حين تقرر أم يوسف أن تحكي قصة حياتها، لا يسعك إلا أن توقفها للسؤال عن التفاصيل، فهي عاجزة عن تنظيم أفكارها. تتنقل بين البرازيل ولبنان، بين بدنايل وأوندا فيردي، تخلط بين المكانين، لكنها لا تتردد لحظة في إعلان حبّها الأول والأخير لوطنها الأول البرازيل
رامي الأمين
سَمعها ضعيف، مع أنّ أذنيها كبيرتان. لكي يصل إليها السؤال علينا، حفيدتها وأنا، أن نصرخ كي نُسمع الجيران في الحيّ حيث تسكن أم يوسف وحيدة، بالقرب من بيوت أبنائها. عندما صعدنا الأدراج إلى منزلها لم نجدها. ذهبت حفيدتها تبحث عنها في الشقق المجاورة، فوجدتها عند ابنها. بعد خمس دقائق فتحت لنا الباب.
تفتح الباب، فلا يسعنا إلا الانتباه إلى مشيتها البطيئة، شعرها القصير والتجاعيد التي احتلت كل المساحات، من دون أن تنجح في إخفاء ملامح المرح في وجهها. كانت تضع طلاءً للأظافر أحمر على يديها، وفضيّاً على قدميها، وتعلّق نظارتيها في سترتها عند صدرها. تلبس سترة سوداء واسعة على «بيجاما» بنفسجية، وتنتعل «مشّاية» في قدميها.
في الغرفة التي جلسنا فيها كنبتان، طاولة، مجموعة كراسِ وغسالة أوتوماتيكية في الزاوية، إضافة إلى تلفزيون في مكتبة فيها صورتان قديمتان بالأبيض والأسود، إحداهما لفتاة والثانية لشاب، مع كلمات بلغة لاتينية تشرح أنه عيسى المسيح، إضافة إلى صورة لشاب بثياب التخرّج، وصورة للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله. على الطاولة ركوة قهوة وفنجانان فيهما بعض التفل. تصرّ أم يوسف على إحضار العصير قبل أن تبدأ برواية قصة حياتها بعربية ممسوخة تؤنّث فيها المذكر وتذكّر المؤنث، كما يتحدّث الأرمن اللبنانيون.
ولدت أم يوسف عام 1925 في نوفا غرانادا في ساو باولو ـــــ البرازيل. كان والدها مصطفى مفلح يملك مزرعة في بلدة اسمها أوندا فيردي، فيها شارع على اسم والدتها سارة فرحات مفلح، هكذا تقول هي، وطبعاً لا يمكننا التأكد. والداها من بعلبك، تزوّجا في مدينة الشمس، وهاجرا إلى البرازيل بعد أربعة أشهر من إنجاب ابنتهما الأولى.
مزرعة الوالد كانت مليئة بالأرزّ والقطن، تعمل فيها 25 عائلة يابانية أتاحت لمحدّثتنا تعلّم بعض العبارات اليابانية «تترغل» بعضها على مسامعنا. تذكر أنه حين قرّر والدها بيع مزرعته ليعود إلى لبنان، جمعت العائلات اليابانية جزءاً كبيراً من المبلغ الذي طلبه ثمناً لها، وسدّدوا له المبلغ الباقي بالتقسيط. عاد وحيداً إلى لبنان، تاركاً عائلته بعدما أوهم الأم بأنه سيعود قريباً لكنه لم يفعل. بل إنه عندما سُئل في لبنان عن زوجته وأولاده، كذب وأجاب بأنهم رفضوا العودة. عندها قالوا له: «فليبقوا هناك، ونزوّجك نحن أحلى صبية من هنا». وبالفعل خطبوا له بنتاً عمرها 14 سنة، وكان عمره حينها 50 سنة. في بعلبك راح الرجل يقيم العزائم لوجهاء المدينة من ماله الكثير الذي أحضره معه من البرازيل ثمناً للمزرعة، وصار الناس يدعونه مصطفى بيك. «صار أبي من البكاوات»، تقولها أم يوسف بشيء من السخرية.
قبل ذلك، كان البيك قد أتمّ واجباته مع ابنته. لا تنسى أم يوسف يوم اشترت كيلوغراماً من البصل من دكان في البرازيل. أعجب بها صاحب الدكان، فحضر بعد أيام ومعه ستة رجال من بدنايل يعيشون في البرازيل ليطلبوا يدها. عندما ذهبوا قال لها أبوها: «إذا طلعت على السما أو نزلت على الأرض هذا صار زوجك». وذبح يومها 40 خروفاً للاحتفال. منذ ذلك اليوم، لا تأكل أم يوسف البصل، وصارت تطبخ «المجدرة» بالثوم بدلاً منه، لأنه يذكّرها «بيوم الشؤم»، كما تقول.
