مصطفى بسيوني*زيارة أوباما لمصر. صوّر الإعلام المصري الحدث على أنه الأكثر أهمية في تاريخ البلد الحديث، فلن يكون مستغرباً بعد كل الضجة السابقة والمصاحبة والتالية له أن يتحول يوم الرابع من حزيران/ يونيو ــــ يوم الزيارة ــــ إلى ذكرى سنوية وعيد قومي! ليس تقليلاً من شأن الزيارة التي تأتي بعد مرحلة فتور في العلاقات المصرية الأميركية. ولكن الأهمية تبدو مختلفة حسب الطرف الذي ينظر إليها: النظام المصري يرى الزيارة فرصةً مناسبة لإثبات دوره المركزي على الساحة الإقليمية والدولية، والتباهي به، بعد التهديد المتمثل بظهور قوى أخرى ومواقف إقليمية مغايرة ذات شأن، وبعد تراجع هذا الدور وتهميشه في مراكز حيوية مثل فلسطين والسودان والعراق. المعارضة، من جانبها، تنقسم تجاه الزيارة بين من لا يرى فيها سوى تأكيد لتبعية النظام المصري لأميركا، مثل قوى اليسار والقوميين وحركة كفاية التي رفض منسقها العام دعوة لحضور كلمة أوباما في جامعة القاهرة، وبين الذين يرون فيها فرصة لزيادة الضغط على النظام المصري لتوسيع هامش الديموقراطية، مثل حركة المجتمع المدني والقوى الليبرالية، وبين من يرى فيها مجرد حملة علاقات عامة بلا مضمون جدي مثل الإخوان المسلمين.
بالنسبة للشارع المصري، لا تعدو الزيارة كونها يوماً عصيباً آخر يعيشه المصريون. فاستعدادات السلطة للزيارة وترتيباتها جاءت كمناسبات زيارة مسؤول كبير لإحدى المصالح التابعة له، كأن يزور مثلاً وزير الاتصالات سنترال إحدى المدن، وهو ما يستدعي في عرف المصالح الحكومية الاستعداد على أعلى مستوى لكي تنال المصلحة رضى المسؤول الكبير. وفي جامعة تعاني ضعف الإنفاق على التعليم، ويشكو الطلاب والأساتذة غياب الأجهزة والتجهيزات العلمية، أبرزت صحيفة مستقلة تقريراً عن إنفاق 15 مليون جنيه على استعدادات الزيارة، تمثلت في شراء أجهزة تكييف وشاشات عرض وستائر وأدوات إضاءة وأثاث وثريات وتجميل حدائق. جدير بالذكر أن الجامعة العريقة لم تنفض بعد زينتها التي احتفلت بها بمئويتها حتى تنفق تلك الثروة لاستقبال الرئيس الأميركي لمدة ساعة واحدة.
الاستعدادات الاستثنائية لم تقف عند البذخ، بل كانت المظاهر الأمنية هي الأبرز. امتحانات الجامعات يوم الزيارة تأجّلت، سواء في جامعة القاهرة التي ستحظى بزيارة أوباما، أو في الجامعات الأخرى التي لن يقترب منها. ولكن الإجراء جاء تحسباً لتظاهرات طلابية تعكر صفو الزيارة. ورغم أنه من المقرر أن يهبط الرئيس على الجامعة بالطائرة العمودية، إلا أن إجراءات الأمن اقتضت إغلاق الشوارع الرئيسية المحيطة، بل حتى الفرعية. ونشطت تحركات الأمن في المنطقة المحيطة بالجامعة، وصوّر أفراد الأمن أوراق هوية السكان! واحتُجز طلاب أجانب من جنسيات مختلفة يدرسون بجامعة الأزهر لحين انتهاء الزيارة، بالإضافة إلى فرض الإغلاق على المحال التجارية في محيط جامعة القاهرة والقصور الرئاسية والطرق المؤدية إليها.
