محمد شعير
«أنا شاعر على باب الله... والإنسانية». هكذا يعرِّف سيد حجاب نفسه دائماً، هو الشاعر الذي ترك دراسة الهندسة حين وقع أسيراً في حب «الجنيّة»... جنيّة الشعر طبعاً. استجاب لنصيحة أستاذه في المدرسة الثانوية: «أهلك اللي حواليك ثلاثون ألف صياد، وبداخل كلِّ صيَّاد عشر قصائد تحتاج إلى من يكتبها». كتب شاعرنا قصيدة الصيّادين بالفعل. هجر الفصحى التي كثيراً ما اعتقد أنّها «الأرقى»، واتجه إلى العامية «الأكثر قرباً من الشارع والبشر العاديين».
ولادته في المطرية، أكبر مدن الصيد في مصر والمطلَّة على ضفاف بحيرة المنزلة، انعكست على تجربته الشعرية. والده الأزهري كان معلّمه. في ليالي الشتاء الباردة، وفي جلسات المصطبة الشعرية حول الموقد، كان يُنصت إلى والده يلقي الشعر للصيادين في مباراة أشبه بالتحطيب الصعيدي. لم يكن الصغير يكتفي بما يسمعه، بل كان يدوّنه ويحاكيه. اطّلع والده على ما كتب، فشجّعه على «كتابة الشعر» وعلّمه العروض والقافية وهو في العاشرة.
بعيداً عن صخب وسط القاهرة، اختار صاحب «الصياد والجنيّة» الإقامة في حي المعادي الجديدة. بناية بسيطة وهادئة، ومحاولة الوصول إليها صعبة إن لم يواكبك صوت حجاب طوال الوقت عبر الهاتف لإرشادك. في غرفة المكتبة توزَّعت الأوسمة وشهادات التقدير، بين الكتب وأسطوانات الموسيقى ـــــ الكثير منها لأغانٍ ألّفها، إضافةً إلى الموسيقى الكلاسيكية التي يعشقها. لا يمكن تجاهل الصور القليلة البارزة بين رفوف المكتبة: صورة لبليغ حمدي وأخرى لعمّار الشريعي «رفيقَي رحلة الكفاح». بليغ بالنسبة إليه هو «ابن النيل. كان حلماً موسيقياً رائعاً»، ولهذا أهداه ديوانه «الأغاني» الذي يضم أعماله المغنّاة بكاملها. أما عمار الشريعي، فهو «الشطرة الموسيقية في حياتي الشعرية لأننا نرى الدنيا بطريقة متقاربة»، يقول. كلِّ الأعمال الدرامية التي كتب أغنياتها حجاب، وضع موسيقاها الشريعي، وكان ثالثهما السيناريست أسامة أنور عكاشة. لم يفترق الثلاثي، حتى إن الكثير من النقاد يعتبرونهم «مؤرخي مصر درامياً».
صورة ثالثة تحتل مساحة بارزة في المكتبة: «السيّد حسن نصر الله. أهمُّ شخصيَّة قياديَّة طرحها العالم العربي، وصاحب مشروع تحرير ومقاومة للمخططات الاستعمارية، وصاحب منهج عقلاني للتصدي لكل الأخطار المحيطة بالمنطقة». هكذا يراه صاحب «بعد الطوفان الجاي». الديوان أحدث أعماله، هو قصيدة طويلة تحكي اللحظة السياسية الحالية بكل التباساتها، وقد تقترب في مقاطع منها إلى المباشرة والخطابية. لا يرى حجاب أنّ هذه النبرة ضد الفن، ويقول: «ليست المباشرة في الفن ميزة ولا افتقادها يعدّ عيباً، لأن كلَّ أساليب التعبير عن الرؤية مشروعة». للمرة الأولى وزّعت مع الديوان أسطوانة بصوت الشاعر. «الطوفان الجاي» تحيلنا على قصيدة صلاح جاهين الشهيرة:«قبل الطوفان ما يجي، أخاف عليك يا مصر»، وهذا ما أشار إليه حجاب. جاهين بالنسبة إليه هو الشاعر الذي يستطيع أن يقول «ما نودُّ أن نقوله جميعاً ببساطة وعمق ونفاذ». التقاه أول مرة بصحبة الملحن سليمان جميل، وشاعر العامية فؤاد قاعود. وعندما استمع إليه، قام جاهين واحتضنه صارخاً بفرح ومحبة «زدنا واحد يا فؤاد». يتذكر حجاب: «كان يقول لي: اللي تقدر تقوله في سطر متقولهوش في سطرين». قدّم جاهين قصائد حجاب الأولى في بابه الصحافي الشهير «شاعر شاب يعجبني»، في مجلة «صباح الخير» عام 1961، وأسس خصيصاً دار نشر لتطبع الأعمال الأولى للشباب، ونشر فيها عبد الرحمن الأبنودي ديوانه الأول، وكذلك ديوان حجاب الأول «صيّاد وجنيّة» الذي كتب له كلمة ظهر الغلاف الشاعر العراقي الراحل عبد الوهاب البياتي.
