يجري الكاتب والناشط السعودي أحمد عدنان جردة حساب عما للتيار الإصلاحي وما عليه عن طريق تتبّع مسار هذا التيار في علاقاته مع النظام. جردة حساب يقع شيعة السعودية في صلبها، وتشمل الكاتب الذي لا يحيّد نفسه عنها، بل يتحيّن الفرصة لتقديم اعتذاره الشخصي للملك والنظام عن تأييده، ذات يوم، الضغط الأميركي على الرياض
أحمد عدنان *
يلفت نظري، في صفوف المعارضة السعودية خارج البلاد، الخطاب العقلاني والبنّاء لفؤاد إبراهيم وحمزة الحسن، وتجوز إضافة الصحافي الزميل عبد العزيز الخميس في أحيان كثيرة، ومضاوي الرشيد، حصراً في كتابيها: «السياسة في واحة عربية» و«تاريخ العربية السعودية».
ما يلفت النظر هو أن هذا الخطاب يكاد يتقاطع مع خطاب التيار الإصلاحي في المملكة، إن لم يتطابق معه في مواطن عدة، ما يدفع للقول، إن المعارضة السعودية خارج البلاد، ليست كلها على درجة واحدة من معاداة النظام، بل يصح القول، إن في هذه المعارضة من يعادي النظام بالمطلق، وفيها من يختلف معه، وشتان ما بين العداوة والاختلاف.
سعد الفقيه، على سبيل المثال، يطالب بإسقاط النظام علناً ودائماً، محمد المسعري في أكثر من تصريح، يستعير أدبيات تنظيم «القاعدة»، ويطلق مصطلح «الجزيرة العربية» على الوطن العربي السعودي، ونلاحظ بوضوح، أن هذه اللغة الحدية والفاصلة، تختلف عن لغة الحسن وإبراهيم، وعبد العزيز الخميس غالباً.
حمزة وفؤاد عادا إلى المملكة بعد حرب تحرير الكويت، على أثر المصالحة بين النظام والحركة الإصلاحية التي كانت قبل ذلك تسمى «الثورة الإسلامية في الجزيرة العربية»، وهي الحركة التي تأسست بعد أحداث عاشوراء 1400 (هـ) حين تظاهرت مجموعات شيعية في المنطقة الشرقية من المملكة احتجاجاً بسبب الحالة المزرية للمناطق الشيعية من جهة، ومن جهة أخرى تهديدات الولايات المتحدة للجمهورية الإسلامية أثناء احتلال السفارة الأميركية في طهران.
أقامت الحركة أولاً في طهران، ثم انتقلت إلى دمشق بعد الاختلاف مع رئيس الجمهورية الإيرانية (وقتها) علي خامنئي الذي أراد تسيير الحركة ضمن أمواج السياسة الإيرانية، وبعد سنوات من الإقامة في دمشق، انتقلت إلى لندن رغبة في اكتساب أبعاد إعلامية وسياسية أوسع، لتأتي حرب الخليج الثانية، وتتعرض المملكة للخطر العراقي بعد احتلال الكويت، فيقدم الشيخ حسن الصفار موقفاً وطنياً كبيراً يتمثل في إعلان تضامنه مع النظام، مطالباً الشيعة في المملكة بالالتحاق بمعسكرات التدريب الحكومية من أجل الدفاع عن الوطن، وقال نصاً لوكالة «رويترز»: «وإن كنا نعاني كطائفة من بعض المشاكل، إلا أن ذلك لا يعني أن نقف مع العدوان العراقي أو نبرر لهعلى الرغم من المسمّى الصارخ للحركة، إلا أنها في الحقيقة لم تكن تحمل برنامجاً سياسياً واضحاً، لأنها كانت حركة احتجاج ونقد أكثر منها حزباً سياسياً أو تنظيماً تحررياً. لكن في عام 1991 قررت المنظمة تغيير أيديولوجيتها وهويتها، فأصبح اسمها «الحركة الإصلاحية» وقررت أنّ هدفها يتحدد في تحقيق الديموقراطية والحريات العامة وصيانة حقوق الإنسان، وأن تتوصل إلى ذلك بأساليب الضغط السلمي على الحكومة. وكان مما سهل عودتها للبلاد، ملاحظة قادتها أن مستوى النقد لسلوك النظام وأجهزة الدولة في الداخل اقترب كثيراً من خطابهم بسبب حرب الخليج، كما أن النظام تلقى بترحيب وتقدير بالغين تصريح الشيخ حسن الصفار، وبدأت الاتصالات بين الحركة والنظام ممثلاً في د. ناصر المنقور ود. غازي القصيبي (سفيري السعودية في لندن سابقاً) وأحمد الكحيمي (سفير المملكة في سوريا سابقاً) والشيخ عبد العزيز التويجري (مستشار الملك عبد الله) والأمير بندر بن سلطان (سفير المملكة في الولايات المتحدة وقتها).
