عصام العريان *لم يختلف اثنان على قوة خطاب باراك أوباما وبلاغته وكاريزمية الرئيس الأسود، العرب والمسلمون، الأوروبيون والأميركيون، الجميع اتفقوا على الترحيب بالقادم الجديد المختلف عن الرؤساء السابقين، ليس فى لونه فقط، بل فى خلفيته الثقافية وإدراكاته المختلفة وثقافته الواسعة وذكائه البالغ ومهاراته المتعددة.
الاهتمام بالزيارة، والترحيب بالزائر، كان مبالغاً فيه جداً. أظن أن ذلك كان بسبب أنه جاء بعد «بوش الابن»، أسوأ رئيس أميركي في العصر الحديث، وهو عامل ساعد أوباما، ليس فقط على الفوز، بل أيضاً على إثارة التفاؤل به، وتجاوز هفواته أو أخطائه، يكفى القول: أليس هو أفضل من سابقيه؟
قطعاً هو رئيس مختلف، وقد استطاع بجهده الشخصي تجاوز كل العقبات ليصل إلى البيت الأبيض، ويصنع تاريخاً جديداً في أميركا العنصرية، التي لا ترحم الضعفاء، وتعشق القوة في كل شيء. التحديات التي يواجهها أوباما كثيرة وخطيرة ومعقّدة. أحد هذه التحديات، من ميراث بوش والمحافظين الجدد، الكراهية المتصاعدة ضد أميركا في العالم الإسلامي خاصة، وفى بقية أنحاء العالم، والتهديد المتزايد الذي تواجهه المصالح الأميركية في كل مكان، وخاصة في «الشرق الأوسط الكبير»، أي في العالم الإسلامي.
أوباما أقسم على الولاء لأميركا التي ساعدته على أن يكون إمبراطور العالم، وأقسم على حماية مصالحها ورعاية شؤونها. وكان خطاب أوباما الأخير تنفيذاً لقسم الولاء لأميركا، وجزءاً من حملته لرعاية مصالحها. استهدف أوباما أمرين أساسيين بخطابه: الأول: تحسين صورة أميركا في نظر المسلمين وبقية العالم،
الثاني: عزل «القاعدة» بالذات، ومن يحالفها من التنظيمات، وتحييد بقية المسلمين، وخاصة الحركات الإسلامية بعيداً عن التهديد المباشر للمصالح الأميركية.
هل نجح أوباما؟ من الإنصاف أن نعترف بأنه نجح بنسبة كبيرة، ويكفي قياس رأي سريع بين الجمهور العام لنجد أن أغلبية ترحب بالخطاب، بل إن نسبة لا بأس بها حدثت لها حالة انبهار شديد (مانيا)، ونسبة معقولة أخرى صدقت الرجل وأصبحت تنتظر تغييراً كبيراً في سياسة أميركا بعد ذلك الخطاب.
السبب يقوله الخبراء ويؤكدونه، حيث إن نسبة تأثير المضمون في المتلقي لا تزيد في حال من الأحوال عن 10 % فقط، بينما يتأثر المتلقون بالشكل العام وطريقة الإلقاء والمؤثرات السمعية والبصرية بنسبة تزيد على 85%.
وإذا سألت الناس في اليوم التالي أو الساعات التالية للخطاب، فستجد أن تركيزهم كان على الأمور التالية:
ــ الرجل لم يقرأ من ورقة ولا من شاشة أمامه. ـــــ الرجل استشهد بآيات من القرآن والإنجيل والتوراة، يحفظها عن ظهر قلب، وكانت أخطاؤه قليلة. ــ الرجل لم يذكر كلمة الإرهاب التي أصبحت مرادفة للإسلام، ولم يصنف أعداء أميركا كـ «إرهابيين»، التي كانت تعني في لسان سابقيه «مسلمين». ــ الرجل دارس للخطاب جيداً ويعي ما يقوله تماماً. ــ الخلفية الثقافية والتاريخية واضحة في الخطاب تماماً. ــ الإلقاء كان على مستوى عالٍ جداً، لا يقلّ إن لم يزد على خطاباته السابقة. ــ التصفيق الذي صاحب الخطاب لم يحظ به رئيس سابق. ــ التعليقات السريعة عقب الخطاب من جميع الأطراف، حتى شيخ الأزهر والأمين العام لجامعة الدول العربية، مرحبة جداً. بل إن شيخ الأزهر يتفق مع كل ما جاء في الخطاب دون أية تحفظات.
ــ جميع القوى والتيارات السياسية، وخاصة المصنفين في خانة العداء لأميركا، أو ما يسمى «محور الشر»، كانت مرحّبة أيضاً مع تحفظات قليلة، أو بالقول دعونا ننتظر الأفعال. ــ السلوك المصاحب للخطاب أثناء الرحلة لاقى ترحيباً: كخلع الحذاء عند المسجد، وتغطية رأس وزيرة الخارجية، والاهتمام بالآثار المصرية.
