في الذكرى التاسعة لتحرير الجنوب اللبناني، وقبيل أيام من انتخابات يُقال إنها ستكون مصيرية، يجري أسعد أبو خليل جردة حساب جديدة ــ قديمة يوزّع فيها مسؤوليات تقصير اللبنانيين إزاء القضية الفلسطينية وإزاء التهاون مع الاعتداءات الإسرائيلية ضد لبنان منذ نشأت الكيان الصهيوني حتى اليوم
أسعد أبو خليل*
عندما ألقى وليد جنبلاط كلمة في مهرجان انتخابي قبل أسبوع من موعد الانتخابات، خاطب جمهوره الحريري الحاشد. تحدّث إليهم عن ثلاث معارك استقلال في تاريخ لبنان: قال لهم إن المعركة الأولى كانت في راشيا (مع أنه لم يكن هناك معركة ولا من يحزنون بل كانت صراعاً بين استعمار فرنسي واستعمار بريطاني). صفّق الجمهور بحرارة للإشارة. ثم ذكر معركة تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي على أساس كونها المعركة الثانية (فيما ذكر مهرجان تفجّع آل الحريري كمعركة ثالثة). صفّق الجمهور للمعركة الأولى والثالثة، وصمت عند ذكر المعركة الثانية. لم تعنهم على ما يبدو. كم غيّر آل الحريري في الثقافة السياسيّة اللبنانيّة نتيجة تنفيذهم أوامر الأمير مقرن بالتأجيج الطائفي والمذهبي من دون هوادة.
لم يكن جنوب لبنان يوماً جزءاً من الجسم اللبناني. كان مثل الزائدة الدوديّة التي تحتاج إلى استئصال أو إهمال. نيويورك أقرب إلى لبنان من جنوب لبنان. لو كان الأمر بيد ساسة لبنان المعاصرين (والمعاصرات حتى لا ننسى الماما معوّض) لتُرك جنوب لبنان لإسرائيل تفعل به ما تشاء. ماذا كان موقف هؤلاء الذين طالبوا بنزع سلاح المقاومة فيما كانت إسرائيل تعتدي على لبنان عام 2006، وفيما كان وزير الدفاع إلياس المرّ غائباً عن السمع؟ هل هناك من يظنّ أن أهل الجنوب سيسلّمون مصيرهم لإلياس المرّ (وطائراته العشر التي جلبها من موسكو على ما يقول؟) كانت الدولة (بجيشها ودبلوماسيّة آل الحريري والأمير مقرن) على المحك في عدوان إسرائيل عام 2006: كان يمكنها أن تثبت لأهل الجنوب أنها تملك بديلاً من المقاومة، فماذا حدث؟ اختبأ الياس المرّ فيما هبطت طائرة سعد الحريري في قبرص لأن زعيم عائلة الحريري أراد أن يستنجد برئيس قبرص لمساعدته في طلب وقف النار. طبعاً، هناك دموع السنيورة.
وسيذكر التاريخ فؤاد السنيورة. يخطئ من يظن العكس. سيذكره كما يذكر تاريخ العالم العربي نوري السعيد ووصفي التلّ (يحوّله بعض أدعياء اليسار في الأردن إلى رمز وطني تماماً كما يحوّل أدعياء بعض الشراذم اليساريّة في لبنان، سعد الحريري إلى رمز لنضال الطبقة العاملة) وغيرهم من أدوات الاستعمار الغربي.
سيذكر التاريخ فؤاد السنيورة عندما يُكتب تاريخ عقيدة بوش واعتمادها على حميد قرضاي في كل بلد تعمل العقيدة على تغييره، وخصوصاً في تلك البلدان التي عوّل بوش على تركيبها وفق الأهواء الصهيونيّة.
سيذكر التاريخ اللبناني فؤاد السنيورة كما سيذكر تاريخ الحركة الوطنيّة الفلسطينية، محمد دحلان ومصطفى دودين. كان السنيورة خير الأدوات المُطيعة لبوش واستسهل تغيير وجهة خطابه بالكامل ـــــ توافقاً مع تغيير وجهة خطاب آل الحريري ـــــ وذلك تماشياً مع عقيدة مُلهمهِم بوش (نلاحظ أن أبواق آل سعود وآل الحريري فجأة استفظعت عهد بوش بعد زواله، وبدأت بنقده. الآن اكتشف وليد جنبلاط ـــــ صديق أليوت أبرامز وحليفه ـــــ كتابات طارق علي فيما كان يروّج قبل سنة فقط لكتابات الصهيوني العريق برنارد لويس).