وقد أسهمت هذه الاتصالات بأن يجتمع الملك فهد ــــ رحمه الله ــــ في جدة بوفد من الحركة في أيلول / سبتمبر 1993 انتهى بالعفو عن المعارضين الشيعة خارج البلاد، وإطلاق المعتقلين في الداخل، وإيقاف الاعتقالات العشوائية في المنطقة الشرقية بشبهة الطائفة، ولاحقاً الموافقة على بناء المساجد وأداء الشعائر في العلن.
عاد حمزة الحسن وفؤاد إبراهيم إلى البلاد بعدما تصالحت حركتهما مع النظام، ولكن للأسف، لم تفتح أمامهما سبل العيش؛ فالصحف السعودية لم ترغب في استكتابهما، والأجهزة الرسمية لم تصرح لهما بتأسيس مجلة يمارسان من خلالها مهنتهما الوحيدة، وهي الكتابة، وهوايتهما الدائمة، أي التفكير، مما دفع الحسن وإبراهيم إلى مغادرة البلاد في أواخر التسعينيات، ولم ينشطا كمعارضة إلا قبل سنوات معدودة، أي بعد عقد تقريباً على مغاردتهما الثانية.
ربما يكون ثمة تشابه بين حالة الحسن وإبراهيم وحالة عبد العزيز الخميس، فالأخير فصل من منصبه رئيساً لتحرير مجلة «المجلة» أواخر عام 2000 بطلب من الرئيس الليبي معمر قذافي على أثر موضوع تناول ابنته عائشة، بعدها حاول الخميس إصدار مجلة اقتصادية، لكن الأجهزة الرسمية رفضت أن تأذن له فاضطر إلى مغادرة البلاد، وما يثير الاحترام، إدانة عبد العزيز الخميس الصريحة لمحاولة القذافي اغتيال الملك عبد الله في أيلول / ديسمبر 2003 حين فضحتها صحيفة «نيويورك تايمز» بعد إحباطها بأشهر.
أصدر فؤاد إبراهيم عام 2007 كتاباً بعنوان «الشيعة في السعودية»، أستحضره الآن، للاستدلال على أنه من الممكن، بل من البديهي، أن تكون هناك صور مضيئة لتجربة المعارضة، في بداية الكتاب يعلن إبراهيم: «ليست النية معقودة هنا من أجل استدراج القارئ إلى المشاركة في تسجيل شهادة إدانة ضد الدولة وتبرئة الشيعي»، وأعتقد أن إبراهيم حقق جزءاً كبيراً من مهمته الموضوعية، فهنا نجده ينتقد النظام: «لم يسبق أن وصل مواطن شيعي إلى منصب وزاري، فنسبة تمثيل الشيعة في مجلس الوزراء هي صفر بالمئة وفي مجلس الشورى 3% وفي مجالس المناطق 18% ولم يعين إلا سفير شيعي واحد هو سفير السعودية في طهران (وقد أحيل على التقاعد لاحقاً)».