لقي الديوان حفاوة بالغة نقدياً، و«قورنت بلوركا وإيلوار»، يخبرنا. لم تدم فرحة حجاب بديوانه، إذ جرى اعتقاله بتهمة الانتماء إلى تنظيم «شيوعي»، يخطط لقلب نظام الحكم، مع نخبة من أبرز كتّاب الستينيات وقتها: صلاح عيسى، جمال الغيطاني، عبد الرحمن الأبنودي، صبري حافظ وآخرين. أفرج عنهم قبل «هزيمة يونيو»، بعد ضغوط من جان بول سارتر الذي اشترط لزيارة القاهرة الإفراج عن المعتقلين في سجون عبد الناصر.
لكن الهزيمة في حرب 1967 لم تكن متوقعة على الإطلاق: «كان لدينا إحساس أننا قادرون على عبور هذه المحنة، وهو ما كانت توحي به الكلمات الواثقة الصادرة من القادة السياسيّين والإعلاميّين». يبتسم حجاب قبل أن يكمل: «طبعاً فكرة «بكرة ميعادنا في تل أبيب»، كانت طوباوية تكاد تكون عبثية». ويقول حجاب: «كنا كتنظيم نؤمن بأن حلّ المشكلة المصرية يبدأ بالديموقراطية الثورية، وبالتالي لم تكن انكسارتنا بفداحة انكسارة المنخرطين بالكامل في النظام». عندما بدأت المعارك، كتب الشعراء قصائد تحاول أن تحشد الجماهير. كان حجاب يكتب شعارات، تلقيها أمينة رزق وعبد الله غيث في الإذاعة، وتدعو إلى مواجهة الهجمة الاستعمارية. في ذلك الوقت، كان يقيم في دير للراهبات، وجاءته إحداهنّ تخبره: «سيد أنا سمعت أخبار مش كويسة أنّ الطيران المصري كله تدمر». لم يصدق حجاب ما سمع. توجّه إلى الإذاعة، وفي المترو كان لدى جميع الركاب إحساس مرّ بأن الهزيمة وشيكة. في الإذاعة حالة من الارتباك أصابت الجميع. مع عبد الرحمن وعطيات الأبنودي وغالب هلسا، ذهب حجاب إلى منزل صديق كويتي حيث سمعوا إعلان عبد الناصر تنحّيه. «انخرط الجميع في بكاء... بكاء اليتامى»، حسب وصف حجاب. غالب هلسا لم يبكِ، وسخر من دموعهم: «بتعيّطوا على إيه، بكرة المظاهرات ستخرج في العواصم العربية تطالبه بالعودة». وقبل أن ينهي هلسا كلماته، صرخ رجل عجوز من الشرفة المواجهة: «لا، لا ...»، وما هي إلّا دقائق حتى زحفت الجماهير تطالب عبد الناصر بالبقاء!
قبل النكسة، كان النقّاد يعتبرون سيد حجاب، «شاعر المثقّفين الذي يكتب بالعامية»، إذ تتوافر في قصائده إحالات ثقافية معرفية، ويختلط الواقع بهامشه السحري، أو ما عُرف لاحقاً بالواقعية السحرية... كانت تقف حدود شعره عند قرّائه المثقفين. بعد النكسة، اختلف الأمر تماماً: «كان هناك ضرورة لمخاطبة الناس بشكل مباشر، وهذا استدعى بالضرورة تغيير التقنيات». في تلك الفترة أيضاً، تعرَّف حجاب عن طريق محمد جاد على الشيخ إمام الذي طلب منه أن يكتب له، فكانت أغنية: «حطٌه يا بطٌه يا دقن القطٌه/ بابا جاي وشايل الشنطه/ إيه في الشنطه فيها ما فيها/غش وبولتيكا وأونطه». كانت الأغنية أسرع فى الوصول إلى الناس في مجتمع أمّي، فقرر حجاب التوقف عن النشر والتوجّه إلى كتابة الأغاني والبرامج الإذاعية... كما كتب لكرم مطاوع مسرحية «حدث في أكتوبر»، وترجم «أوبرا الثلاثة قروش» لبريشت، وكتب الأوبريت عن قصص قصيرة ليوسف إدريس، وعن رواية «ميرامار» لنجيب محفوظ أخيراً.
«أرى النص الشعري الذي أكتبه للدراما والأطفال من أهم المنجزات في مسيرتي الشعرية»، يقول حجاب، وبالفعل فمن منا لم يستمتع بما كتب لعفاف راضي من أغنيات للأطفال؟ تلك الأغنيات التي وزعت «مليون نسخة فى عشرة أيام»...


5 تواريخ

1940
الولادة في المطرية في جوار بحيرة المنزلة (قرب بور سعيد في مصر)

1956
التحق بكلية الهندسة «قسم العمارة جامعة الإسكندرية»، وبعدها بعامين نقل إقامته إلى القاهرة ودرس هندسة المناجم

1966
أصدر ديوانه الأول «صيّاد وجنيّة»

2005
فاز بجائزة «كفافيس الدولية للشعر»

2009
صدر أخيراً ديوانه «قبل الطوفان الجاي» (ميريت)، ويعمل على جمع كامل أعماله في ديوانه «الأغاني»