سلامة كيلة *في إطار ما يمكن أن يطلق عليه «الوعي التجديدي» في الماركسية، الذي نشأ بعد انهيار النظم الاشتراكية، جرى اعتبار الماركسية التي كانت رائجة، المسمّاة «الماركسية اللينينية»، صحيحة لكنها ناقصة، نتيجة انغلاقها، وبالتالي تجاهلها للتراث وأيضاً للفكر الإنساني، وللتطور العلمي وتطور الفكر عموماً.
هذا التحديد لـ«أزمة الماركسية» قاد إلى استنتاج بأن التجديد يفرض حتماً التأكيد على ضرورة «فتحها». وانطلاقاً من أنها صحيحة يجب أن تُكمل عبر اعتبار أنها ليست المصدر الوحيد، وبالتالي التأكيد على ضرورة إكمالها بإضافة مصادر أخرى، منها التراث، ومنها الفكر الإنساني، ومنها تطور العلوم، التي كانت الماركسية الرائجة عاجزة عن التفاعل معها ودمجها واستيعابها.
لكن هذه العملية جرت وفق «منطق كمّي»، قام على أساس «الجمع»، بحيث أصبح الفكر المتبنى هو الماركسية تلك، والتراث (أو ما هو تقدمي وإيجابي من التراث)، والفكر الإنساني، وتطور العلوم. الأمر الذي أوجد خليطاً من الأفكار، لأن في الماركسية الرائجة ما هو متناقض مع التراث ومع الفكر الإنساني وتطور العلوم. وفي التراث كذلك (حتى ما هو تقدمي فيه) ما هو متناقض مع الفكر الإنساني والماركسية الرائجة... فهذا «الجمع» قاد إلى التلفيق، والى تكوين «كوكتيل فكري» من دون أن يتجاوز مشكلات الماركسية الرائجة، بل على الأغلب زاد منها. فالمشكلة التي كانت تحكم الماركسية الرائجة تلك هي أن هذه الماركسية لم تكن صحيحة. وهذه هي المسألة التي تحتاج إلى بحث من أجل التجديد، وإلّا لما كانت النتيجة إعادة التأسيس. بمعنى أن هذه الماركسية كانت منغلقة لأنها قامت على أسس فرضت أن تكون منغلقة، وتأسست على منهجية تفرض حكماً أن تكون منغلقة. فقد انغلقت في «منظومة متكاملة»، محدّدة مسبّقاً. الأمر الذي أفقدها منهجها المادي الجدلي، وكرّس المنطق النصيّ (العقيدي)، وهو المنطق القديم المتوارث، سواء في شكله الفلسفي (المنطق الأرسطي)، أو في شكله اللّاهوتي الديني.
وهذه هي المشكلة الجوهرية في تلك الماركسية. مشكلة أن المنهجية الماركسية كانت غائبة، وحلّت محلّها منهجية تقليدية سابقة لنشوء الرأسمالية. وككل الأفكار السابقة للرأسمالية، فقد كانت تؤسّس لنص مغلق ومقدّس، ليصبح المطلوب هو تطبيق هذا النص على الواقع، وانحكام الواقع للنص بصفته المؤسس للواقع ولتطوره. وهذا المنطق مغلق، وغير قادر على أن يتطور بتطور الواقع، لأنه كما أشرنا يحكم الواقع لأنه متعالٍ عليه. وبالتالي يرفض أن يتطور الواقع بمعزل عنه، أو بتحييد له. الأمر الذي يفرض جعل الواقع ثابتاً ساكناً.
ولهذا كانت الماركسية هذه مغلقة، وبالتالي لم تستطع حينما «انفتحت» أن تستوعب التراث والفكر الإنساني وتطور العلوم بطريقة صحيحة، وإلا لكانت قد نفت ذاتها. وسنلمس أن هذا «الجمع» لم يكن متوازناً. لهذا كانت تتخبط بين منطقها وبين التراث والفكر الإنساني، مما جعلها تعمل توليفاً متناقضاً، وتراوح بين أطرافه، وتجمع مسائل متناقضة وإن أقامت بينها تجاوراً، لكنها ظلت تنحكم لعقل نصيّ. وهو الأمر الذي جعل التعامل مع التراث ومع الفكر الإنساني ومنجزات العلوم، تعاملاً «خارجياً»، قام على الاعتماد على نصوص من التراث ومن الفكر الإنساني ومن منجزات العلوم، ومن الماركسية ذاتها. لهذا حلّت حقوق الإنسان والديموقراطية محل «دكتاتورية البروليتاريا» والديموقراطية الشعبية. وجرى التعامل إيجاباً مع مجمل التراث دون رؤية نقدية.
ولقد أسس ذلك لنشوء ميول متناقضة، سواء من خلال الموقف الخاطئ من الحركات الأصولية استناداً إلى العودة للتغني بالتراث، أو بالغرق في اللبرلة استناداً إلى التهويل بـ «الفكر الإنساني».
