علاء اللامي *قد لا تعدو هذه الملاحظات في نظر البعض كونها مجرد انطباعات ذاتية لكاتب عاد إلى وطنه بعد ثلاثين عاماً من المنفى الطوعي. غير أنها، حتى بهذه الصفة، قد تنطوي على ما هو مفيد وجديد في النظر، بعينين مختلفتين بعض الشيء، إلى الوضع الاجتماعي وتحديداً إلى تمظهرات الحياة اليومية. من النظرة الأولى ـــــ وسأخص بكلامي مناطق جنوب العراق والفرات الأوسط وبغداد، وهي المناطق التي زرتها تحديداً ـــــ يلاحظ المرء الحضور الطاغي للرموز والشعارات والسلوكيات التي تصنف عادة ضمن إطار التدين الشعبي. غير أن هذه الصورة الخارجية والأولية تختلف تماماً عن محتواها الحقيقي. فالقشرةُ الخارجية دينية، هذا صحيح، غير أن المحتوى بعيد عن ذلك. فمع سيادة الحجاب النسائي، وانتشار التسجيلات الدينية (الشيعية تحديداً، من قراءات حسينية وقصائد الردات ولطميات وغير ذلك) في الأماكن العامة والخاصة، وداخل وسائط النقل، ثمة أيضاً الأحاديث المنسوبة إلى النبي الكريم، التي رأيت بعضها على الجدران في شارع رئيسي في مدينة النجف، من قبيل «من تبسم في وجه تارك الصلاة كمن تجرأ وزلزل عرش الرحمن»، أو «قال خنزير الحمد لله الذي خلقني خنزيراً ولم يخلقني تاركاً للصلاة». وهناك أيضاً مظاهر جديدة في لباس الذكور وهندامهم وطرق تعاملهم اليومية، حيث اختفى الزي الحديث (الأوروبي) الذي كان منتشراً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي وسادت الدشداشة (الجلابية العراقية) الفضفاضة والأحذية الخفيفة، وأطلق الشباب والكهول لحاهم باعتدال، وتسربت عادات جديدة في المأكل والمشرب وتعدد الزوجات، وصارت البدانة المفرطة هي الصفة الطاغية، وانتشرت أماكن بيع المشروبات الكحولية السرية في القرى والبلدات الصغيرة، مع أنها ليست ممنوعة بقانون.
وأهملت الحدائق العامة وأماكن الترفيه على ندرته، واختفت دور السينما من البلدات الصغيرة والمتوسطة (في مدينتي، الشطرة، مثلاً، كانت هناك داران للسينما في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، واحدة صيفية، وأخرى مسقوفة، ولم أجد لهما أثراً اليوم). ثمة أيضاً اللهاث خلف المال والمتع الرخيصة، واعتماد أساليب الكسب السريع بشكل هائل، وقد انتشرت تجارة العقارات والسيارات والمقاولات والمشاريع الصغيرة ذات المردود السريع. أما الربا، فقد انتشر هو الآخر، بل أبدع المرابون في الاشتغال به. فمع أن النصوص الدينية وجميع المذاهب السنية والشيعية تحرّمه تحريماً قطعياً، لكن المرابين تحايلوا على ذلك واستنبطوا طريقة تعرف بطريقة «الشكليتة والمنديل» للالتفاف على التحريم القرآني. ومفاد هذه الطريقة هي أن يقدم المرابي المال للمقترِض، ومع المبلغ يقدم له منديلاً أو قطعة حلوى (شوكولا) ثمنها يعادل الفائدة الربوية العالية. وقد صُدمت حين علمت بأن أكبر مرجع ديني أجاز هذا التحايل في موقعه على «النت»، وقال في فتوى له إن هذه الطريقة في الاقتراض (الربوي) «لا بأس بها»!
هناك أيضاً فئة من المشتغلين بالمقاولات الخاصة ممن لا تجربة لهم في هذا المضمار، ولكنهم استفادوا من علاقاتهم «الصداقية» بالمحتلين وحلفائهم الحاكمين، واستعانوا بعشائرهم ووظفوها لخدمة مشاريع صغيرة أناط المحتلون بهم تنفيذها، وهي مشاريع مقدّمة، كما يزعم البعض، من دول مانحة، ويذهب البعض الآخر إلى أنها ليست سوى صفقات مريبة للمحتلين ودول مجاورة، بل إنه حتى لإسرائيل علاقة بها. وكانت النتيجة أن أثرى هؤلاء وأفراد حاشيتهم إثراءً سريعاً وكبيراً، وأصبحوا بيادق، وإنْ لم يعلموا، بيد المنعمين عليهم. من مظاهر تردي الحياة اليومية الأخرى، غياب المرأة غياباً شبه تام عن الحياة العامة، رغم تشدق المحتلين وحلفائهم في حكم المحاصصة الطائفية بالكوتا الكبيرة المخصصة للنساء في البرلمان وغيره من مؤسسات قامت في عهد الاحتلال. ورغم ذلك، ثمة وجود نادر وشجاع لنساء يتحدين الواقع الخانق القائم، وخصوصاً في بغداد، ويتجرأن على الظهور في الشوارع وهن سافرات، ويذهبن إلى أعمالهن أو للتسوق رغم ما يتعرضن له من تحرشات وتعديات لا تسلم منها حتى المحجبات.
