عام 2005، قبل الانتخابات التشريعية المكسيكية، أصدر «جيش زاباتيستا للتحرير الوطني» الذي يخوض حرباً مع السلطة الحاكمة في بلاده منذ 1994، إعلاناً يتضمن رؤيته الخاصة للوضع في بلده وفي العالم. وضع يتشابه كثيراً مع ما نعيشه في لبنان قبل الانتخابات النيابية، وخصوصاً لجهة انقسام البلاد إلى معسكرين أحلاهما مرّ. تنشر «الأخبار» في ما يلي أجزاءً من البرنامج تتعلّق بالوضع الداخلي المكسيكي، آنذاك وتقييم هؤلاء المناضلين له
سنخبركم عن الطريقة التي ننظر بها إلى بلدنا. ما نلاحظه هو أنّ بلدنا يحكمه النيوليبراليون. كما سبق وقلنا، قادتنا يدمّرون بلدنا، المكسيك. لم يعمل هؤلاء القادة للاهتمام برفاهية الشعب، فهم مأخوذون، عوضاً عن ذلك، برفاهية الرأسماليين. يصدرون مثلاً قوانين، كاتفاقية التجارة الحرة، تفضي في النهاية إلى إفقار المكسيكيين، كالمزارعين وصغار المنتجين، الذين تبتلعهم الشركات الكبرى. كذلك يتأثّر أيضاً العمّال وأصحاب المصالح الصغرى الذين لا يستطيعون منافسة الشركات المتعددة الجنسيات الكبيرة التي تدخل إلى البلاد من دون اعتراض من أحد. لا، بل يُوجَّه إليها الشكر بعد أن تفرض رواتبها المنخفضة وأسعارها المرتفعة. إذاً، بعض المؤسسات الاقتصادية في المكسيك، أي الريف والصناعة والتجارة الوطنيتان، تُدمَّر، ولا يبقى منها إلا بعض الفتات الذي سيبيعونه حتماً.
هذا كلّه مخجل بالنسبة إلى وطننا. فالطعام لم يعد ينتج في مناطقنا الريفية. هناك فقط ما يبيعه الرأسماليون الكبار. كذلك تسرق الأراضي الجيدة عبر الخداع وبمساعدة السياسيين. ويدمر بعض رجال الأعمال الأجانب المناطق الريفية. وفي الأماكن التي كانت فيها في السابق بعض الأموال وحماية للأسعار، حلت مكانها الأعمال الخيرية، وليس في كلّ الحالات.
في ما يتعلّق بعمّال المدن، فإنّ المصانع تُغلق ويترك العمال بالتالي من دون عمل، أو تفتح معامل أجنبية تدفع القليل مقابل ساعات طويلة من العمل. ولا يعود الناس يكترثون بارتفاع أسعار المواد الأولية التي يحتاجون إليها لأنّهم أصلاً لا يملكون المال. وتوقف الذين كانوا يعملون في ورش صغيرة ومتوسطة عن العمل، بعدما أغلقت أو اشترتها الشركات المتعددة الجنسيات. كذلك اختفت الأعمال الصغيرة، وذهب أصحابها للعمل في التجارات الكبرى، حيث يُستغَلون، وحيث يُشَغَّل الأطفال أيضاً. وإذا انتسب العامل إلى نقابة للمطالبة بحقوقه الشرعية، تخبره النقابة أنّه سيضطر للتأقلم مع انخفاض راتبه أو ساعات عمله أو حرمانه من حقوقه المكتسبة، وإلا فستغلق التجارة وتنتقل إلى بلد آخر. وتواجهنا سياسات الحكومة الرامية إلى تحويل كلّ عامل إلى بائع للعلكة أو لبطاقات الهاتف على ناصيات الشوارع. بكلمات أخرى، تتعرض المدن للتدمير الاقتصادي أيضاً.
