أن تهتم بالشؤون الثقافية، يعني بالتأكيد أنك سمعت عن الحي اللاتيني، عن مكتباته، ومقاهيه، عن كبار المثقفين والكتّاب والفنانين الذين تناوبوا على طاولات أرصفته، تلك التي شهدت نقاشات حادة. الحي اللاتيني ليس جزءاً من باريس فقط، إنه جزء من الذاكرة الثقافية العالمية الحديثة... لكنه في السنوات الأخيرة يشهد تغيّراً

خضر سلامة
يأخذ المترو الباريسي قيلولة سريعة في محطة سان ميشيل، يأمرني القلب بالترجل، وتقودني قدماي إلى الشارع الذي يتعاطاه السياح «أفيوناً» لحنينه إلى ماضٍ ترك بصماته في كل شيء... حديقة اللوكسمبورغ حاضرة في موعد الاستقبال، الحي اللاتيني بصيغة حديثة هنا، ماذا لو عاد جان بول سارتر؟ أين سيجد مكاناً لمعطفه في زحمة الثورات الخائبة والمفكرين المرتدين والأجيال المنهكة وجودياً في حيّه؟ الحيّ الأشهر في صفحات أطلس الثقافة العالمية: الحي اللاتيني.
تعود تسمية الحي اللاتيني، إلى القرون الوسطى، حين كانت اللاتينية هي اللغة الحصرية لجامعات الحي ورواده، وظلت كذلك حتى أواخر القرن الثامن عشر، احتل الرومان المنطقة الجغرافية الواقعة إلى شمال نهر السين عام 52 قبل المسيح، حينها أسسوا أول مسرح وأول معرض، كما شقوا أول طريق، وهي التي تُعرف اليوم باسم شارع سان جاك، كما نقلت معظم الآثار الرومانية إلى متحف كلوني وما زالت هناك إلى يومنا.
في القرن الثاني عشر، تأسست جامعة باريس في كلواتر نوتردام، وبدأ صيت المنطقة الجامعي، إلى أن أسس روبرت دو سوربون معهداً خاصاً بالفقراء منتصف القرن، أصبح لاحقاً أشهر جامعة حقوقية وأدبية في العالم، تحولت السوربون إلى عامل جاذب للطلاب في فرنسا والعالم، لتصبح ماكينة سياسية وفكرية ضخمة.
جمهورية صغيرة تتنازعها أسماء الشوارع الكثيرة، نشيدها الوطني يرتجله فنانو الشوارع الموزعون بنظام موسيقي، يقع الحي اللاتيني في المستديرتين الخامسة والسادسة في باريس، الجامعات الكثيرة، المعاهد الكبرى، المكتبات الضخمة ومنها المتخصصة في الشعر والفلسفة، الجسور التي تشير إلى أنك على الكتف الشمالي لنهر السين، كلها تجتمع لتحدد عنوانك «بالزبط»، ويكاد يكون صيت العاصمة الفرنسية الثقافي ماركة مسجلة باسم هذا الحي... دانتي، كارل ماركس، جون بول سارتر، أوغست كنط... عبروا من هنا يوماً، ولنا نحن أيضاً ذاكرتنا الفصيحة، سهيل إدريس، طه حسين، نجيب محفوظ، توفيق الحكيم.. وبعد كثير من أهل المشرق الذين سقطوا في ثقب الصدمة الثقافية في هذا الحي بالذات، من شباك جامعة السوربون التي تتربع على عرشه.
معالم الحي اللاتيني مزروعة في كل الزوايا، جادة السان ميشال الأشهر، بنافورتها الجميلة الفريدة، مبنى البانثيون المنمق على شكل صورة لتاريخ دولة ومؤسسة علمية، متحف العصور الوسطى وفيه سيرة أوروبا الحضارية، ومباني المعاهد العتيقة والحديثة، مسرح الأوديون ثم كاباريه البارادي لاتين، والكنائس المنحوتة والمركبة كفسيفساءات فنية من كنيسة سان سولبيس إلى الكوردولييه وعظمة سانت اتيان دو مون.. حتى تفاصيل الحي وشرايينه الداخلية، شوارع تأخذك بدهشة الطرق المرصوفة إلى تذوق كل شيء، والبحث عن كل شيء.
كان الحي اللاتيني في خمسينيات القرن الماضي وستينياته، نافذة الحركات التحررية التي عمت أوروبا كلها ومن ثم العالم، ثقافياً واجتماعياً وأخلاقياً، ربما وجود السوربون إلى جانب 25 جامعة ومعهد ومدرسة أخرى كان التربة الملائمة لنمو ما حدث حينها، تحول الحي اللاتيني إلى كتلةٍ اجتماعية من نوع ثقافي خالص، يروي دليلنا الذي عايش تلك الفترة، أن المقاهي والبارات الصغيرة كانت تُحصى بالمئات، وتجمع فيها يومياً الكتاب والصحافيين والقادة الطلابيين لتدور حلقات النقاش في عز الحس الثوري العالمي حينها، والذي ترجم عام 1968 في أيار الشهير، بانتفاضة شبابية خالصة، قادها رواد الفلسفة الأوروبية حينها، انطلقت ثورة 1968 من الحي اللاتيني بالذات، وغيّرت وجه فرنسا الكاثوليكي اجتماعياً، وهزت الديغولية سياسياً.. ولو أحبطت الثورة وأصحابها لاحقاً.
