جلبير الأشقر *خطاب باراك أوباما في القاهرة في الرابع من حزيران 2009 حقق التوقعات بشكل واضح ـــــ شرط أن نتفق على ما كان يمكن أن يكون متوقعاً. في ما يتعلق بالشكل، عاش أوباما دوره كالوجه الأسود والإنساني لأميركا في علاقتها مع باقي العالم عموماً، وفي ما يتعلق بعلاقتها مع العالم الإسلامي خصوصاً. احترم خصوصيات مهمته، ساعياً إلى ترميم الضرر الكبير الذي ألحقته الإدارة الأميركية السابقة مع جورج دبليو بوش بصورة «القوة اللطيفة» لأميركا. شهد العالم محاولة مثيرة لإغواء العالم الإسلامي ـــــ شبابه تحديداً.
مصادر قوة الرئيس استخدمت بكثافة: لون بشرته، خلفية والده الإسلامية، اعتراضه المبكر لاجتياح العراق، وأخيراً وليس آخراً، وقفته الروزفلتية المناسبة لزمننا، زمن الأزمة الاقتصادية العالمية. كان الخطاب مقتبساً بوضوح من خطاب روزفلت الشهير في السادس من حزيران 1941 «الحريات الأربع»: لغة السلام وعدم التسلح أي الحرية من الخوف، حرية التفكير، والحرية الدينية. فقط «الحرية من العوز» التي وردت في خطاب روزفلت لم تكن موجودة، وهذه شهادة على مقدار الإحراج الذي يسببه هذا المفهوم للحكومات التي تسعى حالياً ومؤقتاً إلى أدوات «كينزية» لإنقاذ النظام الاقتصادي النيوليبرالي.
لم يكن الاختلاف مع إدارة بوش ـــــ تشيني فقط في الأسلوب واللهجة. كان الاختلاف في المضمون أيضاً صارخاً، رغم فرضيات مسبقة عدائية بأنّ الخطاب العام هو نفسه وما شابه، فرغم أنّ الرئيس الجديد هو أسود، فإنّ البيت الأبيض لا يزال... أبيض. يمكن إيجاز الاختلافات الأساسية في ما يأتي: انتقاد الاجتياح الأميركي للعراق، التزام بسحب كلّ الفرق العسكرية من هذا البلد، اعتراف بمأساة الشعب الفلسطيني التي تدوم منذ ما يزيد على ستين عاماً (اعتراف ضمني بالنكبة)، رفض واضح وثابت لتوسيع إسرائيل لمستوطناتها في الضفة الغربية المحتلة، موقف منفتح نسبياً تجاه حماس، اعتراف بحق إيران في تطوير طاقة نووية ضمن حدود معاهدة منع الانتشار النووي، واستعداد للحوار مع الحكومة الإيرانية، من دون شروط مسبقة.
هذه اختلافات أساسية مهمة، رغم أنّها لا تمثل قطعاً خطيراً مع وجهة النظر الطويلة الأمد للسياسة الخارجية الأميركية. الحقيقة أنّ إدارة بوش ـــــ تشيني هي التي شكلت قطيعة مع التقاليد القديمة: تصرّف أوباما في الحقيقة هو أقرب إلى تصرف بوش الأب من قرب تصرف ابن هذا الأخير إليه. إذ كانت إدارة بوش الأب قد التزمت في السابق حلّ الصراع الإسرائيلي ـــــ العربي كونه مصدر أذى لمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، كما كانت مستعدة للضغط على إسرائيل في هذا المجال. والانفتاح تجاه طهران (ودمشق) كان مؤيداً من قبل لجنة بايكر ـــــ هاميلتون في 2006، رغم أنّ إدارة بوش رفضت الالتزام بنصيبها من التوصيات.
أما الباقي فبالكاد جديد، حتى مع مقارنته بسجل الرئيس السابق: تأييد «حلّ الدولتين» بالنسبة إلى الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني، والخطاب المتعلق بالإسلام (رغم كلّ الانطباعات السيّئة)، الديموقراطية، إلخ... ينزع الناس إلى الخلط بين خطاب المحافظين الجدد وذاك الخاص بإدارة بوش ـــــ تشيني، ومعهما رايس: كانوا مختلفين. كان جورج دبليو بوش يستطيع المزايدة على أي شخص في «احترامه» للإسلام ـــــ وبالتأكيد في ما يتعلق بصداقته الكبيرة مع السلالة الحاكمة السعودية! وغنيّ عن القول إنّه سيُحكم على باراك أوباما وفقاً لأعماله، لا أقواله فقط.
وراء هذه الاختلافات والتقاربات، لا يمكن توقع شيء آخر من خطاب أوباما، إذا تقيد المرء بتقويم واعٍ لما يمثله هو وإدارته. فلن نجد التحول اليساري في السياسات المحلية والخارجية الذي أتى مع انتخاب فرانكلين روزفلت في 1932 في ذروة موجة التطرف الاجتماعي، لكننا سنجد عودة إلى الوسط بعد ثماني سنوات من التحول الدراماتيكي للبيت الأبيض نحو أقصى يمين طيف العرف السياسي السائد، وعودة إلى أسس التوافق الثنائي في سياسة الولايات المتحدة الخارجية.
غير أنّه كان يمكن للمرء أن يتوقع من باراك أوباما غير ما أتى به: فبشكل يبعث على الرثاء، كان خطابه محصوراً ضمن حدود أمثولة «صراع الحضارات» ـــــ الذي لم يكن منظّره الأساسي الراحل صاموئيل هانتنغتون، من المؤمنين به، كما يعتقد من لم يقرأه، بل من المحذّرين منه. المثال كان عن عالم مقسم إلى أجزاء، معظمها مبنية حول معيار ديني واحد. هكذا، توجه أوباما في القاهرة، حصرياً إلى «المسلمين»، مطعّماً خطابه باقتباسات من القرآن، مفصحاً عن نظرة إلى العالم يسيطر عليها الدين ـــــ وفقط الديانات الإبراهيمية، متناسياً أنّ في بلاده هو يوجد ملايين ممن لا ينتمون إلى المسيحية، الإسلام أو اليهودية، عدا عن أولئك الذين يرفضون الانتماء إلى أية ديانة بالمطلق. في تصرفه هذا، وجه ثناء غير مقصود إلى الرجل الذي ذكره في بداية خطابه واعتبره هدفه الأساس: أسامة بن لادن.

* كاتب لبناني مقيم في بريطانيا