بعد زواجها، رجعت إلى لبنان، بل إلى بدنايل مباشرة. هنا كان التحول الكبير في حياة أم يوسف. تحكي وفي فمها ماء الندم: «تغيّرت الحياة عليّ. كأنما انتقلت من الغابة إلى الصحراء. كانت البرازيل بالنسبة إليّ الجنة أو ما يعادلها، أما بدنايل، فكانت أشبه بالجحيم. عندما كنا في البرازيل كان كل شيء متوافراً. كل الأمور «تحت أمري»، ما أطلبه يوفّره لي أهلي، من المال إلى أبسط الخدمات التي كانت تقوم بها عني عاملات في المزرعة، ولم أضطر يوماً إلى الانصياع لأية مطالب. كنت إذا طلبت شيئاً حضر، وكانت الحياة سهلة حقاً. أخذني زوجي من قلب جنة أبي، ليرميني في بدنايل، حيث صرت أشبه بالأجيرات اللواتي كنّ يعملن لدينا. صرت أكنس وأمسح وأغسل ثيابي على العين، وأملأ الجرار...».
زاد من صعوبة الحياة مشكلة اللغة. العبارات التي تقولها، ولا تزال، كانت تحيلها إلى عبارات أخرى أو حتى تلتبس عليها المفاهيم. كأن تعتقد بأن «عرس القاسم» الذي يقيمه الناس في عاشوراء عزاءً على أئمة أهل البيت، عرس بحق. تذكر مرة دعيت فيها إلى «عرس القاسم»، فما كان منها إلا أن ارتدت أحلى الثياب وسرّحت شعرها ووضعت مساحيق التجميل والعطور، وذهبت إلى «العرس»، ففوجئت بأن جميع النسوة يلبسن الأسود ويبكين.
مات زوج أم يوسف في عام 1982، وبدأت تبحث عن طريقة للهرب من لبنان وحروبه الأهلية والاجتياح الإسرائيلي مع أولادها. حاولت الحصول على تأشيرات دخول لأولادها التسعة إلى البرازيل، فكانت تذهب إلى السفارة البرازيلية كل يومين لتتابع أوراقها، وخصوصاً أن المعاملات كانت تأخذ وقتاً طويلاً، رغم صداقاتها الكثيرة هناك.
في تلك الأثناء، كانت الحرب مندلعة على المحاور، وكانت أم يوسف كلما تجاوزت خطوط التماس تعرّضت لمضايقات المسلحين، الذين يعودون ويتساهلون معها بسبب جنسيتها البرازيلية ولغتها العربية المكسّرة، فتنتقل من الشرقية إلى الغربية وبالعكس من دون مشاكل تذكر. واستطاعت في تلك الفترة أن تساعد الكثير من الناس في الحصول على تأشيرات من السفارة البرازيلية للهرب من الحرب. وحصلت بسبب خدماتها تلك على هدايا كثيرة منها دعوات سفر، فاستدعتها صديقتها مرة إلى لندن لأن شيخاً خليجياً سعودياً عرف منها أنها «شاطرة» في قراءة الطالع. تذكر أنها تعلّمت «التبصير» في البرازيل على يد رجل عجوز مشعوذ. كانت تقدم إليه الهدايا وتحضر له الطعام إلى بيته، وكان يعلّمها كل يوم قراءة الكف. وبدأت مذّاك «تبصّر» للناس والأصدقاء وتصدق توقعاتها. وعندما ذهبت إلى لندن وقرأت كف الشيخ السعودي، وهو رجل أعمال كبير، قالت له إنه سيتزوج من ابنة رجل مهم. وبالفعل عرفت بعد سنوات إنه تزوج ابنة الرئيس السوري حافظ الأسد. كما قرأت طالع الكثير من السياسيين، منهم محسن دلول الذي أخبرته بأنه سوف يصير وزيراً، وصدقت توقّعاتها. لكن الأخير وعدها بأنه سيوظّف ابنها، و«طبعاً لم يف بوعده».


كرنفال المونديال

خارج منزل أم يوسف، رسم لعلم البرازيل على الحائط. تروي حفيدتها أن جدتها تقيم كرنفالاً كلّ 4 سنوات لمناسبة المونديال، وتتابع مباريات المنتخب البرازيلي كلها. فتلبس ثيابهم وترسم على وجهها ويديها علم البرازيل وتتفاعل مع اللاعبين كما لو كانوا أهلها، وتدعو أحفادها وأبناءها إلى منزلها ليتابعوا المباريات معها.