وهكذا تحوّلت الزيارة التاريخية إلى يوم جديد يسيطر فيه الأمن على الشارع ويغلق الطرق والمحال ويفتش المارة. الآمال الديموقراطية التي تنعقد على زيارة الرئيس الديموقراطي تبددها سريعاً الاستعدادات غير الديموقراطية التي يمارسها الأمن. هذه الإجراءات التي اختتمها النظام مساء الثالث من حزيران/ يونيو بمنع تجمّع سلمي لنشطاء من حركة كفاية وبعض قوى اليسار في ميدان التحرير للتعبير عن موقفهم.
آمال النظام المصري أيضاً باستعادة دوره في المنطقة لا تتناسب مع طبيعة الزيارة التي تستغرق ساعات معدودة وتتضمن قمة بين الرئيسين لمدة 45 دقيقة بالتمام، وساعة بجامعة القاهرة يلقي فيها الزائر كلمته للعالم الإسلامي، بحضور من حددتهم الإدارة الأميركية بالاسم تقريباً. ثم زيارة للأهرام ثم رحلة شرم الشيخ المعتادة. وتسبق الزيارة لمصر زيارة للمملكة السعودية تستغرق يوماً كاملاً. فتبدو زيارة أوباما لمصر أقل شأناً من تلك التي قام بها نيكسون عام 1974 واستغرقت ستة أيام واصطحب السادات فيها ضيفه في السيارة المكشوفة وسط اصطفاف جماهيري، ولو مصنوعاً. ومع ذلك لم تكن زيارة نيكسون ساعتها إشارةً إلى تزايد أهمية الدور المصري في المنطقة، بل على العكس كانت إحدى الخطوات على طريق تحول الدور المصري إلى الانحياز للمشروع الأميركي والتبشير به بالعبارة الشهيرة للسادات (99% من الأوراق في أيدي أميركا). وإذا كانت ستة أيام استغرقتها زيارة نيكسون كافية لانتزاع 99% فإن الواحد في المئة الباقية، تكفي ساعات أوباما الثماني لانتزاعها!
يبدو أن تغيرات هامة طرأت على الدور المصري الذي يجري التباهي به ويضخم بمناسبة الزيارة. فالنظام الذي كان طرفاً رئيسياً في الأزمات، يراعى وضعه وتوازناته في اتخاذ القرارات، تحوّل شيئاً فشيئاً إلى وسيط في الصراع العربي الصهيوني، ليس بين أطراف الصراع الأصليين بل بين الفصائل الفلسطينية. واليوم تأتي زيارة أوباما وكلمته للعالم الإسلامي لتخلق دوراً جديداً لمصر بتحويلها إلى منصة تُطلق منها كلمة أميركا. الكلمة الموجهة للعالم الإسلامي تأتي بينما يخوض الجيش الباكستاني حرباً بالوكالة ضد طالبان، والجيش الأميركي يخوض حرباً أخرى ضد المقاومة العراقية، وإسرائيل تستعد لافتتاح حرب جديدة ضد إيران قابلة بالطبع للاتساع لتشمل لبنان وسوريا. أوضاع كهذه قد تستحق بالفعل مسكِّناً يطلقه الرئيس الأميركي من العاصمة الإسلامية. هذا التحول الجديد في الدور المصري، لا يعني في واقع الأمر سوى أن ما يسمى بالأدوار الإقليمية في المنطقة أصبحت تاريخاً، وأن كل الأدوار أصبحت محجوزة مسبقاً.
ربما يذكّر هذا بالاتفاق الذي أبرم بين وزيرتي الخارجية الأميركية والإسرائيلية قبيل انتهاء الحرب الإسرائيلية على غزة، ويضمن وقف تسليح حماس ومنع أي دعم من الوصول لغزة. لم تكن مصر طرفاً في الاتفاق ولم تُدعَ لمناقشته، وإن كان يمس مباشرة البلد الوحيد الذي له حدود مع غزة. جرى بعد ذلك تطبيقه، سواء بالغارة الأميركية على السودان أو بدفع خبراء أميركيين على الحدود لكشف الأنفاق، رغم النفي الرسمي المصري الالتزام به... الخطوات والإجراءات التي حوّلت الدور المصري إلى مستقبِل لا إلى شريك حقيقي، لن تغيرها الدعاية الضخمة لزيارة الرئيس الأميركي.
* صحافي مصري