وفي مكان آخر، ينتقد التطرف الديني سواء في قراءة د. سفر الحوالي ــــ شفاه الله ــــ لعريضة «شركاء في الوطن» أو فتوى علماء السلفية السعوديين في كانون الثاني / يناير 1927والتي منها: «وأما الرافضة، فأفتينا الإمام أن يلزمهم البيعة على الإسلام، ويمنعهم من إظهار شعائر دينهم الباطل... وترك الشرك من دعاء الصالحين من أهل البيت وغيرهم، وعلى ترك سائر البدع في اجتماعهم على مآتمهم وغيرها، مما يقيمون به شعائر مذهبهم الباطل، ويمنعون من زيارة المشاهد في العراق... ويرتب الإمام فيهم أئمة ومؤذنين ونواباً من أهل السنة... ومن أبى قبول ذلك ينفى عن بلاد المسلمين».
لم يتوقف إبراهيم عند هذا الحد، بل سخّر الجزء الأكبر من كتابه لنقد التجربة الشيعية والفكر الديني الشيعي داخل البيئة السعودية، ومن ذلك: «مؤسف القول إن المنطقة الشرقية كانت سوقاً للنتاج الثقافي الشيعي بصيغته السجالية، وهو نتاج يشتمل على تعريض بالخلفاء الراشدين وبأمهات المؤمنين وخصوصاً عائشة وحفصة، إضافة إلى ما تحمله بعض الأدعية غير المسندة من عبارات هابطة ومخلة، ولا تقترب من بعيد أو قريب من روح التشيع كما صاغه الإمام جعفر الصادق... إن استمرار تدفق هذه النتاجات إلى الساحة الشيعية لا مبرر له سوى رغبة بعض مؤسسات النشر في تحقيق مزيد من الربح، وتلبية لأهداف خاصة لا يجني منها الشيعة في المنطقة الشرقية سوى التوتر في علاقاتهم الداخلية، والركون إلى ثقافة سجالية، والانحباس في الشرنقة الطائفية».
يطالب إبراهيم رجل الدين الشيعي في المملكة بتطوير خطاب ديني متسامح، وامتلاك القدرة على نقد الذات قبل نقد الآخر، ويطالب الشيعة جميعاً بالانخراط في نشاط وطني عام، باعتبارهم جزءاً من وطن كبير، يحتضن تلاوين من القوى السياسية والاجتماعية والثقافية تقاسم الشيعة هموماً وطموحات ومصالح مشتركة، وتراباً واحداً ومصيراً واحداً، وينتقد بضراوة بعض الشيعة الذين يمموا وجوههم إلى الخارج الشيعي، يقول إبراهيم: «المواطنون الشيعة الآن إزاء فرصة للاندماج في النسيج الوطني العام، والانتقال من كونهم فئة مذهبية إلى قوة فاعلة في البناء الوطني العام، فهم جزء منه ويتحملون قسطاً من مسؤولية الالتحام به».
وهنا، تجدر الإضاءة على بعض الخطابات (البيانات) التي رفعها المواطنون الشيعة إلى أصحاب القرار في المملكة العربية السعودية للتأكيد أن رؤية (إبراهيم) تنطلق من أساس متين داخل الطائفة.
أهم هذه الخطابات من وجهة نظري، خطاب (اندماج الشيعة في الإطار السياسي الوطني ــــ برنامج عمل لمعالجة التمييز الطائفي) الذي رفع لولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز في 5 شعبان 1429هـ بتشجيع هيئة حقوق الإنسان الحكومية ورئيسها السابق تركي السديري، ويحقق هذا البرنامج حاجتين متوازيتين: «حاجة الطائفة الشيعية في التخلص نهائياً من مشكلة التمييز والتهميش القائم على مبررات مذهبية... وحاجة النظام في التخلص نهائياً من القلق الذي يسببه الانقسام المذهبي» ضمن مفهوم الاندماج «الذي يعني إزالة الأسباب التي تعيق المشاركة الطبيعية للشيعة في الحياة العامة للبلاد»، مقترحين مسارات ثلاثة لتطبيق هذا البرنامج: «التمثيل الوظيفي، التطبيع الاجتماعي، وتحييد الجانب الديني في العلاقة بين المجتمع الشيعي والدولة».