عمل السنيورة على تنفيذ الأوامر بهمّة ونشاط قدّرهما له بوش. وإن يغفر التاريخ للسنيورة أفعاله وأقواله بما فيها دوره في فرض وحشيّة الرأسماليّة الفظيعة ـــــ لكن دور رفيق الحريري وحلفائه أكبر في هذا الصدد ـــــ فإنه لن يغفر له دوره الشنيع في أثناء عدوان إسرائيل وبعده على لبنان عام 2006، حتى لا نتحدّث عن دور له مرسوم قبل بدء العدوان عندما بادر قبل غيره إلى مخالفة بنود بيانه الوزاري بشأن دعم المقاومة. (وفريق الحريري يعتبر أن يوم 7 أيار أشنع من شهر العدوان في تموز 2006).
سيذكر التاريخ أن الصحف الإسرائيليّة والأميركيّة ذكرت وذكّرت بأن إسرائيل لا تريد أن تقوّض حكومة السنيورة وسلطته بعدوانها على لبنان. كان هذا هو الخط الصهيوني الأحمر. لم يعلّق السنيورة على ذلك. حتى مجزرة قانا لم تهزّه، وإن كان نبيه برّي فرض عليه مقاطعة كوندوليزا رايس ليوم واحد، وعاد السنيورة وخالف ما وعد به عن فرض شروط على المفاوضة مع الولايات المتحدّة.
كان السنيورة يستطيع أن يوقف العدوان بموقف أو خطاب واحد، أو بتهديد شكلي بالاستقالة. كان يظن أنه يستطيع بالتكافل مع آل سعود، مصدر الفتنة المذهبيّة في منطقنا. وحتى عندما قامت إسرائيل بمناورة كبيرة قبل أيام، وقالت الـ «سي إن إن» إنها أكبر مناورة من نوعها في تاريخ الدولة الغاصبة، قال السنيورة إن «مراجع دوليّة» طمأنته إلى أن مناورة إسرائيل غير هجوميّة. يمكن السنيورة أن يركن إلى تطمينات المراجع الدوليّة لكن لا يمكن أهل الجنوب أن يركنوا إليها. هل هي المراجع ذاتها التي أكّدت له أن إسرائيل ستنسحب من مزارع شبعا بعد حرب تمّوز؟ أم أنها المراجع التي أكّدت له أن العدو سينسحب من قرية الغجر المحتلّة؟
مرّة أخرى، تمر ذكرى تحرير الجنوب من احتلال إسرائيل هكذا عرضاً. عيد البربارة يحظى باهتمام من الدولة وأجهزة الإعلام الرسميّة يفوق الاهتمام بعيد التحرير. ووزير السياحة اللبناني (الموهبة فقط هي التي أوصلته إلى الوزارة) كرّس أموالاً باهظة من موازنة الدولة لحثّ الشعب اللبناني على التصويت في موقع على الإنترنت لاختيار طبق الكبّة كواحدة من عجائب الدنيا السبع.
أصبح التحرير عبئاً على سياسة آل الحريري الذين ـــــ منذ وعود رفيق الحريري بالربيع المقبل ـــــ عملوا من أجل اتفاق 17 أيار آخر مع العدو. (يستطيع المرء أن يراجع كتاب جورج بكاسيني عن الحريري وكتاب أنطوان سعد عن البطريرك صفير للتحقق من شخصيّة رفيق الحريري السريّة ـــــ مثله مثل سوبرمان).