وبما أنّ اقتصاد الشعب يُدَمَّر في المدن والمناطق الريفية، يعمد رجال المكسيك ونساؤها إلى الهجرة للبحث عن عمل في دولة أخرى، الولايات المتحدة الأميركية. لا يعامَلون جيداً هناك، بل يُستغَلّون، ويُعذَّبون، ويُعامَلون باحتقار، وحتى إنهم يُقتلهم. تحت نير النيوليبرالية التي تفرضها الحكومات، لم يتحسن الاقتصاد. على العكس، أصبحت المناطق الريفية في عوز كبير، ولا عمل في المدن. وما يجري هو أنّ المكسيك تحوّلت إلى مكان يعمل فيه الناس من أجل ثروة الأجانب، وتحديداً الأميركيين الأغنياء، مكان تولد فيه لوهلة ثم تموت. لهذا نقول إنّ المكسيك تسيطر عليها أميركا.
ليس هذا كلّ شيء. فقد غيّرت النيوليبرالية الطبقة المكسيكية الحاكمة، وحوّلت السياسيين إلى موظفين في متجر تقضي مهمتم بمحاولة المستحيل لبيع كلّ شيء داخل هذا المتجر بسعر بخس. ورأيتم كيف عدلوا الدستور ليستطيعوا بيع أراضي المشاعات. كان هذا من فعل الرئيس السابق ساليناس دو غرتاري، الذي قال هو وعصابته إنّ هذا من أجل مصلحة المناطق الريفية والفلاحين، وإنّهم هكذا سيستطيعون الازدهار والعيش أفضل. هل أصبح الوضع كذلك؟ الريف المكسيكي في أسوأ حالة له، ووضع الفلاحين تدهور أكثر. كما يقول السياسيون إنّهم سيعمدون إلى خصخصة الشركات التي تملكها الدولة للمساعدة في تحسين وضع الناس. والسبب الذي يعطونه هو أنّ هذه الشركات لا تعمل جيداً وتحتاج إلى التحديث، ومن الأفضل بيعها. كذلك يقولون إنّه يجب فتح الحدود ليتمكّن رأس المال الأجنبي من الدخول، وهكذا يكون إصلاح كلّ الأعمال والمهن المكسيكية، وستتحسن الأوضاع عموماً. لكننا اليوم نرى أنّه لا وجود لقطاعات أعمال وطنية، فقد ابتلعها كلّها الغرباء، وما يُباع اليوم من بضائع أسوأ مما كان يصنع سابقاً في المكسيك.
ويريد السياسيون المكسيكيون بيع شركة النفط الوطنية «بيميكس»، أي النفط الذي يملكه المكسيكيون، والفرق الوحيد أنّ البعض يقول إنّه يجب بيعها كلها، فيما آخرون يقولون إنّه يجب بيع قسم منها فقط. كذلك يريدون خصخصة الضمان الاجتماعي، الكهرباء والمياه والغابات وكلّ شيء، حتى لا يبقى شيء في المكسيك، ويصبح وطننا أرضاً مقفرة أو مكاناً لترفيه الأغنياء من كلّ دول العالم، ويكون المكسيكيون، رجالاً ونساءً، خدّاماً لهم، اعتماداً على ما يقدمونه من إسكان سيّئ من دون جذور ولا ثقافة، ومن دون وطن حتى.
إذاً، يريد النيوليبراليون قتل وطننا المكسيك. والأحزاب السياسية ليس فقط لا تدافع عن المكسيك، بل تضع نفسها في خدمة الأجانب، وخصوصاً أولئك الآتين من أميركا، وهم المسؤولون عن خداعنا، عبر جعلنا ننظر في الجهة المقابلة، فيما يباع كلّ شيء وهم يأخذون المال. كلّ الأحزاب السياسية الموجودة، وليس قسم منها، مشتركة في هذا الخداع. فكر في ما إذا كان قد نُفِّذ شيء تنفيذاً جيداً، وسترى أنّه لا، لم يكن هناك سوى السرقات والخداع. وانظر كيف يحظى السياسيون بمنازل جميلة، وسيارات فاخرة وكماليات. ولا يزالون يريدوننا أن نشكرهم وننتخبهم مجدداً. ومن الواضح أنّهم بلا حياء. وهم لا يعرفون الحياء لأنّ لا وطن لديهم، فقط حسابات مصرفية.
