Strong>حسين بن حمزة«داخل كل كاتب حقيقي فيلسوفٌ مُجهَض». لعلَّ عبارة الناقد الفرنسي جان فرانسوا ماركيه هي الأكثر ملاءمة لوصف تجربة عباس بيضون الذي ارتضى، على مضض، صفة «الشاعر» على حساب حلم «المفكر»، فهو لم يُعِدّ نفسه ليكون شاعراً. بقي حائراً فترة طويلة. يكتب ويتوقف عن الكتابة، معتبراً أنّ الشعر لا يكفيه، وأنَّه كالغناء واللهو، وأن الناس يكتبون شيئاً آخر أكثر جِديَّة في حياتهم. حيرة عباس وتأخُّره، بالتالي، عن إعلان نفسه شاعراً يعودان إلى شغف بالعمل النظري والفكري. كان حلمه أن يكون مفكّراً، ولم يغب هذا عن باله حتى بعد قبوله بصفة «الشاعر» وممارسته الشعرية الطويلة التي نشر خلالها 14 مجموعة، ورواية واحدة، وتُرجم شعره إلى لغات عدة. حلم «المفكر» ترافق مع انخراط عباس في العمل السياسي والحزبي المباشر. توقَّف خلالها ست سنوات عن كتابة الشعر وسُجن مرتين، الأولى بعد تظاهرات وتوزيع مناشير مندّدة بقصف الطيران الإسرائيلي لمطار بيروت عام 1969، والثانية في معتقل إسرائيلي عقب اجتياح 1982.
ولد صاحب «نقد الألم» في شحور، قضاء صور. «أمي كانت شخصية ذات سلطة. أما والدي، فكان شاعراً ذا تربية تراثية، وكان يحكي بلغة هي عبارة عن جمل محفوظة من كتبٍ قرأها. أخذتُ منه الخجل واللغة والشغف بالكتب». يتذكر عباس أنه أتقن القراءة قبل دخول المدرسة، وأن العائلة كانت معتدَّة بفصاحته المبكرة. «كنت أرافق أبي إلى مجالس الكبار، ويطلب مني أن أخطب أمامهم». في المقابل، كان طفلاً وحيداً. صحبة أبيه حرمته، بطريقة ما، عيش طفولة عادية. يتذكر أن انتقال العائلة إلى صور أصابه بنوع من الـ«تروما». كان خائفاً من لهجته الريفية، فغيَّرها خلال ساعات بلهجة مختلطة هي «اللهجة التي أتكلم بها حتى اليوم»، يقول مبتسماً.
النضج المبكر أدخله إلى السياسة. كان عمره 13 عاماً حين اندلعت ثورة 1958 ضد مشروع الرئيس كميل شمعون. قبلها كان واعياً للعدوان الثلاثي 1956، والوحدة بين سوريا ومصر 1959. وجد نفسه بعثياً لأنّ مدرسته كانت كلها بعثية. صار شيوعياً عام 1959. ثم أخذ موقفاً معارضاً، وراح يقرأ سارتر وكامو. عام 1966، تعرّف إلى وضاح شرارة وفواز طرابلسي، وبدأت علاقته مع «لبنان الاشتراكي»، التنظيم الذي يمثل جزءاً من نواة «منظمة العمل الشيوعي»، بالاندماج مع «الاشتراكيين اللبنانيين» بقيادة محسن إبراهيم.
كانت المنظمة فضاءً للمثقفين تقريباً. جزء من حلم المفكر انبثق من نضال سياسي راح يأخذ طابعاً فنياً. «كنا نناضل أخلاقياً، نناضل إزاء استحالة أي انتصار». اليوم يفكر في كتابة رواية عن المنظمة، ويصفها بـ«التجربة الاستثنائية». لماذا؟ «كونها تنظيماً لمثقفين سمح بإيجاد منعطف ثقافي وفكري في لبنان، إذ لأول مرة تنشأ في لبنان كتلة ماركسية صنعت معايير جديدة للثقافة التي كانت، في مجملها، مفاهيم مجردة. مثقفو المنظمة نقلوا النقاش إلى نقطة يمكن اعتبارها الواقع عينه... فضلاً عن أن المنظمة سجلت «الاقتحام الشيعي» للثقافة اللبنانية»، يضيف عباس بيضون الذي يصف وجوده في التنظيم باعتباره «انتماءً أخلاقياً وفنياً، ولعباً مع المستحيل».
بعد انشقاقات متلاحقة، ترك عباس المنظمة عام 1974. السياسة لم توقفه عن الكتابة. كتب ولم ينشر. لم يكن لديه تماهٍ مع فكرة الشاعر. «لزمني وقت طويل كي أقبل أني شاعر فقط. السياسة كانت تقتل فكرة الاختصاص. فضلاً عن ثقتي بأن الأمر في يدي، وأني أستطيع أن أصبح شاعراً في الوقت الذي أريده. والغريب أن الواقع لم يخذلني». في تلك الفترة، كتب قصيدة «صور» و«يا علي» التي اشتهرت بصوت مارسيل خليفة لاحقاً. ثم جاءت الحرب وأطاحت فكرته عن الشعر. «كانت «صور» ذات طابع نشيدي. الحرب سدَّت منافذ النصوص التي كنت أكتبها. الماركسية والحرب أشعرتاني بأن الشعر المتاح في تلك الفترة لا يلائمني».
