نهلة الشهالأين المفاجأة؟ ليست حتماً في النجاح الذي سجّله فريق 14 آذار، بل ربما كانت في الفارق بين الجهتين، إذ كانت التقديرات ترجّح فوزاً ضئيلاً لأيّ منهما، بينما وصل الرقم إلى 12 مقعداً. وربّما هي في هزيمة المرشحين المدعومين من الرئاسة، بحيث تلاشت فكرة الكتلة الوسطية، نيابياً على الأقل. كل ذلك ليس مهماً، رغم التسخين الذي سبق الاقتراع. ومن المشروع تماماً الدخول، ولو ذهنياً، في لعبة افتراض العكس: فلو حقّق فريق 8 آذار والجنرال عون الأغلبية، هل كانت الأمور ستكون أقل غموضاً بشأن الـ«ثم ماذا؟»، قريبه وبعيده، من قبيل كيفية تأليف الحكومة، والقانون الضابط للحكم في لبنان ـــــ ليس القانون الورقي كما يسرده الدستور والاتفاقيات، بل ذاك الناتج من توازنات القوى واصطراعها، والتعامل مع دوائر المحيط المعقّدة، وصولاً إلى العالم. والجواب بالنفي لا يستبطن (بمعنى يقبل) التهويل الذي حاول البعض تسييده اصطناعياً، وعلى الأخص من هذا البعض، الإدارة الأميركية وإسرائيل. فلو نجح فريق الأقلية السابقة والحالية لكانت الأمور بالتأكيد معقّدة جداً... لكنّها اليوم أيضاً معقّدة بنجاح الفريق الآخر، رغم أنه أكثر انسجاماً مع بديهيات البنية التقليدية اللبنانية ومعادلات المحيط ذاك، بدائرتيه الإقليمية والعالمية.
لا يحسم تحقيق 14 آذار لأغلبية مريحة إلا نقطة واحدة، تكاد تكون «شكلية»، هي توافر الاستمرارية في هويّة الممسك بطرف الخيط الرسمي من تشكيلة السلطة، ذاك الذي يتعيّن عليه أن يقول رؤيته لكيفية تركيب الـLEGO، تلك المربّعات المتفاوتة الصغر والمتنوعة اللون والشكل. لماذا «ليغو» لا PUZZLE كما هي عادة القول؟ لأن هناك احتمالات بناء شتى (وإن متفاوتة الثبات) لا خريطة واحدة ممكنة، ولأنه على المجسّم بعد ذلك أن يتحرك! ذلك هو التحدّي.
ومع السؤال بشأن بنية النظام التي تجدّد نفسها دورياً وأبدياً، بالتلازم مع أزمتها التي هي منطلق ونتيجة في آن واحد، هناك أسئلة أخرى «تفصيلية» وعديدة، تجول على مواضيع مثل مدى استقرار التحالف «المهزوم»، والدروس التي سيستنتجها كل جزء منه على حدة، دروس المصالح، إذا ما كان لأطرافه احتمال خيارات أخرى. وهذا يبدو صعباً لشدة تكلّس التركيبات القائمة، الواشي هو الآخر بمقدار أزمة النظام العام، التي يعبّر عنها هذا الانشطار العمودي المتساوي الجناحين، والعقيم، بمعنى غير المولّد لحلول من داخله. وهناك أيضاً سؤال من يمسك بقيادة التحالف المهزوم بعد الآن، أو للدقة، من يطبعها بطابعه، وهو سؤال يضمر افتراض انطباق المثال «القلة تولّد النقار» على هذه الحالة، ويضمر أيضاً افتراض أن هزيمة التحالف قد تضيف نقطة إلى موقع السيد نبيه بري، بوصفه الأكثر خبرة بتقاليد الحياة السياسية اللبنانية وأساليبها، والأكثر قبولا من «الآخر»...
يكتشف متفحص هذه الأسئلة الواردة بصيغ مختلفة على كل شفة ولسان، أن ما لم يبتلعه النظام اللبناني، لا في تجدده ولا في تأزمه (وهما حركتان من إيقاع واحد)، هو حزب الله: إنه النشاز في التركيبة. فهل يمثّل «الشيعة» كما يُفترض، وكما يوحي هو نفسه أحياناً، أو غالباً؟ ولكن أي شيعة؟ تلك هي المسألة. أو بالأدق، المسألة هي الحالة التي تخص تلك الكتلة البشرية الكبيرة الحجم، المختزنة تناقضات فاعلة، أي متحركة ودينامية: الفقر والحرمان بامتياز، ولكن أيضاً الصعود الاقتصادي والاجتماعي، القوي والسريع، في محيط رجراج، غادره الاستقرار منذ زمن، ودخل على معادلته الجوهرية احتلال العراق، حيث واحدة من نتائجه هي صعود الشيعة هناك وإمساكهم بالسلطة، بالتلازم مع ترسخ المكانة الإقليمية لإيران، إلى آخر ما بات محفوظاً عن ظهر قلب. إنه تغيّر كبير في عموم المنطقة، يستلزم هضمه وقتاً طويلاً، ولن يجري بلا توترات وألم مصاحبين لكل تغيير، وبدون صدام ومجابهات مع القوى التي يتعدّل موقعها، وهو ما كان ليحصل بعادية نسبية، لولا وجود إسرائيل، ولولا النفط.
ثم إن هذه الكتلة مسلحة، وهي فعالة، ألحقت هزائم بإسرائيل نفسها (التي بنت وجودها على صورة تفوقها الرادع)، وانتقلت في 7 أيار 2008 إلى الإفصاح عن استعدادها غير المحدود للتصدي الداخلي المسلح لمخطط تقليم أظافرها (تناقض آخر بلا حل: لم يكن بإمكانها السكوت، ويمثل ردها مأساة). وهي علاوة على كل ذلك تحتفظ لنفسها بالحق بالنطق بما يتجاوز طابعها الطائفي، (الذي لو اقتصر الأمر عليه لكان سيحكمه قانون التوازن الداخلي) أي النطق باسم الأمة وطموحاتها، في مزيج وطني ـــــ قومي ـــــ أممي لا يوجد لدى الآخرين ما يعادله.
وهذا كله كثير!!
ولا سيما إذا أضيفت إليه قلّة دراية مريعة بقوانين البروباغندا الحديثة، وجهل تام بقنوات الاستقبال والتأويل في أدمغة الآخرين (أكثر مما هو عدم الاكتراث الذي يولّده الانتشاء بالقوة ـــــ ولا فرق في النهاية). المهم، أن نتائج هذه الانتخابات تطرح على حزب الله تحديداً سؤال ماذا بعد، وخصوصاً: كيف؟