وقد اقترح مقدمو البرنامج خطوات تفصيلية ومتدرجة لتنفيذ كل مسار، ويحسب للبرنامج أساساً، انطلاقه من النظام الأساسي للحكم. من حيث تطبيق مبدأ المساواة، وتعزيز قيمة المواطنة، ومن وجهة نظري، أرى أنه من الواجب على النظام، الشروع فوراً في إقرار هذا البرنامج وتنفيذه، للأسباب الواردة في نصه، ومعالجة مناخ الإحباط الذي تولد في أوساط الشيعة بعد القرارات الإصلاحية في شباط / فبراير الماضي، والسبب، أن هذه القرارات، كما يقول بعض ناشطي الطائفة، لم تلتفت لهم.
هذا البرنامج جاء تطوراً عن خطابات سابقة، منها خطاب رفعه وجهاء الشيعة إلى الملك عبد الله حين كان ولياً للعهد في 1 رجب 1417هـ شكوا فيه من تضييق بعض أجهزة الدولة على الشيعة في ممارسة شعائر دينهم عبر منع بناء مساجد جديدة أو ترميم القديم منها (في ذلك الوقت)، والشكوى من السماح بتوزيع الكتب التي تتعرض للشيعة وتهين معتقداتهم في سوق النشر السعودي وفي المقابل منع كتب الفقه الشيعية، والاعتراض على بعض الإشكالات التي واجهت محكمة القضاء الجعفري في ذلك الحين، والتمييز الوظيفي والتعليميفي 30 نيسان / أبريل 2003، قدم أكثر من 450 شخصية من نخبة الشيعة خطاباً إلى الملك (الأمير) عبد الله بن عبد العزيز بعنوان (شركاء في الوطن) أكدوا فيه ضرورة تعزيز وحدة الأمة والوحدة الوطنية عبر احترام جميع المذاهب الإسلامية والانفتاح عليها، ويقول البيان: «إن المواطنين الشيعة في المملكة هم جزء أصيل لا يتجزأ من كيان هذا الوطن الغالي، فهو وطنهم النهائي، لا بديل لهم عنه، ولا ولاء لهم لغيره، وهم من بادروا إلى الانضواء تحت رايته الخفاقة حينما رفعها الملك المؤسس عبد العزيز طاب ثراه، من دون تمنع أو تردد، ووضعوا كل إمكاناتهم وثرواتهم في خدمة بناء الوطن، متطلعين إلى العدل والأمن والمساواة والاستقرار. وهم في هذه الظروف العصيبة، يؤكدون ولاءهم الوطني»، واقترح البيان بعض الأفكار لتحقيق هذه التطلعات.
ولو نظرنا خارج الهم الطائفي، فإن للناشطين الشيعة حضوراً بارزاً في خطابات التيار الإصلاحي وأدبياته، ويبدو ذلك واضحاً في خطاب الرؤية (كانون الثاني 2003) وبيان (دفاعاً عن الوطن) على سبيل المثال، ولو راجعنا مسيرة اليسار في المملكة، بدءاً من جبهة الإصلاح الوطني (1956) ثم جبهة التحرر الوطني (1958) وصولاً إلى الحزب الشيوعي (1975) فإننا نلمس مشاركة واسعة وقيادية لعلمانيي الشيعة، وبصورة تجسد القطيعة الجذرية مع فكرة الطائفة.