لقد وسّع ذلك مرجعية المنطق النصيّ ولم يلغه، بحيث أصبح بمقدوره العودة إلى «الماركسية اللينينية» كما كان يفعل، ولكن كذلك العودة إلى التراث لكي يستند إلى ما هو «تقدمي وإنساني» فيه. وأيضاً العودة إلى الفكر الإنساني (وخصوصاً الفكر الديموقراطي)، ومنجزات العلوم، ليكوّن كل منها نصاً مطلقاً يمكن أن يجري الاستناد إليه لكي يحكم الواقع.
وربما يمكن تحديد التغيرات في إبدال دكتاتورية البروليتاريا بالديموقراطية عبر العودة إلى أفكار عصر التنوير الأوروبي، وإبدال الاشتراكية بالليبرالية كذلك بالعودة إلى مراحل الرأسمالية الأولى. وكان ذلك يتجاوز منطق الماركسية الرائجة الذي ساد في مرحلة انتصار الحركة القومية العربية، وخصوصاً منذ سنة 1964، والذي قام على الانسجام مع منطق الحركة القومية العربية المنتصرة.
هذا المنطق قام على تكريس نظم استبدادية، وتأكيد تحقيق «الاشتراكية»، التي كانت تعبّر عن ميول فئات وسطى ريفية أكثر مما عن «الاشتراكية العلمية». لكنه كان يعود إلى منطق الماركسية الرائجة الذي ساد قبل ذلك، وخصوصاً سنوات 1937/1964، والقائم على تبني الديموقراطية والليبرالية (أو الديموقراطية البرجوازية)، لكن هذه المرة مع تكيف مع النمط الرأسمالي العالمي في مرحلته الجديدة المسماة العولمة.
المسألة هنا إذن، تتمثل في تجاوز منطق تبنّته الحركة الشيوعية بعد وصول الحركة القومية إلى السلطة، وكان منطقاً خاطئاً لأنه يتبنّى الاستبداد ويرى أن ما تبنيه هذه الحركة هو الاشتراكية، رغم أنه كان يعبّر عن أفق لتحقيق التطور الرأسمالي تحت مسميات اشتراكية. لكن ذلك بالعودة إلى منطق خاطئ آخر كان يحكمها، وكان سبب وصول تلك الحركة إلى السلطة، وتمثل في دعم تطور برجوازي وهمي، أي لم تكن البرجوازية المتكوّنة في الواقع معنية به.
ولا شك في أن استمرار المنطق النصيّ كان يفرض التعامل الشكلي ذاك، لأنه لم يكن يسمح بوعي مشكلات الواقع، أو أن مشكلات الواقع لم تكن في وارد هذا المنطق، لأنه هو محدد الواقع. لهذا ـــــ ووفق منطق «المجددين» ـــــ فإن المطلوب هو إبدال تصورات بأخرى فقط، والتعامل مع التصورات الجديدة بالطريقة ذاتها التي حكمت التعامل السابق مع التصورات التي جرى تجاوزها. الأمر الذي حوّلها إلى مطلق كما في السابق. بينما كان المطلوب هو إلغاء المنطق النصّي ذاته أولاً، ووعي الماركسية انطلاقاً من كونها منهجية تبلورت مع ماركس، متجاوزة المنطق الصوري (الذي يولّد المنطق النصيّ). وأن تعتبر المنطق الصوري خطوة أولى في سياق منهجية أشمل هي الجدل المادي، مهمته تحديد «الواقع» بما هو شكل، من أجل الانتقال عبر الجدل المادي إلى وعي الواقع بما هو مضمون، أي الواقع بكليّته. بمعنى أن التجديد لم يطل المنهجية التي تحكم التفكير. على العكس، فقد جرى تكريسها والدفاع عنها. ولهذا فإن التجديد لم يؤسّس لتحقيق انتقالة في التصورات التي يطرحها، بل كرّر ذاته، أو عاد إلى تصورات كان قد جرى تجاوزها تحت ضغط الأمر الواقع، وكانت في أساس فشل الحركة الشيوعية.
لقد كان تجاوز المنطق النصي هو وحده المدخل لتجاوز انغلاق البنية، وليس إعادة إنتاج الانغلاق في منظومة جديدة مطلقة الصحة لتكون هي محدِّدة الواقع. كما كان هذا التجاوز يسمح بالإفادة من التراث ومن الفكر الإنساني ومن منجزات العلوم بطريقة صحيحة، عبر معالجة كل ذلك انطلاقاً من المنهجية الماركسية، لهضم ما هو علمي فيها، وصوغه في رؤية متماسكة. وكان يسمح كذلك بأن تظل الماركسية بنية مفتوحة يُعاد إنتاجها باستمرار نتيجة الصيرورة الدائمة التي تحكم الواقع، والتي تجعل الثبات مستحيلاً. وبالتالي تفرض نشوء أفكار جديدة وموت أخرى، وإعادة إنتاج بعض ما كان موجوداً. وهي عملية مستمرة ترتبط بحركة الواقع، وتنطلق من مبدأ الصيرورة الواقعية، ومن الإفادة من كل منجزات الفكر والعلم الإنسانيين. الأمر الذي يجعلها، بالضرورة، مفتوحة، وتفرض تكرار إنتاجها في كل لحظة.
* كاتب عربي