الحي اللاتيني اليوم منهك في زمن العولمة، مارغريت دوراس هجرت كافي فلور، ولم يحل مكان السيدة الجميلة المتألقة في كتاباتها إلا سائحات وشابات يستعرن من المكان أزياء تليق بتحولات العصر.. هل كتبت «سد بوجه المحيط الهادئ» هنا؟ لا يهم، سقطت السدود وجاءت الوجوه من كل الأمكنة، لا لتبحث عن حب ضائع بحثت عنه دوراس، بل عن مشهد سياحي أو وجبة سريعة، كل شيء يشير إلى حضارة ضائعة، أو ثقافة مخبأة في بضعة مقاه في الشوارع الجانبية صمدت أمام زحف المطاعم الأنيقة التي تلائم أصناف العابرين الجدد، سياحاً مأخوذين بدهشة الأبنية القديمة المزخرفة بدقة متذوق فني، أو الطلاب الذين غلب عليهم، بعد تراجع اليسار الفرنسي، رغم وجوده في زخم منظمات طلابية كثيرة ينقصها الحزم، غلب عليهم الطابع الأنارشي (الفوضوي) رغم تمسكهم بتعصبٍ نادر وروح قيادية لطلاب الأطراف الفرنسية، مقاهي الحي اللاتيني ينقصها شيء من ملامح السان جيرمان القديم المؤرخ في رواية الحي اللاتيني لسهيل إدريس، والحانات الصغيرة تنقرض شيئاً فشيئاً ومعها العجّز المسلحون بأوراقهم ونقاشاتهم السياسية والفكرية، مكتبات الجادة الشهيرة الصغيرة التي يديرها متذوقون لمقتنياتها، اختفت وأفسحت مجالاً لمكتبات أكثر زحمة في موادها، وأشد تشدداً في عقلها التجاري، حتى سيجارة جان بول سارتر التي كان يعرفها مقهى لي دو ماغو، أصبحت من الممنوعات في ظل قانون حظر التدخين في المطاعم والمقاهي.. الحي اللاتيني ينقرض، نحن أيضاً، من يدري؟
في الشارع الضيق المكتظ بالأبنية الجميلة التي تترك رائحة القرون في جيبك، فيلسوف واحد لا مثيل له، رئيس وزراء الحي اللاتيني، هكذا يسميه أصحاب الحانات، كريستيان، الستيني المتشرد في هذا الحي منذ أربعين عاماً، دون سكن، راضٍ بسيجارة لا تفارق يده، يشرح لأصحاب الحشرية التاريخية تاريخ هذا الحي، من أين اكتسب لقبه الحكومي؟ من شائعة يتناقلها الجميع هنا عن أنه كان في صف فرنسوا فيون، رئيس وزراء فرنسا «الشرعي»، في المدرسة، رغم أنه ينفي ذلك ويقول إن كل ما في الأمر أنهما كانا صديقين وعائلتيها أيضاً، يلتقيان في «كافيه سكارون»، «كان ذلك منذ زمن طويل، هو اختار أن يصبح رئيساً، وأنا.. متشرداً، منذ ثورة مايو وما لحقها، تركت دراستي الحقوقية في السوربون، واخترت طريق الفوضى»، فيلسوف بحق، يناقش في كتابات هيغو، وفي الفكر الماركسي، يحمل دوماً معطفاً وكتاباً يقتل به الوقت والأعين التي تلاحقه، «أنا آرثور رامبو آخر» هكذا يكرر على مسامع كل من يشكك في خياره الحياتي، وجه من حقيقة الحي اللاتيني.
كتبوا كثيراً عن الحي اللاتيني، كان هذا الحي رسولاً للفكر التقدمي في غرب القرن العشرين، ورسولاً لديانة الصدمات الثقافية للقادمين من الشرق، استقبل الرسامين والشعراء والمفكرين والمنظرين من مئات السنين إلى اليوم، وما زال يشرع أبواب جامعاته وما بقي من مقاهيه لمن بقي من أولئك أو اختار المحاولة، تغير الكثير في وجه الحي اللاتيني، تغيرت فرنسا والعالم، لكن ذاكرة الأماكن والأرصفة والجسور وشوارع التظاهرات ومقاهي المناظرات أمينة، ولا تخون، تبقى هوية الحي اللاتيني في قلوب من عرفه أو قرأ صورته في مذكرات الراحلين، ويبقى نافذة الهوية الثقافية لأجيال قريبة، أو قادمة.


