سارو تونتيان*بادئ ذي بدء، تجدر الإشارة إلى أنّ الصبغة الأرمنيّة التي تتلوّن بها وتعرّف بها «كتلة النوّاب الأرمن» المتأصّلة في المجلس النيابي اللبناني لا تنبع من أيّة نزعة قوميّة متعصّبة، كما أنّها تتميّز بطبيعتها عن مثيلتها التي كانت تعرف أثناء الحرب الأليمة باسم «كتلة النوّاب الموارنة المستقلّين»، حيث كانت تعود الإشارة إلى الصبغة الطائفيّة ليس إلاّ، بل هي تعبير عن حيثيّة سياسيّة متجذّرة ومبرّرة تاريخيّاً. كيف لا وكانت هذه الكتلة محطّ اهتمام كثير من النّواب اللبنانيّين غير المتحدّرين من أصول أرمنيّة الذين كانوا يعربون عن تمنّيات بالانضمام إلى صفوف هذه الكتلة التي تميّزت دوماً بمواقفها الوطنيّة واللبنانيّة بالصميم؟
ولكنّ السبب الرئيس الذي منح هذه التسمية للكتلة هو أنّ الحزب الأرمنيّ الرائد والأساسيّ الذي بفضل جهوده أنشئت واستمرّت هذه الكتلة عبر السنين، عنيت حزب الطاشناق، وبالرغم من تمتّعه بالحيثيّة الشعبيّة التي كانت ولا تزال تخوّله بأن يتمكّن بمفرده من إيصال مرشّحيه إلى الندوة البرلمانيّة اللبنانيّة وحصر تمثيل الطّائفة الأرمنيّة بنوّاب منتسبين إليه دون سواهم، كان ولا يزال حريصاً على ضرورة تمثيل بقيّة الأحزاب الأرمنيّة العريقة وبعض الشخصيّات المستقلّة. فحزب الطاشناق لم يتصرّف يوماً بأنانيّة ونزعة انفراديّة واحتكاريّة، بل اكتفى دوماً بإشراك حزبيّ طاشناقيّ واحد فقط لا غير وبتأليف بقيّة المقاعد بالاتّفاق مع الأحزاب والتيارات والشّخصيّات المستقلّة الأخرى. وذلك يعود إلى كون حزب الطاشناق يولي أولويّة مطلقة لضرورة إعطاء الكتلة هويّة وطنيّة جامعة. ولا عجب في هذا الأمر، فحزب الطاشناق لم يشكُ يوماً من أيّة عقدة نقص قد تدفعه إلى الاحتكاريّة. وهذه الحقيقة يمكن اعتبارها متأتّية من طبيعة نشأة الحزب تاريخيّاً، فتسمية الحزب بـ«الطاشناق» ليست سوى تعريب واختصار لكلمة «طاشناقتسوتيون» التي تعني «اتّحاد»، علماً بأنّ الاسم الكامل للحزب في الأساس ترجمته بالعربيّة هي «الاتحاد الثوري الأرمني» الذي شمل في نشأته عام 1890 جميع الثوريّين الأرمن المناضلين ضدّ همجيّة السلطنة العثمانيّة، وخاصّة أولئك المنتسبين لحزبي «الهنشاك» و«الأرميناكان» الذي أصبح يعرف في ما بعد بـ«الرمغافار».
أمّا ضرورة عودة كتلة النوّاب الأرمن إلى حجمها التاريخيّ، فهي تنبع من الاعتبارين السياسيّين التاليين:
ــــ على الصعيد الوطني، من الواضح أنّ المشهد السياسيّ عامّة بأمسّ الحاجة إلى وجود الكتلة بحجمها التاريخيّ، وبالأخصّ إلى الدور الوطنيّ بالصميم الذي لطالما لعبته الكتلة، وخاصّة أثناء الحرب الأهليّة الأليمة، حينما اتّخذت الكتلة ومن ورائها الأحزاب الأرمنيّة العريقة الثلاثة قراراً تاريخيّاً وحكيماً وصعباً، تمثّل بالإصرار على دور الحياد الإيجابيّ الذي يتلخّص بسياسة عدم المشاركة في الحرب الهدّامة، بل بالعكس، بالإمساك بدور همزة الوصل وجسر الالتقاء ما بين الأطراف المتنازعة، وهذا ما كلّف أبناء الطائفة الأرمنيّة الكثير من التضحيات، لكون بعض الأطراف الميليشياويّة لم تتفهّم آنذاك هذا الموقف الحكيم.
وفي الطائف، تمكّنت الكتلة من لعب دور بارز في إطار إبداء لغة الحوار والتّفاهم على العلاقات المتشنّجة والمتحجّرة في تناقضاتها، فاعترف حينها الجميع بأحقّيّة سياسة الحياد الإيجابيّ وصوابيّتها المتّبعة من جانب القيادات الأرمنيّة، ما أدّى إلى تكريس الطّائفة الأرمنيّة كـ«إحدى الطوائف السّبع الكبرى في لبنان» لا «الطّائفة السّابعة بالتّراتبيّة».
ــــ على صعيد التّمثيل الشعبيّ، وبعدما أدّت بعض السّياسات العابثة بالخصوصيّات الأرمنيّة إلى تحجيم الكتلة وحصرها بنائبين فقط، خلال الفترة الممتدّة من عام 2000 إلى يومنا الحاضر، من المؤكّد أنّ الوقت قد حان لتصحيح الخلل، وذلك عن طريق ردّ الكتلة إلى أصحابها الحقيقيّين الذين يتمتّعون بالحيثيّة الشعبيّة وبالحجم التمثيليّ الطاغي بقوّة.
يجب أن يعلم الجميع أنّ أبناء الطائفة الأرمنيّة وفي طليعتهم حزب الطاشناق، لا يمكن أن يسمحوا بتكرار ما حصل من تجاوزات خلال الأعوام التسعة الماضية، علماً بأنّ الأيادي امتدّت قبيل الفترة الانتخابيّة للحزبين الأرمنيّين العريقين المنضويين تحت لواء القوى الموالية، لكي يساهما في عمليّة تصحيح الخلل الفادح وإرجاع كتلة النوّاب الأرمن إلى سابق عهدها، حيث يتمثّلان هما بدورهما كما الطاشناق بنائب حزبيّ لكلّ منهما، تاركين المقاعد الباقية لشخصيّات مستقلّة، حاصلين على موافقة الأحزاب الثّلاثة. إلا أنّ الحزبين الأرمنيّين المواليين لم يفكّا ارتباطهما بالقوى المغتصبة لحقوق الطّائفة الأرمنيّة وخصوصيّتها، لا بل تورّطا في بعض المواقف المهينة لهما، وبالتّالي للجميع، حيث أدّت ألاعيب بعض القوى الموالية إلى استبدال بعض مرشّحي الحزبين بمرشّحين لا يمتّون للحزبين بأيّة صلة نسبيّة، بل أجبروا بمحاولة يائسة وواهمة على لباس قبّعتي الحزبين في آخر لحظة.
في نهاية المطاف، سترجع كتلة النوّاب الأرمن إلى سابق عهدها لكي تتمكّن من متابعة رسالتها الوطنيّة النبيلة المتمثّلة بالتكفّل بمهمّة ردم الهوّة المحفورة ما بين بعض الأطراف المتصارعة في وطننا الغالي والعزيز.
* كاتب لبناني