عودته النهائية إلى الشعر جاءت بعد قراءته للشاعر اليوناني يانيس ريتسوس الذي يسميه «المعلم الشخصي»، فقد عثر فيه على لغة لطالما فضّلها في التفكير والكتابة. لغة مادية وجزئية ومسنّنة ومحايدة وقاسية. تأخُّرُه في الإعلان رسمياً عن نفسه كشاعر، رافقه تأخّرٌ في النشر أيضاً، وكان ذلك بسبب كسل النشر لا كسل الكتابة والاقتناع بها هذه المرة. هكذا نشر مجموعته الأولى «الوقت بجرعات كبيرة» وهو في الثامنة والثلاثين. وكانت قد سبقتها قصائد وكتب كاملة لم ينشر منها سوى قصيدة «صور» التي صدرت عام 1985. والفضل في ذلك يعود إلى إلياس خوري الذي احتفظ بنسختها الوحيدة أثناء الحرب، ونشرها لاحقاً في مجلة «شؤون فلسطينية».
مع ريتسوس، وقبلها إليوت وريلكه وويتمان وبيار جان جوف، وجد عباس نفسه ولغته. وحين كتب قصائد مجموعته الأولى كان ذلك بإيعاز ريتسوسي راح يعثر، في ضوئه، على نبرته الخاصة. هذه المجموعة التي كانت بمثابة إعلان عن بيان شعري شخصي لم تستمر لغتها سوى فترة قصيرة. ظلَّ عباس محتفظاً بحساسيته وافتتانه اللغوي ذاك، إلّا أنَّه أفصح، في مجموعاته اللاحقة، عن تدرجات وطبقات واختبارات عديدة. في باكورته، نجد حياداً سردياً جافاً على سطح جملته الشعرية ورطباً في أعماقها. ونقع على جملة متولّدة من نفسها في «نقد الألم» (1987)، ولغة قاسية ومسننة في «خلاء هذا القدح» (1990) و«حجرات» (1992)، ولغة وقائعية تقريباً في «أشقاء ندمنا» (1993)، ولغة عضوية وبيولوجية وفضلاتية في «لفظ في البرد» (2000)... إلخ.
«أحياناً أخاف من فكرة أني استُنفدت، ربما لأني صنعت قفزات كثيرة في شعري»، يقول رداً على ما يراه بعضهم «قفزات أسلوبية» في تجربته. هل كتابته للرواية كانت نوعاً من الحل؟ يستسيغ صاحب «تحليل دم» هذا الطرح، ويقول: «الشعر عمل خانق. لا تستطيع أن تكتب لمجرد أنك شاعر. عليك دوماً أن تنتظر، وأن تكتب من دون أن تُظهر براعتك وتفنُّنك. في الرواية، تستطيع أن تتفنَّن، وأن تكتب بانتظام أيضاً». روايتك استُقبلت باهتمام كبير، وتُرجمت إلى الإنكليزية، لكنها لم تجلب لك اعترافاً بدخول نادي الرواية؟ «لا أكترث باعتراف من هذا النوع. أنا أكتب بمنطق أن الكتابة تملك تواشجاً داخلياً يجعل الرواية تمريناً معادلاً للشعر». يصمت قليلاً، ويضحك: «لدي روايتان أخريان ربما تُجبران، بمعيار إجرائي وكمي على الأقل، على الاعتراف بي
كروائي».
السياسة التي مارسها بخصوصية معينة لم تغادر قصائد عباس بيضون، ولم تنقطع عن الحضور في مقالاته الصحافية. بالنسبة إليه، ينبغي أن يكون للثقافة استقلال دائم، وأن تجعل المثقف قادراً على أن تكون له فكرة خاصة عما يحدث. «لست معلقاً أو محللاً سياسياً. أنا أكتب من موقف أخلاقي. لستُ منخرطاً في أي كتلة أو طرف سياسي. مقالتي هي التزام تجاه الناس الذين أعيش بينهم. أكتب ما فات الآخرين أن يكتبوه أو يركزوا عليه».


5 تواريخ

1945
الولادة في شحور، قضاء صور (جنوب لبنان)

1966
الانتماء إلى «لبنان الاشتراكي» الذي انبثقت عنه «منظمة العمل الشيوعي»

1969
اعتُقل بعد مشاركته في تظاهرات وتوزيع مناشير عقب قصف الطائرات الإسرائيلية مطار بيروت. واعتُقل عام 1982 خلال الاجتياح

1983
صدور مجموعته الشعرية الأولى «الوقت بجرعات كبيرة» (دار الفارابي)

2009
صدور مختارات شعرية له بالفرنسية بعنوان «أبواب بيروت» عن دار «آكت ـــ سود» الباريسية