نلاحظ أيضاً أنّ تهريب المخدرات والجرائم ازدادا أخيراً. ويفكر البعض في أنّ المجرمين هم كما يصورونهم لنا في الأفلام. ربما كان بعضهم كذلك، لكن ليسوا السارقين الحقيقيين. السارقون الحقيقيون يتجولون بثياب جميلة، يدرسون خارج البلاد، أنيقون، لا يختبئون، يأكلون في مطاعم راقية ويظهرون في الصحف. هم «ناس جيدون» كما يقال، وبعضهم حتى في مواقع مسؤولة، نواب، وزراء، رجال أعمال ناجحون، رؤساء شرطة وجنرالات.
هل نعني أنّ السياسة لا تؤدي إلى هدف؟ كلا، ما نقصده هو أنّ «هذه السياسات» لا تؤدي إلى هدف. وهي غير نافعة لأنّها لا تأخذ الشعب في الحسبان. لا تستمع إليه، لا تتنبه له، فقط تتقرب منه حتّى موعد الانتخابات. وهم لم يعودوا يريدون أصواتاً، فالإحصاءات تكفيهم ليعرفوا من فاز. وهنالك الوعود التي يغدقها أحدهم، مقابل ما يقول آخر إنّه سيفعل، ثم «إلى اللقاء، سنراك». لكنّك لن تراهم مجدداً، إلا عندما يظهرون في الصحف بعد أن يكونوا قد سرقوا مبلغاً كبيراً من المال ولا يمكن فعل أي شيء لأنّ القانون ـــــ الذي وضعه هؤلاء السياسيون ـــــ يحميهم.
وهذه مشكلة أخرى، فالدستور عُبث فيه وغُيِّر. لم يعد دستور حقوق العمال وحرياتهم. اليوم توجد فيه حقوق وحريات النيوليبراليين ليستطيعوا الحصول على أرباح ضخمة. والقضاة موجودون ليخدموا هؤلاء النيوليبراليين، لأنّهم يحكمون دائماً لمصلحتهم، أما الفقراء فيحصلون على الظلم، السجن والقبور.
حسناً، رغم كلّ هذه الفوضى التي يخلقها النيوليبراليون، هناك نساء ورجال مكسيكيون ينظمون أنفسهم في مقاومة مناضلة. وهناك أيضاً سكان أصليون أرضهم بعيدة جداً عنا هنا في «شياباس»، يحكمون أنفسهم ويدافعون عن ثقافتهم ويهتمون بأرضهم وغاباتهم ومياههم. وهناك عمال ومزارعون في الريف ينتظمون ويقيمون مسيرات وحملات للمطالبة بأموال ومساعدات للريف. وهناك عمال في المدن لا يسمحون لأحد بسلبهم حقوقهم أو خصخصة وظائفهم. وهم يتظاهرون ويعترضون كي لا يُسلَبوا القليل الذي يملكونه، وحتى لا تُسلَب البلاد ما تملكه حصراً، أي الكهرباء، النفط، الضمان الاجتماعي والتعليم.
إضافة إلى ذلك، يوجد طلاب يقفون ضد تخصيص التعليم، ويحاربون من أجل استقلاليته وشعبيّته وعلميّته، حتى لا يُفرض المال على من يريد التعلّم، وكي لا تدرَّس أشياء سخيفة في المدارس.