إذاً، من الشكوى، إلى الشراكة، إلى نقد الذات كما في رؤية إبراهيم، والاندماج كما في برنامج معالجة التمييز الطائفي، والرؤية الوطنية في أدبيات الإصلاح، يتضح أن الخطاب الشيعي السعودي، قد استطاع في مجمله تجاوز حواجز الطائفية والشكوى والسلبية إلى رحاب الوطنية والمبادرة بامتياز، ومن اللازم هنا، إدانة الأسلوب الرخيص الذي تعاملت به بعض وسائل الإعلام المؤدلجة مع أحداث البقيع في شهر فبراير الماضي وتداعياتها، سواء في تصريح الشيخ نمر النمر ودعوته المدانة ــــ من الشيعة قبل غيرهم ــــ لانفصال الشيعة عن الوطن العربي السعودي أو أحداث بلدة العوامية، وهو ما دفع الكاتب أنس زاهد للامتعاض في صحيفة «المدينة» بتاريخ 28/2/2009 حين قال: «الكتاب والإعلاميون والمثقفون الذين ساهموا بكتاباتهم في الفترة الأخيرة، في بث كل أنواع الفرقة بين أبناء الوطن الواحد، سيكونون مسؤولين أمام الله وأمام التاريخ وأمام الأمة عن تنامي ثقافة الكراهية التي لن تولد سوى العنف، العجيب أن معظم هؤلاء الكتاب والمثقفين والإعلاميين إنما زرعوا وما زالوا يزرعون بذور الفتنة الطائفية والمذهبية مدعين أنهم يفعلون ذلك من منطلقات وطنية، وهذه أكذوبة كبرى».
من المهم الإشارة هنا، إلى رد الشيخ حسن الصفار على تقرير وزارة الخارجية الأميركية عن الحريات الدينية في المملكة في 17/9/2004، حيث قال: «إن المواطنين الشيعة في المملكة العربية السعودية يرفضون التدخلات الأجنبية في شؤون بلدهم، وهم جزء لا يتجزأ من وطنهم، ويرفضون استخدام اسمهم للضغط والابتزاز من أي جهة أخرى، وإذا كانت لديهم مشكلات فإنهم كبقية مواطنيهم يتواصلون مع حكومتهم لمعالجة هذه المشكلات. وأؤكد في الوقت ذاته ضرورة تفويت الفرصة على الأعداء والطامعين بترسيخ الوحدة الوطنية ومعالجة الثغرات ونقاط الضعف، وأن يأخذ الحوار الوطني مساره الحقيقي في تفعيل الإقرار بالتعددية المذهبية التي أقرتها توصياته، وعدم إتاحة المجال لأي ممارسات وإثارات طائفية لا يستفيد منها إلا الأعداء، وستبقى بلادنا إن شاء الله شامخة بالإسلام العزيز وبوحدة شعبها وتلاحمه مع قيادته الحكيمة في مواجهة كل المؤامرات والتدخلات المغرضة».
في ذلك الوقت، وتعليقاً على البيان نفسه، كان كاتب هذه السطور يصرح لوكالة «رويترز» بأن «الإدارة الأميركية تتحمل مسؤولية أخلاقية للضغط على النظام السعودي من أجل فرض الإصلاح في المملكة وتمريره». هذا التصريح الذي لا يمكن أن يوسم سوى بالسذاجة، أجدني أسحبه اليوم، وأعتذر عنه من الوطن العربي السعودي والتيار الإصلاحي، مقتدياً في ذلك بأدبيات التيار الإصلاحي التي وقعت عليها وآمنت بها، والتي تقوم على موالاة النظام وتعزيز مناعته في مواجهة التحديات الداخلية والأخطار الخارجية والإيمان بالوحدة الوطنية والإصلاح.