ما علاقة كلّ هؤلاء بالجنوب؟ هؤلاء منذ انطلاقة رفيق الحريري السياسيّة المدعوم بـ 1 ــ الرشى والفساد المالي. 2 ــ سلطة التدخل الخارجي (سوري أو سعودي أو فرنسي أو أميركي). 3 ــ تأجيج غير مسبوق للصراع المذهبي والطائفي في لبنان. هؤلاء لا علاقة لهم بالجنوب ولكن من الإنصاف الاعتراف بأن الجنوب لم ينتم يوماً إلى لبنان ـــ مسخ الوطن هذا. الجنوب كان ولا يزال عبئاً على الدولة لأنه يفضح عجزها وتقصيرها أو تواطؤها. الدولة اللبنانيّة تعاملت مع الجنوب منذ إنشاء دولة الكيان الغاصب على أنه حديقة خلفيّة لإسرائيل، تدخلها متى تشاء وتقتل فيها من تشاء وتسرق منها ما تشاء. ولبنان قرّر رسميّاً ومن دون إعلان أن لبنان ينأى بنفسه عن أية مساعدة للعرب في حروبه (الماضية) مع إسرائيل. هذه هي عقيدة فؤاد شهاب للجيش اللبناني التي سادت من 1948 حتى 1991. (لم يأتِ نقولا ناصيف على هذا الجانب في كتابه الموثّق عن فؤاد شهاب). كان شهاب يؤمن بنظريّة: «تودّد للشرّ، وغنِّ له».
ما نُشر من مراجع في العبريّة عن مفاوضات الهدنة بين لبنان وإسرائيل منذ 1949 تقشعرّ له الأبدان: تطمينات لبنانيّة بتطمينات، وتأكيدات أن لبنان لا علاقة له بالعرب. اعتبر فؤاد شهاب أن قضيّة فلسطين تعني كل الشعب العربي باستثناء لبنان لأن «ناسك صربا» لم يحتك بالناس خارج صربا ليلمس الغليان الشعبي حول فلسطين آنذاك، أو ليتعرّف على قضيّة شعب فلسطين من خلال المخيّمات. علاقة الدولة بفلسطين كانت في قمع الدولة للفلسطينيين وفي منعهم من الثورة على أوضاعهم.
وإسرائيل زارت لبنان قبل إنشائها. لعل فؤاد السنيورة وفريق الحريري يحتاجان إلى دروس في الجغرافيا والتاريخ اللبناني. إن ابتعاد الدولة عن الجنوب ــــ حتى قبل الاستقلال ــــ دفع بثقافة أهل الجنوب نحو العرب والعروبة. هذا ما حدا الشيخ أحمد عارف الزين لأن يهتف قبل الاستقلال: «إن تسل عنّي فهذا نسبي، عربي، عربي، عربي» (راجع نوال فياض، «صفحات من تاريخ جبل عامل في العهدين العثماني والفرنسي»). وعمل زعماء الإقطاع على ترويض شعب الجنوب كي لا تضرّ نزعاتهم العروبيّة وانتفاضاتهم الفلاحيّة بمصلحة المستعمر (أو الحكومة بعد الاستقلال). زعماء أهل الإقطاع كانوا وكلاء للقمع ولشراء الأصوات والولاء مقابل «خدمات» ــــ تكون عادة حقوقاً في الدول العادية. وفيما كان لبنان يفخر بهزليّات الأمير مجيد أرسلان وتهريجاته (وزير عدم الدفاع عن لبنان في الدولة «المُستقلّة») مُختلقاً له بطولات لا أثر لها في كتب تاريخ الصراع العربي ــــ الإسرائيلي التي تذكر أن لبنان خان العهد ــــ كعادتِه ــــ وتمنّعت قواته عن عبور الحدود نحو فلسطين في حرب 1948 رغم التزاماتها.
لم تعنِ فلسطين ولا الدفاع عن لبنان بوجه إسرائيل كثيراً لفؤاد شهاب الذي كان مشغولاً بـ «خطر» الحزب القومي (وخطر «ابن إده»). احتلّت إسرائيل عام 1948 رميش ويارون وعيترون وبليدا ومحيبيب وميس الجبل وحولا ومركبا والعديسة وكفركلا ودير ميماس وطلوسة وبني حيان ورب ثلاثين والطيبة ودير سريان وعلمان، وخاف لبنان أن يطالب بأراضيه، مثلما يخاف اليوم أن يطالب بأراضيه. (راجع الكتاب الموسوعي المهم لمنذر جابر عن «الشريط اللبناني المحتلّ»، ص. 9).