هذا بخصوص نساء النخبة والمثقفات والطالبات اللاتي يعشن واقعاً صعباً تسود فيه العقلية الذكورية المتخلفة والأحكام العشائرية، التي كادت تنقرض في مجتمع السبعينيات، ولكنها انتعشت بقوة في عهد الاحتلال والحكم الطائفي، لدرجة أضحت معها المحاكم العشائرية وأحكامها لا تقل أهمية وردعاً من محاكم الدولة الرسمية، وصارت لأوراق «القوامة»، وهي مصطلح عشائري يعني إعلان حالة الحرب أو العداء والمطالبة بحق ما، قوة ونفاذ لا يستهان بهما ولا تستطيع أجهزة الدولة إلغاءها أو تجاوزها أو حماية المواطن الرافض للأخذ بها من مترتباتها.
أمّا بخصوص عامة النساء، وتحديداً الأمهات وربات البيوت المعيلات، من أرامل ومطلقات وغيرهن، فلهن قصة حزينة وطويلة أخرى، وحياتهن ليست إلا صراعاً يومياً قاسياً من أجل لقمة العيش، يتوزع على مساحات واسعة من النشاطات الهامشية، كالشحاذة والدعارة والعمل في التنظيفات والأشغال التكميلية الزراعية والصناعية القاسية والقليلة الأجور.
كما تعج شوارع المدن وساحاتها، بما في ذلك بغداد العاصمة، بالأوساخ ومخلفات المحال والمعامل والأسواق، وتطفح المجاري العشوائية المفتوحة في كل وقت وفي مناطق رئيسية من المدن. وفي مركز بعض المحافظات تتجاور ظاهرتان، الأولى تخص حركة الإعمار وبناء العقارات النشطة، والأكثر أهمية في المحافظات الجنوبية منها في بغداد، والثانية تخص تردي الحالة البيئية وإهمال المحيط المدني إهمالاً شبه تام. يترافق كل هذا مع حال من عدم الاهتمام والتعدي على الأملاك العامة، العائدة للدولة أو المجتمع، وانعدام الشعور بالمسؤولية من المسؤولين والمواطنين الساكنين في تلك المناطق، فترى مثلاً أصحاب محال الأجهزة الكهربائية وغيرها ينضدون تلال بضائعهم على أرصفة أهم شوارع بغداد وأشهرها، تاركين المشاة والسابلة يتقافزون بين السيارات المسرعة في الشوارع المبلطة.
يطول الكلام عن الحال الكابوسي الذي يأخذ بخناق العراقيين وذوي الدخل المحدود منهم، وتتعدد أوجه نقص الخدمات وندرتها وانعدامها. غير أن معضلة نقص الكهرباء تستحق وقفة خاصة. ففي بلد الاحتياطي النفطي الثاني في العالم، يعاني الناس، باستثناء ناس المنطقة الخضراء طبعاً، من تبعات هذه المشكلة. وقد تعددت وسائل التخفيف من وطأتها في بلد معدّل درجة الحرارة فيه يصل في الظل إلى الأربعين مئوية. فالكهرباء «الوطنية» أي الحكومية، تأتي ساعاتعدة في اليوم، وغالباً ما لا تكون هذه الساعات مبرمجة ومعلومة التوقيت، ولهذا يستعين الناس بمولدات الطاقة الصغيرة التي تعمل على البنزين، حيث يجري تشغيلها بمجرد انطفاء «الوطنية». وهناك أيضاً المولّدات المتوسطة الحجم والقادرة على تغذية مجموعة من البيوت بـ«أمبيرات» عدة مقابل أجر شهري. أما المستشفيات والمتنزهات على ندرتها (في بغداد ثمة متنزهان كبيران لا غير، ويغلقان الأبواب مبكراً بين الثامنة والتاسعة مساءً)، فثمة مولدات متوسطة خاصة بها. ورغم كل هذه الجهود الجزئية، تبقى المشكلة من دون حل جذري، للسنة السابعة من عمر الاحتلال المشؤوم. وقد قدّر لي بعد عودتي أخيراً من الوطن أن أسأل مهندساً سويسرياً متخصصاً بالكهرباء عن الفترة اللازمة لتزويد بلد بمساحة العراق بشبكات ومحطات توليد الطاقة الكهربائية، باستخدام التكنولوجيا الحديثة والوقود التقليدي البترولي والغازي، مفترضين أن هذا البلد لم يعرف الطاقة الكهربائية أبداً، وأن العمل سيبدأ فيه من الصفر. فقال المهندس: الفترة لا تقل عن تسعة أشهر ولا تزيد عن سنة وأربعة أشهر!
* كاتب عراقي