فرج الأعور *يحار المرء فعلاً وهو يتابع طريقة طبخ المعارضة، بقيادة حزب الله، للانتخابات النيابية. وتزداد الحيرة لدى المرء إذا عاد قليلاً إلى الوراء واستعرض تصرفات حزب الله منذ السابع من أيار 2008 حتى يومنا هذا. فمن الصعوبة بمكان إعطاء أي تفسير منطقي لما يبدو على الحزب من عدم قدرة على استيعاب أهمية ما حصل في السابع من أيار وتقديره وتأثيره «الاستراتيجي» على صورة الحزب لدى مختلف الطوائف اللبنانية.
وكان قد بدا على الحزب غداة 7 أيار أنه يعي بالفعل خطورة ما حدث من إخضاع لطوائف كاملة في البلد في ذلك النهار. وحاول الحزب معالجة هذا الأمر «على طريقته» خلال مؤتمر الدوحة وما بعده، وظن أن أقصر الطرق إلى ذلك هو اعتماد القوة الرئيسية الحاكمة في كلّ من هذه الطوائف ممثلاً حصرياً للطائفة ومحاولة استرضاء هذه القوة بشتى الوسائل، سواء بواسطة قانون الانتخابات أو بواسطة «لقاءات المصالحة» التي تمت في ذلك الحين.
وقد كان فاقعاً في الدوحة اشتراك الحزب في عمليات القصّ واللصق التي جرت على دوائر بيروت إلى أن حازت رضى تيار المستقبل، وإعلانه عن اشتراكه في ائتلاف في دائرة بيروت الثانية مع تيار المستقبل لمنع حدوث أي معركة انتخابية في بيروت، تاركاً عمر كرامي في طرابلس وأسامة سعد في صيدا لأقدارهما. وإذا كان الاسترضاء نجح مع وليد جنبلاط، الذي وجد فيه فرصة للبدء بتغيير اصطفافه الطائفي والانحناء أمام الاتجاه الجديد للرياح الدولية، فهو لم ينجح مع سعد الحريري. وقد فُجع حزب الله أخيراً على ما يبدو من استعمال سعد الحريري السابع من أيار ككربلاء ثانية، إلى جانب كربلائه الأولى المتمثلة باغتيال والده، في التحريض المذهبي للشارع السني في موسم الانتخابات. فقد تبين أن الشيخ سعد قبل عملية الاسترضاء وقبض ثمن الرضى ولكنه لم يرض، لا بل أعلن أنه ببساطة لن يرضى «والسما زرقا» في لازمة إعلانية يبدو أنها أُنزِلت عليه من «ساتشي اند ساتشي» أو من وكالة إعلانية مماثلة. وكان أن وقع حزب الله في الاستفزاز في السابع من أيار 2009 للسنة الثانية على التوالي، حيث ظهر الحزب وكأنه نسي تماماً الآثار الكبيرة الناجمة عن أحداث العام الماضي ومدى تأثيرها على صورة الحزب لدى الرأي العام. فبدلاً من الرد على التحريض المذهبي بواسطة الانفتاح الحقيقي على جميع الأطراف داخل الطوائف المستهدفة بالتحريض، ردّ الحزب بواسطة الخندقة المذهبية من العيار ذاته. وطلع السيد حسن نصر الله بالخطاب الشهير الذي اعتبر فيه 7 أيار يوماً مجيداً والذي بدا فيه وكأنه يتوجه إلى الجمهور الشيعي فقط، من دون إعارة أي اهتمام لأي جمهور آخر لا في لبنان ولا في الوطن العربي، وذلك لأول مرة منذ أن بدأ السيد نصر الله بالخطابة. وقد تحول الخطاب إلى كارثة إعلامية اضطرت السيد نصر الله إلى التراجع عنه لاحقاً.