تاريخ وأدب

«الحيّ اللاتيني» هو أيضاً عنوان لإحدى رويات الراحل سهيل إدريس، وقد أسهمت هذه الرواية في ترسيخ صورة المكان في الأذهان. ابن بيروت الذي ذهب إلى باريس لإكمال دراسته، سيعود إلى العاصمة اللبنانية ويؤدي دوراً مهماً في إغناء الحياة الثقافية للبلاد. مؤسس دار الآداب ومجلة الآداب، كاتب وروائي وواضع قاموس فرنسي ـــــ عربي، يعد من أهم المراجع.
المولودون قبل الحرب الأهلية وخلالها، محبو القراءة يعرفون جيداً رواية إدريس، لكن أبناء الجيل الجديد قد لا يدركون أن هذا الكتاب الغني يسمح لهم بالتعرف إلى الحي الباريسي الشهير ودوره ومقاهيه ومثقفيه وجامعة السوربون، كل ذلك من خلال قصة شاب عربي في الحي اللاتيني.


جلسة

التدخين ممنوع


قرار منع التدخين في الأماكن العامة انسحب أيضاً على مقاهي الحي اللاتيني، وإن كان كثيرون يؤكدون أن بحّات النساء اللواتي يدخّنّ سجائر الغولواز اختفت منذ زمن. «لي دو ماغو» على ناصية «سان جيرمان دو بري» صار منذ نحو عامين «مقهى من دون تنباك»، وكذلك الأمر في «كافي فلور» الذي ارتادته مارغريت دوراس. مقاهي الحي كلها «أماكن سياحية» يرتادها أميركيون ويابانيون إلى جانب سياح أوروبا الشرقية الذين يدّخرون أشهراً لشرب شوكولا في مقهى شهير. من غاب عن الحي سنوات أو عقوداً قد تخذله مخيّلته، فثمة نمط تغير فيه، وقد يبدو للبعض مختلفاً عما ظهر عليه في أفلام قديمة. كان الحي وجهة عشاق الثقافة الذين كانوا يفتقدون إلى فسحات مماثلة في مدنهم، إلى أحياء تزدهر بمكتباتها وتنمو على أرصفتها مقاهٍ تحتضن المثقفين الكبار وجدالاتهم ونقاشاتهم... وسجائرهم.