أثبتت الحفريات الأثرية في وادي أبو جميل أن لميدان سباق الخيل الروماني مباني لفرق الأندية المتبارزة فيه. المباني تنقسم إلى حمّامات وقاعات اجتماع خسرت جدرانها مع الزمن وبقيت منها أرضية فسيفساء، وقاعات للمياه الساخنة
جوان فرشخ بجالي
كانت بيروت الرومانية مدينة واسعة الأرجاء، غنية بالأبنية الضخمة، ذات طرقات مرصوصة بالفسيفساء. كان لها أسواق وقصور، معابد ومدارس حقوق، حمّامات عامة وميدان سباق خيل تتبع له مبانٍ للأندية المتبارزة. كانت مدينة غنية تنتشر آثارها في جميع أرجائها، ولكن، عشر سنين من حفريات «الإنقاذ» أودت بكل تلك المكتشفات إلى مكبّ النورماندي. فاليوم، من كل ذلك «العزّ» لم يبقَ إلا ميدان سباق الخيل ومباني الأندية المجاورة له، المكتشفة في وادي أبو جميل التي قد تكون مهدّدة أيضاً.
اكتُشف ميدان سباق الخيل السنة الماضية، وبقي مصير المحافظة عليه مجهولاً. ولكن في الأسابيع الماضية اكتملت صورة كيفية سير تلك الألعاب مع اكتشاف مباني الأندية الرياضية التي كانت تشارك في تلك الألعاب. ويقول عالم الآثار هانز كرفرز المسؤول عن الحفريات الأثرية «في بيروت وتماماً كباقي المدن الرومانية، كان هناك فرق عدة تتبارى في ميدان سباق الخيل، وكان لتلك الفرق أندية تجتمع فيها، وتستريح... وقد اكتشفنا أحدها في العقار المقابل لميدان سباق الخيل. إنه العقار الذي تملكه شركة Beirut Trade 2 والقائم مقابل الكنيس اليهودي في وادي أبو جميل. أندية الفرق هي عبارة عن قاعات اجتماع وحمامات ضخمة. لكن، لم يبقََ اليوم من تلك الأبنية إلا الجزء السفلي منها، أي القاعات التي كان يمر فيها الهواء الساخن، والتي تسمى Hypocaust. ويشرح عالم الآثار المسؤول عن الحفريات الدكتور هانز كرفرز عن الموقع قائلاً «هذا جزء المياه الساخنة جداً من الحمامات، الذي كان يتبعه جزء المياه المتوسطة الحرارة، ومن ثم المياه الباردة. وتماماً كميدان سباق الخيل الروماني، هذا المبنى عرف أكثر من حقبة تاريخية: في البداية، كان النادي صغيراً لا يزيد طوله عن 30 متراً، أما في القرن الرابع، فأصبح ضخماًً، وامتدت مساحته إلى 100 متر». ويقول الدكتور كرفرز إنه خلال الحفريات السابقة على العقارات المجاورة لهذه كان قد عثر على خزانات المياه الضخمة جداً، ومدخل ميدان سباق الخيل الذي أدهشه بجماله وغناه. لكن، كما جرت العادة في بيروت، فقد جُرفت تلك المعالم على أساس أنها ليست مهمّة بما فيه الكفاية ليحافظ عليها في مكانها. فهل سيتغير الوضع اليوم؟



لم يبقَ من بيروت الرومانية اليوم إلا ميدان سباق الخيل، ومباني فرق الأندية. كان الاعتقاد السائد بأن ميدان سباق الخيل قد أُنقذ لأن وزير الثقافة طارق متري أرسل إلى سوليدير «طلب استملاك الأرض للمحافظة على الآثار المكتشفة». ولكن، تبين أن المكتوب لم يحدد «استملاك العقار» بل «المحافظة على الآثار». والمحزن أن الوزير تمام سلام كرر الطلب لهيئة سوليدير. علماً أنه ليس لهذه الطلبات أي قيمة فعلية، فسوليدير ليست مجبرة قانوناً على المحافظة على آثار غير مصنّفة على لائحة الجرد العام، وإلى حينه تكون المسؤولية مشتركة مع الدولة اللبنانية. فكيف الحال لموقع مكتشف حديثاً؟ يأتي الجواب فور زيارة الموقع: الأعشاب تغطي الجدران والأحجار. إنه في حالة من الإهمال، بحيث إن الآثار مهددة بالوقوع. وقد يكون ذلك هو المطلوب!
ويأتي السؤال الثاني ما هو مصير أبنية فرق الأندية؟ سؤال يأتي جواب المدير التنفيذي لشركة Beirut Trade 2 المهندس مازن حيدر عليه «بحسب تقارير الخبراء الآثاريين العاملين في القطاع، والمسؤولين عن الملف فإن أبنية فرق الأندية ليست بالأهمية العالية لدرجة تغيّر المشروع أو إلغائه. لكن، وبكل شفافية أؤكد أن هدف الشركة إيجاد الحل الوسط، الذي يضمن المحافظة على الآثار. فالفكرة الحالية هي رفع الغرف والأعمدة الطينيّة، ووضعها في حديقة العقار التي تمتد على مساحة ألف متر. وستتكفّل الشركة تكاليف نقل هذه الآثار الحساسة».
وعن مبدأ أن الشركة تكون بهذه الطريقة رابحة لأنها تملك في حديقتها «موقعاً أثرياً ومتحفاً خاصاً بها»، يؤكد حيدر على أن ذلك ليس ضرورة أبداً، لأن المالكين في العقارات غالباً ما يطلبون أن تزيّن الحديقة مسابح خاصة بهم، وليس بالضرورة أبداً أن يهتموا بالآثار». وهنا يجدر التذكير بأن الأبنية الخاصة التي تحوي في أراضيها «آثاراًً» في كل من لندن وبرشلونة تزيد قيمة الشقق الشرائية فيها بنسبة 17%. ولكن يبدو أن مبدأ الاستملاك في لبنان يختلف.
ويؤكد حيدر أن المستثمرين في لبنان باتوا «يرتعبون من موضوع الآثار التي قد تعوق تقدم مشاريعهم»، رغم أن ماضي الاستثمار الحديث في وسط بيروت يثبت العكس. فنادرة جداً هي المباني التي أعيدت إليها الآثار المكتشفة في أرضها، وغالباً ما كان يقرَّر أن «الآثار ليست بالأهمية الضرورية للمحافظة عليها، فترفع وتُرمى في النورماندي، أو ترفع على أساس أنها ستعود إلى داخل العقار فور انتهاء البناء. حل يتماشى مع طرح مدير الشركة المالكة لهذا العقار. ويبقى الانتظار سيد الموقف، وفي هذا الحين الأبنية الطينية في العقار تتفتّت في الشمس. وإذا لم يبادَر إلى الحفاظ على الآثار في القريب العاجل فإن الطبيعة ستحل المشكلة وستفنيه.