ولا تنحصر مصادر الحيرة في تصرفات حزب الله وطريقة طبخه للانتخابات في ما ورد أعلاه فقط، بل تتعداه إلى ما هو أبعد من ذلك. فمنذ بداية الحملة الانتخابية حصر الحزب التعامل مع «الخارج» (والخارج هنا يعني كلّ ما هو خارج نطاق الحزب) بواسطة الأقنية الاستخباراتية فقط، متشبهاً بمعظم الأنظمة العربية التي تحول قادة أجهزة الأمن فيها إلى وزراء الخارجية الحقيقيين. فالبرغم من كل ما قيل عن انفتاح الحزب على التعاون مع جميع القوى الداعمة للمقاومة والعاملة على تثبيت لبنان في موقعه الحالي بالنسبة للصراع العربي ــــ الإسرائيلي، لم يحتمل الحزب وجود أيّ قوة من هذه القوى، تتمتع بأي مقدار من الحيثية الذاتية والاستقلالية، على لوائحه الانتخابية. بل حصر الحزب «التعاون» في الانتخابات ببعض القوى المستعدة للالتحاق به ذيليّاً وبواسطة القناة الاستخباراتية فقط.
ففي البقاع الشمالي مثلاً، لم يتحمل الحزب التعاون مع ألبير منصور متناسياً بقاء الرجل على موقفه الوطني بالرغم من إقصائه عملياً عن المشهد السياسي منذ عام 1992 إلى أن وزّره الرئيس عمر كرامي في عام 2004. وكي تكتمل المأساة الملهاة المبكية حيناً والمضحكة أحياناً، فقد استُبدل حسين الحسيني على لائحة حزب الله في المنطقة بعاصم قانصوه، في خطوة أقل ما يُقال فيها إنها لا تعبّر عن مقدار كبير من احترام الحزب لعقول الناخبين في المنطقة المذكورة بغض النظر عن الموقف من الحسيني.
أما في الجنوب، ففي تكرار ممل للسيناريوات المنفَّذة في الانتخابات السابقة التي جرت منذ عام 1996، أوصد الحزب أبوابه بوجه جميع القوى اليسارية ذات الوجود الحقيقي في المنطقة. وإذا أخذنا الحزب الشيوعي مثالاً على هذه القوى، فهو لم يحد يوماً لا عن دعمه للمقاومة منذ انطلاقتها في عام 1982، ولا عن دعمه لبقاء لبنان في موقعه الحالي من الصراع العربي ــــ الإسرائيلي، وهو زيادة على ذلك كان الجهة الوحيدة في لبنان من خارج المقاومة التي حاولت الاشتراك الفعلي في حرب تموز. والتفسير الوحيد لعدم التعاون مع الحزب الشيوعي، الذي لم يضيّع البوصلة يوماً في توصيف المعركة الداخلية الدائرة في البلد من عام 2005 هو ضيق الصدر بإصرار هذا الحزب على استقلاليته. وفي مقابل إقصاء الحزب الشيوعي أُبقي طبعاً على النائبين قاسم هاشم وأسعد حردان، والذي جاء ليؤكد حصر الحزب لعلاقاته الخارجية ضمن الأقنية الاستخباراتية.
وفي منطقة المتن الأعلى التابعة لدائرة بعبدا (وقد تابعت تفاصيل العملية الانتخابية هناك لأنني من هذه المنطقة)، استخدم حزب الله المطبخ الأمني ذاته لطبخ الانتخابات هناك، ولكن بالتعاون مع التيار الوطني الحر هذه المرة.
وكان الفارق الوحيد في التعامل مع هذه المنطقة عن باقي المناطق المذكورة أعلاه هو اعتماد معيار آخر في اختيار المرشحين إلى جانب معيار الالتحاق الاستخباراتي، وهو معيار القرابة العائلية. فقد استُبدل المرشح عن المقعد الماروني في المنطقة شكيب قرطباوي، نقيب المحامين السابق، بابن شقيقة العماد ميشال عون. ولكي يكتمل التمثيل الصحيح لمواطني المنطقة على لائحة المعارضة، وقع خيار المطابخ الأمنية في الحزب والتيار للترشيح عن المقعد الدرزي على شخصية مرموقة أخرى من الملتحقين استخباراتياً (ومالياً أيضاً هذه المرة) بحزب الله.