وبالعودة إلى الموضوع الأساسي، نماذج المعارضة البناءة، تلقف المجتمع السعودي التقرير الثاني لجمعية حقوق الإنسان الأهلية بارتياح بالغ قبل أشهر، الذي وجه نقداً صريحاً للقضاء وهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وطالب بأن يتاح لمجلس الشورى محاسبة الوزراء ومشاركة المرأة وإقرار الميزانية، والعمل بمبدأ الانتخاب بدل التعيين، وانتقد ظاهرة الفساد في بعض قطاعات الدولة، ولعل هذا الارتياح الذي لاقاه البيان هو ما حرض الكاتب زياد الدريس في صحيفة «الحياة» بتاريخ 8 نيسان / أبريل الماضي على التساؤل: «متى تصبح المعارضة جزءاً من الداخل، هدفها الإصلاح لا الاعتراض فحسب، وخطابها نقدي إيجابي، لا يتغاضى عن الأخطاء والقصور في الأداء، لكنه أيضاً لا يتغاضى عن الإيجابيات والإنجازات، معارضة لا تنفي مخرجات الحكومة، ولا الحكومة تنفيها إلى الخارج».
إن برنامج معالجة التمييز الطائفي، والتقرير الثاني لجمعية حقوق الإنسان (الذي لا يختلف في روحه وتفاصيله عن خطاب التيار الإصلاحي)، وحنين الدريس والسيف إلى فكرة المعارضة الإيجابية، ووجود نماذج من هذه المعارضة خارج البلاد، وبيانات التيار الإصلاحي بدءاً من 2003 حتى اليوم، كلها دلالات ملحة على ضرورة تطوير الحياة السياسية في المملكة واستحداث الإطار الذي ينظمها.
كان يمكن تجربة التيار الإصلاحي أن تتطور لتلعب دور هذه المعارضة المنتظرة، ولكن أخطاءً تكتيكية واستراتيجية وقع فيها التيار، سواء في خطابه المشتت بين وثيقة الرؤية وبيان الملكية الدستورية، وخصومته للتيار الديني، وتوتر علاقته بالنظام، أضعف هذا الأمل، من دون إعفاء النظام والتيار الديني من المسؤولية. على صعيد آخر، لا بد من الالتفات إلى خطوات تمهيدية، تمثّل قاعدة صلبة، لبلورة حياة سياسية جادة في البلاد، ولا غنى عن المطالبة بها:
أولاً: تعزيز قيمة النظام الأساسي للحكم، مركزاً للعلاقة التعاقدية بين النظام والمواطنين، ولعل استكماله بمحكمة نظامية عليا، واعتبار توصيات الحوار الوطني الثاني وخطاب الملك فهد في مجلس الشورى (أيار / مايو 2003) وخطاب الرؤية كانون الثاني / يناير 2003 وخطاب بيعة عبد الله بن عبد العزيز وبرنامج معالجة التمييز الطائفي ملاحق للنظام، واستحضاره مع البيعة، فتكون المبايعة على النظام الأساسي للحكم، بدلاً من المبايعة على الكتاب والسنّة، وخاصة أن النظام الأساسي يصون مكانة الكتاب والسنة في مادته الأولى.
ثانياً: التمييز بين مفهوم الحكومة كسلطة تنفيذية تخضع للنقد والمحاسبة واختبار الثقة، ومفهوم النظام كمجموع المؤسسات التي تتوزع بينها عملية صنع القرار السياسي، وهذا يستدعي التشديد في البيانات الرسمية ووسائل الإعلام، على التمييز بين مهمات خادم الحرمين ملكاً للبلاد، ومهماته رئيساً للسلطة التنفيذية، فهو داخل مجلس الوزراء رئيس للمجلس، وخارجه هو الحاكم الأعلى للبلاد، وهذا ينسحب على الأمراء الأجلاء داخل الحكومة، فهم الوزراء أصحاب المعالي فقط داخل مجلس الوزراء أو أثناء عملهم الوزاري، وسبق للنظام أن اتخذ قراراً يسير في هذا الاتجاه حين عدل الملك فهد في ثنايا عام 2003 نظام مجلس الشورى ليعود رئيسه إلى الملك بدلاً من رئيس الحكومة.