اكتفى المير مجيد بالتلويح ببعكوره الغليظ، وحيكت أساطير عن بطولات وهميّة في المالكيّة. أما مجزرة الصهاينة في حولا فكلّفت 90 ضحية قضوا على يد العدو الذي دمّر 250 منزلاً من أصل 250 (راجع كتاب أمين مصطفى، «المقاومة في لبنان»، ص. 115). ثم توالت الاعتداءات الإسرائيليّة وتوالى التخاذل اللبناني الرسمي، وتوالى التآمر على فلسطين من لبنان.
كانت إسرائيل تصطاد المدنيّين من أهل الجنوب (قبل انطلاق المقاومة وقبل اتفاق القاهرة، لأن هناك اليوم في لبنان من يأخذ بالرواية الصهيونيّة أن إسرائيل لم تعتدِ إلا بعد انطلاق المقاومة) مثل صيد الحجل. في يوم واحد عام 1950، قتل جيش العدو 4 لبنانيّين. لم تلاحظ الدولة. نامت كعادتها تحت الرمل عندما تعتدي إسرائيل. هذا الغياب للدولة ساعد في الزواج الخلاق بين أهل الجنوب والمقاومة الفلسطينيّة في الستينيات: المقاومة كانت تريد أن تتحرّر من خناق المكتب الثاني الظالم الذي كان يجبنُ أمام العدو ويستأسد أمام أهلنا العزّل في مخيّمات اللاجئين. كان الجنود اللبنانيّون، وهم يفرضون منع التجول المسائي في كل مخيّمات اللاجئين، يتسلّون بالتلصّص على نساء المخيم بأثواب النوم. كان ذلك فيما كان فؤاد شهاب والطاقم السياسي اللبناني يصرّ على إبعاد لبنان عن الصراع مع إسرائيل ليسهّل لإسرائيل مهمات الاعتداء على لبنان وتسلّل عناصر الكوماندوس إليه للاغتيال. سلسلة من الساسة في لبنان عرضت توطين الفلسطينيّين (راجع مقالة فؤاد مطر في «الشرق الأوسط» في 15 يونيو / حزيران 2008 عن خطة الحريري السريّة لتوطين الشعب الفلسطيني. ومطر مُناصر للحريري وملك السعوديّة، كما كان مُناصراً لصدّام وعبد الناصر من قبلهما).
هبّ شعب فلسطين في لبنان وهبّ معه أهل الجنوب: والعقيدة الشيوعيّة أمدّت السكان بتثقيف ضد سيادة الإقطاع وضد الظلم والقهر الاجتماعي (ظهر رفيق علي أحمد على شاشة «ال بي سي» لينفي نفياً قاطعاً ــــ على طريقة الشهود في عصر «ماكارثي» الذين كانوا يُساقون أمام لجنة مكافحة الشيوعيّة في الكونغرس الأميركي ــــ أنباءً عن شيوعيّته.
ليست الشيوعيّة سُبّة، يا رفيق على أحمد، وخصوصاً أن مسيرة تحرير الجنوب المزدوجة ــــ سياسياً من الاحتلال واجتماعيّاً ــــ سياسيّاً من الإقطاع ــــ مدينة للإسهام الشيوعي الرائد. كان الفكر الشيوعي يحرّض على الثورة وعلى مقاومة إسرائيل فيما كان رجال الدين يهادنون الإقطاع، وأحياناً بأوامر من المكتب الثاني.
وتوالت الاعتداءات ولم تتوقّف. أدعياء «النضال الدبلوماسي» لا يعلمون ــــ أو يعلمون ولا يكترثون ـــــ أن السنوات الممتدة من 1949 و1964 سجّلت نحو 140 اعتداءً على لبنان، فيما سجلت السنوات بين 1968 و1974 نحو 3000 اعتداء وأدت إلى قتل 880 مدنيّاً من اللبنانيّين والفلسطينيّين. (راجع كتاب وزارة الإعلام اللبنانيّة عن التحرير). (يحتاج سامي الجميّل إلى قراءة هذه الأرقام، وهو الذي يقول هذه الأيام إن لبنان كان سويسرا قبل اتفاق القاهرة وإن إسرائيل لم تعتد على لبنان قبل 1969. لا ندري إذا كان الجميل سيرافق إيلي ماروني عندما يقتحم الأخير معاقل حزب الله لنزع سلاحه، مصطحباً عجزة المكتب السياسي لحزب الكتائب النازيّة). أما في الحرب الأهليّة، فلا يسهل التعداد لأن اعتداءات إسرائيل كانت مباشرة وغير مباشرة من قبل حلفائها وأعوانها من الميليشيات.