واللافت أن التيار الوطني الحر تخلى عن ترشيح مرشحَين اثنين، درزي وشيعي، من بين صفوفه في هذه الدائرة نتيجة للمفاوضات والمساومات الشاقة التي حدثت داخل المعارضة على الترشيح في دائرة جزين. أي أن العماد عون فضّل محاولة احتكار تمثيل منطقة جزين، معقلاً مسيحياً، وحصر هذا التمثيل به وحده على إضفاء طابع التنوع الطائفي على كتلته في المجلس النيابي المقبل. وينسجم هذا الأمر انسجاماً تاماً مع كفاح عون المرير منذ عودته من فرنسا للوصول إلى الزعامة الأحادية للطائفة المارونية عبر محاولته استرجاع ما تيسر من حصة هذه الطائفة في الحكم، وعبر التركيز على التوازن الموجود في حلفه مع حزب الله مقابل التوازن المفقود في تحالف مسيحيي 14 آذار مع جنبلاط والحريري. وينسجم الأمر أيضاً مع الحملة الانتخابية الأساسية للتيار الوطني الحر المعتمدة أساساً على التوجه للناخب المسيحي حصراً بالرغم من كل الادعاءات العلمانية، حيث تجهد بعض المقالات المنخرطة في هذه الحملة في مقارنة حصة المسيحيين من كعكة الحكم في حال انتصار عون بتلك الحصة في حال انتصار 14 آذار، وتجهد أكثر في مقارنة حجم زعامة عون بأحجام زعامات كميل شمعون وبيار الجميل (الجدَّين).
ولا بدّ من فتح قوسين هنا والقول إن ما لا تذكره هذه المقالات هو أن الفارق الأساسي بين عون من جهة وكميل شمعون وبيار الجميل، ومن بعدهما بشير الجميل، من جهة أخرى، هو أن جميع هؤلاء حاولوا الوصول إلى زعامة الطائفة المارونية وتثبيت الهيمنة المارونية على الحكم في لبنان بواسطة التحالف مع إسرائيل. بينما يحاول عون اليوم استرجاع ما تيسر من حصة الموارنة في الحكم عبر التحالف مع ألد أعداء إسرائيل في المنطقة. ولكن يبقى السؤال الأساسي قائماً عن مدى قدرة عون على إكمال المشوار الذي يتطلبه هذا التحالف على صعيد قيادة الرأي العام الماروني نحو موقف نهائي من العداء لإسرائيل ونحو الاعتراف النهائي بعروبة البلد.
وتنبع الحيرة، التي ذكرناها في بداية المقال، بالأساس من عدم قدرة المرء على استيعاب أو فهم التناقض الشديد بين النجاح المهول لحزب الله في مواجهة إسرائيل والفشل الذريع للحزب في نسج شبكة علاقات داخلية مع القوى للتعاون معه والتحلّق حوله ودعمه في هذه المواجهة. فالحزب أثبت أنه القوة العربية الوحيدة التي تمكنت من مواجهة إسرائيل والوصول بهذه المواجهة إلى نوع من الردع المتبادل والتوازن النسبي، وذلك بسبب تميّز الحزب بالعقلانية الشديدة والجدية والمصداقية في المواجهة تلك.
ومن مدعاة العجب ألا يتمكن الحزب في ممارسته للسياسة الداخلية من اللجوء إلى الأسس ذاتها من العقلانية والجدية والمصداقية في بناء علاقات «طبيعية» مع مختلف القوى المستعدة لدعم المقاومة وإنشاء شبكة أمان أهلية عابرة للطوائف من حولها. علماً بأن شبكة الأمان هذه لا يمكن أن تكون عابرة للطوائف فعلاً إلا إذا تمكن حزب الله من المبادرة إلى الخروج من الشرنقة المذهبية والانفتاح على مختلف القوى (من خارج القنوات الأمنية) والاهتمام الحقيقي بالشأن الاقتصادي الاجتماعي للمواطنين بدلاً من استعماله سلاحاً في المواجهة الداخلية يلجأ إليه موسمياً وعند الحاجة فقط.
* كاتب لبناني