ثالثاً: توجيه التحية إلى روح الملك الراحل خالد بن عبد العزيز، الذي عفا عن كل المعتقلين السياسيين في الداخل والمعارضين في الخارج في بداية حكمه، ودعاهم جميعاً في لفتة وطنية وإنسانية للمساهمة في تنمية الوطن.
بالاستناد إلى خطاب الرؤية، وموقف عبد الله بن عبد العزيز في العفو عن الإصلاحيين الثلاثة عند توليه الحكم، وإلى تراث الراحلين فهد بن عبد العزيز وخالد بن عبد العزيز، وتراث الملك عبد العزيز من قبل في العفو عن الخصوم واستمالة أصحاب الرأي المختلف، يليق بخادم الحرمين اليوم أن يبادر لمعالجة القضايا العالقة بين النظام والإصلاحيين، بدءاً باستكمال إلغاء قرارات منع السفر، ومن جهة أخرى، العفو أو تسوية أوضاع المعارضين في الخارج بما يكفل هيبة النظام، ويعزز الوحدة الوطنية ويحفظ كرامات المواطنين، ويحمي النظام الأساسي للحكم، ويمكن التيار الإصلاحي أن يلعب دوراً لإنجاح هذه التسوية، إن لم يكن واجباً عليه القيام بهذا الدور.
رابعاً: المطلوب من التيار الإصلاحي، أن يستكمل بناءه كجماعة ضغط سياسية، وهذا لن يتحقق، إلا بتوحيد الصف وصياغة خطاب جديد وواضح، يتمسك بإنجازات الماضي ويواكب المتغيرات، وينحو باتجاه الواقعية والقواسم المشتركة مع الآخر، وطلب المساهمة في السلطة التنفيذية والانسجام مع أجهزة الدولة وأنسجتها، والنظام في المقابل مطالب بالتفكير في استحداث حصة للتيار الإصلاحي داخل السلطات الثلاث من أجل إثراء الدولة بدماء جديدة، وأفكار خلاقة، وكفاءات مشهود لها بالخبرة والنزاهة، ويأتي هذا التوجه، ضمن المحاصصة السياسية المتعارف عليها في المملكة الآن، فالحقائب السيادية والرئيسية للأسرة الحاكمة، ولا اعتراض على ذلك، وهناك حقائب مصانة للتيار الديني بما يشيه العرف، منها: وزارة الأوقاف ووزارة العدل، ورئاسة المجلس الأعلى للقضاء، ورئاسة ديوان المظالم، ورئاسة مجلس الشورى، رئاسة الحرمين، وجهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبقية الحقائب من حصة التكنوقراط غالباً.
في الختام، وجب التنبيه، إلى أن توجيه التحية إلى شيعة السعودية، يتوازى مع إدانة التوجهات الطائفية الضيقة من أي طرف، كما أن الالتفات إلى الخطاب العقلاني لدى بعض معارضة الخارج، يعني بالضرورة، استنكار لغة الهدم، وتحفيز روح التفاعل والتنوع تحت مظلة النظام الأساسي للحكم، وعلى صعيد آخر، فإن غض الطرف عن أدبيات التيار الديني، هي في الحقيقة دعوة له، لنقد الذات باتجاه التصالح مع الآخر ومع الحياة وتأييد مشروع الإصلاح، وهذا ينسحب على النظام، والأمل معلق عليه، في فتح نوافذ المصالحة وأبواب الحوار، ومراجعة تصريحات وقرارات أنجبتها حقبة التوتر على غرار «أخذناها بالسيف» و«الحكومة أكثر تطوراً من الشعب» وغير ذلك، والسعي باتجاه التطبيق الكامل للنظام الأساسي للحكم ومشروع الإصلاح بالسرعة التي تتناسب مع الحاكم والمحكوم على السواء.

* كاتب وناشط سعودي