ثار الجنوب وثارت الدولة على ثورته. حاول زعماء الإقطاع إخماد الثورة بالقمع والوعود وبمجلس سرعان ما تحوّل على أيدي الأسعديّة إلى مجلس للجيوب العميقة. برز موسى الصدر في تلك الفترة، لكنه لم يستطع أن يبارز أحزاب القومية واليسار، واضطرّ إلى المغادرة عبر دمشق عندما أيّد التدخل العسكري السوري عام 1976. وحاول الجيش اللبناني أن يعيد تجربة مجازر أيلول عندنا في 1973 لكن التلاحم ــــ تلاحم عن حق وحقيق وليس مثل مزاعم الخطب في حقبة سيطرة النظام السوري ــــ بين الشعبيْن اللبناني والفلسطيني (خارج نطاق الكتائبيّة النازيّة) قوّض المؤامرة، واشتد ساعد اليسار وقويت المقاومة وصلُب عودها.
وعندما انهارت الدولة الطائفيّة، سارعت المقاومة و«الحركة الوطنيّة» لملء الفراغ. كان يمكن تجربة سيطرة المقاومة والحركة الوطنية أن تكون نموذجيّة، ولكن ماذا تتوقع من القيادة العرفاتيّة التي تخصّصت في تعيين الفاسدين وفي محاربة الثورة باسم الثورة: يمكن عزو ذلك إلى نظريّة مؤامرة ضد الثورة عينها. زاد من المشكلة ضخ دعائي هائل لإذاعة «صوت لبنان» الكتائبيّة التي كانت تعمل بإشراف إسرائيلي. التشديد كان على زرع كراهية عنصريّة ضد الشعب الفلسطيني برمّته نتيجة أفعال أفراد ومنظمّات (ونسي البعض يومها أن أكثر أهل الجنوب كان نفسه منخرطاً في تنظيمات فلسطينيّة نال منها مالاً وثورة وتمرّداً وعناداً).
نجح إعلام إسرائيل ومن عاونه في ميليشيات النازي اللبناني الصغير، كما أن قيادة عرفات ساهمت في نشر الفساد واستعماله. جيش لبنان العربي لم يساعد في تجربته هو الآخر، وإن كان جناحاً عرفاتيّاً. و«الحركة الوطنيّة» غرقت في أموال الدعم الخارجي إلى درجة أنها نسيت برنامجها المرحلي (الذي كنّا نحن في اليسار الثوري نعتبره غير معبّر عن طموحات الثورة، لكننا بمقياس الطائف نشتاق إليه).
وتمدّدت إسرائيل في الجنوب من خلال جيش سعد حدّاد (ولحد من بعده). لم تبادر آنذاك «الحركة الوطنيّة» أو المقاومة لاستئصال الظاهرة السرطانيّة. وعندما تقدّم حزب ثوري في الحركة الوطنيّة بمشروع لتحرير الجنوب في عام 1978، تثاءب العرفاتيّون وحلفاء سوريا. وعندما اجتاحت إسرائيل الجنوب عام 1978، بادر عراقي ماركسي من أصول عمّالية (ولد في غرفة من طين وكان في الستينيات رئيساً لاتحاد العمّال العرب)، هاشم علي محسن، إلى إنشاء «جبهة المقاومة الوطنيّة لتحرير الجنوب من الاحتلال والفاشيّة». تلك كانت البذرة. (لسبب من الأسباب، يصرّ حزب الله على إغفال دور الشيوعيّين في المقاومة). سقط رفيق بطل من بيروت، هو أياد نور الدين المدوّر، شهيداً أوّل لجبهة المقاومة. يذكره رفاقه بالخير إلى اليوم. كم مات بصمت ـــــ هذا الذي كان يعيّر رفيقاً له لأنه كان يتزيّن بالعطور.
