييد مراكز صناعية خارج أسوارها».
ومن المقرر أن تكتمل الهوية التاريخية الدقيقة والكاملة لمدينة صور وحي الرمل خصوصاً.
والجدير بالذكر أنه لم يُنَقَّب إلا على مساحة مئة متر من أصل ألفين، يمتد عليها العقار. الهياكل العظمية المكتشفة نُقلت إلى مخازن المديرية، بانتظار بتّ مصيرها في إطار فحصها للتأكد من هويتها التاريخية.
إشارة إلى أن المكتشفات السابقة واللاحقة تنقل من مدفن التراب إلى مخزن المديرية في صور أو بيروت، ريثما تتوافر الإمكانات المادية والعلمية والتقنية لفحصها أو عرضها أمام العامة.
وينتظر المعنيون افتتاح متحف صور الأثري ليصبح نهاية مطاف الأدلة الأثرية الصالحة للعرض.
أهم اكتشاف سُجل في صور منذ عام 1996 كان العثور على بقايا بازيليك باولينوس البيزنطي أو كنيسة أم الرب التي يرجّح المؤرخون أن تكون البازيليك الأولى في العالم. لائحة الاكتشافات ربما طالت أكثر في المنطقة لو أن الأرض لم تُحفَر في بداية القرن العشرين لمصلحة نافذين حصلوا على 20 رخصة من الدولة العثمانية والحكومات اللبنانية الأولى لرفع الأحجار والأعمدة القديمة لاستخدامها في بناء البيوت الحديثة، يشير بدوي.
في ما عداها، تمثّل الأبنية السكنية المكتظة في الحارات القديمة العائق الأكبر للتوسع في معرفة تاريخ صور الذي تتمركز معالمه بكثافة تحتها، وخصوصاً أن منشآت المدينة معظمها تقع على الشاطئ أو الأجزاء البحرية التي ردمها الفاتح الكبير الإسكندر المقدوني في القرن الرابع قبل الميلاد، فوصل «جزيرة صور» باليابسة.
أهمية الاكتشاف العلمية والهندسية تحدد ضرورة استملاك العقار حيث اكتشف، وهذا ما حصل مثلاً بالنسبة إلى العقار الذي تقع عليه بازيليك باولينوس، ويجري اليوم التداول بمشروع استملاك بعض العقارات المحيطة بموقع البص الأثري.
أما بشأن إمكان استملاك العقار في حي الرمل، فيقول بدوي إنه «مرتبط بما سيُكتشف لدى اكتمال الحفريات الأثرية». وتأخذ إجراءات الاستملاك مدة عام ونصف في الأحوال العادية بعد الاتفاق على سعر العقار مع أصحابه الذين يلجأون عادة إلى رفعه.
الأعمال لا تزال في أولها، والحفريات الأثرية قد تؤخر تشييد بناء خاص، لكنها تسهم بكتابة تاريخ مدينة.