إذاً يمكننا استنتاج حجم التوقعات الكبيرة التي تملأ صدور الجمهور العام بعد خطاب أوباما، ويمكننا القول إن الرجل نجح نجاحاً باهراً في إنجاز سريع لأهداف خطابه.
فهل سيتبدد ذلك الرصيد بعد حين، أم يبقى ليبني عليه أوباما المزيد من الرصيد، ويراكم عليه في المستقبل، ويحقق ما قاله من توقعات ببدء عهد جديد في العلاقة بين أميركا والمسلمين؟
رغم كل نقاط الضعف التي يراها البعض في الخطاب، وعلى الأخص العلاقة مع العدو الصهيوني، التي قال عنها إنها لن تنكسر أبداً، وعدم الإشارة إلى معاناة الشعب الفلسطيني في الشتات وغزة والضفة، وعدم الاعتذار عن الجرائم التي ارتكبتها أميركا في العراق وأفغانستان وباكستان، يمكننا القول:
نعم، فلو منع شن حروب جديدة في المنطقة، واعتمد سياسة الحوار والتفاهم بديلاً للمواجهات الدامية والحروب الاستباقية، فهذا جيد جداً. ولو أدرك أن كسب الشعوب يعنى وقف نزف الدماء في باكستان وأفغانستان والسعي إلى نهاية الحرب هناك، لكان ذلك تقدماً هائلاً. ولو نفّذ ما قال: إن أميركا لن تكون لها قواعد عسكرية في العراق، وليس لها أطماع في ثرواته، لكان ذلك عظيماً جداً. ولو سمح لدولة إسلامية بحيازة الطاقة النووية لأغراض سلمية لرحبنا بذلك.
ولو التزم بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بمعنى ترك الحكومات لحساب شعوبها، ورفع الغطاء والحماية الأميركية عنها... كل ذلك جيد، ونحن في انتظار الالتزام به. وهو ما تراكم على مدار العقود السابقة.
وبذلك، نعود مع أوباما إلى نقطة البداية وهى القضية الفلسطينية. وهي أعقد القضايا ومشكلة المشاكل. يكفينا فيها الآن وقف التدهور المريع الذي سبّبه بوش وإدارته. لكن هل يقدر أوباما على تنفيذ ما وعد به؟ أم أن التوقعات الكبيرة يمكن أن تتحول إلى إحباطات أكبر؟
إذا كان أوباما يسعى إلى إقناع المسلمين بجدية مواقفه، فعليه أن يتوجه أولاً إلى المجتمع الأميركي لإقناعه وكسب الرأي العام الأميركي خلفه، ثم كسب المؤسسات الدستورية القادرة على تعطيل كل توجهاته وبرامجه. لقد ظهر مع أول تحدٍّ واجهه الرئيس الشاب كيف تعمل أميركا. الرئيس في أميركا له بصمته وسلطاته، لكنه لا يعمل وحده أو منفرداً. الرئيس في أميركا يقرر السياسة الخارجية، ولكن تمويل تلك السياسات وإقرارها يحتاج إلى موافقة الكونغرس بمجلسيه.
وعد الرئيس أثناء الحملة الانتخابية بإغلاق معسكر «غوانتانامو»، وقرر بعد توليه الرئاسة تنفيذ ما وعد به. وطالب الكونغرس بحوالى 80 مليون دولار لتنفيذ قرار الإغلاق، فكانت المفاجأة رفض الكونغرس بمجلسيه، وبحزبيه الديموقراطي، والجمهوري. هل كانت الأسباب سياسية أم لوجستية؟ الأمر ليس واضحاً. ولكن الرسالة واضحة:
عند شن الحروب، انفرد بوش بالقرار، وكان المزاج العام الأميركي في حالة رعب وهلع وخوف، فلم يستطع الكونغرس كبح جماح الرئيس المندفع، وأنفقت أميركا حتى الآن مليارات الدولارات على مغامرات خاسرة. وعند إقرار السلم، لا يستطيع أوباما الانفراد بالقرار، لأنه يحتاج إلى دعم الرأي العام وإقناعه بانتهاء التهديدات، وتغيير الحالة النفسية، ثم موافقة الكونغرس على تمويل عمليات السلام التي تساوي القليل مقارنةً بنفقات الحروب. يقف العدو الصهيوني بالمرصاد لسياسة كهذه: لأنه المستفيد الأساسي من حالة الحرب، ولخوفه الكبير من إقرار السلام، لأنه بداية هزيمة المشروع الصهيوني.
هل نحن في حاجة إلى أوباما لحل مشاكلنا؟ أم أن أوباما بحاجة إلينا لمواجهة التحديات؟
أيها السادة: لا تغرقوا في بحر التفاؤلات، وتمهّلوا قليلاً، وركّزوا على تجاوز أخطائنا الذاتية، ومساعدة أنفسنا أولاً قبل طلب مساعدة الآخرين.

* قيادي في جماعة الإخوان المسلمين في مصر