وعرفت إسرائيل كيف تجتاح: سهّلت البيئة الخلفيّة: زرعت متعاملين اخترقوا مختلف المنظمات الفلسطينيّة واللبنانيّة وعاثوا فساداً في الأرض والسماء. والثورة الإيرانيّة أصابت أهل الجنوب بنوبة الدين وانطلقت حركة أمل مرة ثانية (بعد انطلاقتها الأولى الخافتة) واستفادت من جو العداء العنصري ضد الشعب الفلسطيني. وفساد ثورة عرفات زاد السوء سوءاً. وهل من ينكر أن جلّ أهل الجنوب استقبل جيش العدو بالترحاب عام 1982؟ كان التعاون والتعامل مع إسرائيل سارياً وعلنيّاً. شاهدتُه بأم العين صيف 1982 في منطقة صور. كان قلّة من الشيوعيّين يُنظّر لمقاطعة إسرائيل ـــــ على أقل تقدير ـــــ فيما كان البعض الآخر يجول سياحيّاً في فلسطين المحتلّة. لن أنسى ما حييت رضا حسون: المزارع الفلسطيني الذي اضطرّ إلى الهرب من صور إلى بيروت. زرته في ما بعد وكان يقطن في مدخل بناية قيد الإنشاء. بدا مكسوراً: انتمى إلى تنظيمات الثورة في مرحلة العزّ واعترف لي بأن لهجته الفلسطينيّة باتت مصدر خطر عليه في تلك الأيام.
وشارك قادة محليّون في حركة أمل في إثارة نعرة عنصريّة ضد الشعب الفلسطيني (كما قامت حركة 14 آذار ببث روح عنصريّة بغيضة ضد الشعب السوري الذي لا يزال رعاياه يتعرّضون لاعتداءات دوريّة وقتل في مناطق مختلفة في لبنان وخصوصاً في عاليه). هذه العنصريّة وجدت متنفّسها في حرب المخيّمات الوحشيّة ـــــ ويجب عدم مسامحة أية جريمة ضد أهلنا في المخيّمات بما فيها تلك الحقبة من حروب لبنانيّين مُتحالفين مع النظام السوري ضد أهل المخيّمات. ثم يتساءل بعض اللبنانيّين عن رفض الشعب الفلسطيني لنزع سلاحه. يومها مشى بعض الصبية في مدينة صور وهتفوا أن «الفلسطيني عدو الله». (لهذا، يخطئ من يحيط أي طائفية بقدسيّة دائمة بشأن الموقف من القضيّة الفلسطينيّة. كل الطوائف غيّرت مواقفها لمصلحتها الخاصّة).
مرّ الجنوب اللبناني بمراحل مختلفة كان القاسم المشترك الوحيد فيها غياب الدولة اللبنانيّة بالكامل عنه وعن قضاياه. يرغب دعاة المذهبيّة في تيار الحريري بالتذكير بأن الشمال يحوي اليوم أفقر فقراء لبنان، وهذا صحيح. لكنهم يريدون من ذلك تهميش قضايا الجنوب وكأن الفقر كان المعاناة الجنوبيّة الوحيدة. إسرائيل كانت المعاناة الكبرى في حياة أهل الجنوب. وكان الإقطاع الشيعي (المتحشرج ـــــ شكراً للحرب الأهليّة التي قضت بالضربة القاضية على الإقطاع الشيعي) يخدم مصالح الطبقة الحاكمة: كان زعماء الإقطاع الجنوبي أدوات في أيدي زعماء في مكان آخر من لبنان.
هناك في 14 آذار من يريد لأهل الجنوب أن ينسوا التاريخ والجغرافيا والشعر والمثل الشعبي وجيرة شعب فلسطين. يريدون منه أن يتقبل عدوان إسرائيل وأن يقدّم المقاومة على طبق خدمة للعدو ولـ «المجتمع الدولي» (الرمز التشفيري في 14 آذار للإمبراطوريّة الأميركيّة). يعوّلون ـــــ يقولون ـــــ على السلاح الدبلوماسي. نايلة تويني (التي نفت «نفياً قاطعاً» أن تكون مسلمة مثلما نفى رفيق على أحمد أن يكون شيوعيّاً) تتحدّث عن مقاومة إسرائيل بالازدهار و«الرخاء». هلمّوا إلى المعاملتين. فبها تتحرّر الأوطان، وخصوصاً إذا هطلت دموع السنيورة.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت:
i(angryarab.blogspot.com