هناك أيضاً نساء لا يسمحن بمعاملتهنّ كزينة أو تحقيرهن، ويتنظّمن ويحاربن للاحترام الذي يستحققنه. وهناك شبان لا يقبلون إفسادهم بالمخدرات أو ملاحقتهم، لكنّهم يحاولون توعية أنفسهم مع موسيقاهم، ثقافتهم وثورتهم. وهناك مثليّون، ومثليّات ومتحوّلون جنسياً لا يقبلون بأن يسخر منهم أحد أو يعاملهم معاملة سيّئة أو يقتلهم لأنّهم يتصرفون باختلاف، أو أن يجري التعامل معهم على أنّهم مجرمون أو غير طبيعيين، وهم يؤسسون منظماتهم الخاصة للدفاع عن حقهم في الاختلاف. وهناك رجال دين وراهبات، يسمّون علمانيين، لا ينحازون إلى الأغنياء، ولم يستسلموا، وهم يساندون نضالات الشعوب.
هناك أيضاً الناشطون الاجتماعيون، وهم رجال ونساء حاربوا كلّ حياتهم من أجل الناس المستغلين، وهم الأشخاص أنفسهم الذين شاركوا في الإضرابات الكبيرة وتحركات العمال وحملات المواطنين والفلاحين. يعاني هؤلاء من قمع كبير، لكنهم يتابعون نضالهم من دون استسلام، ويذهبون إلى كلّ المناطق بحثاً عن العدالة، ويؤسسون المنظمات اليسارية غير الحكومية وتلك التي تعنى بحقوق الإنسان، والمنظمات التي تدافع عن المعتقلين السياسيين والمفقودين. كذلك يؤسس هؤلاء الصحف اليسارية ونقابات المعلمين والطلاب، ويشاركون في النضال الاجتماعي، وفي المنظمات السياسية والعسكرية، هؤلاء لا يجلسون ساكنين ويعرفون الكثير لأنّهم شهدوا على الكثير وناضلوا كثيراً.
هكذا نرى أنّه في العموم، في بلدنا المكسيك، هناك عدد كبير من الناس ليسوا راضين عن واقع الحال، لا يستسلمون، ولا ينسحبون. هؤلاء أشخاص نبلاء. هذا يجعلنا سعداء جداً لأنّه مع وجود كلّ هؤلاء الأشخاص لن يكون سهلاً للنيوليبراليين أن يفوزوا، وحينها قد يكون من الممكن إنقاذ وطننا من الناهبين ومن التدمير الذي يلحقونه به.
(...)
ما نريد أن نفعله في المكسيك هو الاتفاق مع الأشخاص والمنظمات، من اليسار حكراً، لأنّنا نؤمن بأنّه في اليسار السياسي تكمن فكرة مقاومة العولمة النيوليبرالية، وفكرة بناء وطن فيه عدالة، ديموقراطية وحرية للجميع. ليس كما هو الوضع الآن، حيث العدالة فقط للأغنياء، والحرية فقط لمشاريعهم الكبيرة، والديموقراطية فقط لطلي الجدران ببروباغاندا الانتخابات. كذلك نؤمن بأنّه فقط من اليسار تظهر خطة للنضال، حتى لا يموت وطننا المكسيك. وعندها، مع هذه المنظمات والأشخاص اليساريين، سنضع خطة للذهاب إلى كل مناطق المكسيك حيث الناس البسطاء والمتواضعون مثلنا. لن نقول لهؤلاء ما يجب فعله، ولن نأمرهم. كذلك لن نطلب منهم التصويت لهذا المرشح أو ذاك، لأنّنا نعرف أنّ الكل نيوليبراليون. ولن نطلب منهم أن يكونوا مثلنا أو أن يثوروا بالسلاح. سنحاول معرفة كيف يعيشون حياتهم، نضالاتهم، أفكارهم تجاه الوطن، وما يجب فعله كي لا نهزم.
قد نتوصل إلى اتفاق بيننا، نحن البسطاء والمتواضعين، وسننتظم معاً في كل البلاد ونصل إلى اتفاقات في ما يتعلق بنضالاتنا المتفرقة حالياً، وسنجد ما يشبه البرنامج يحتوي على كل ما نريده وسنبتكر خطة لإنجازه وهو «برنامج النضال الوطني»...
(ترجمة ديما شريف)