يتندّر اللبنانيون على مرونة لسانهم الذي ينطق بأكثر من لغة، ويتناقشون: هل هي قيمة مضافة أم لعنة، لأنها استعراض لا يحمل أبعاداً ثقافية؟
رنا حايك
يضفي تمكن اللبناني من اللغات الأجنبية عليه صفة «التاجر الشاطر» وملك «العلاقات العامة»، ما يخلق له تمايزاً عن محيطه العربي عموماً وقيمة تفاضلية عليا في الغرب. أما محلياً، فمعظم اللبنانيين يدركون كنه اللعبة ويعتبرون ذلك، متندرين، إحدى «أدوات النصب» المعتمدة لترويج صورة أكثر جاذبية، طليعية المنحى لأنها «متفرنجة».
قد تحمل تلك النظرة مبالغة ما، أو حتى ظلماً بالنسبة إلى جزء من المجتمع اللبناني تعوّد على «الرطن» بالفرنسية على سبيل التعود والروتين، ولكنها تصبح «صحّ الصحيح» في حالات عديدة: منها، أن يحادثك البائع(ة) في محل ألبسة بالفرنسية فور دخولك، لأن ذلك قد «يرهب» المتطفلين وينزع بالمحل نحو أعالي سماوات الـ«مرتّب» والـ«كلاس» (وهو مصطلح طُوّع بشكل ملتو لغوياً ليناسب المجتمع اللبناني. فهو لا يعني النخبة، بل إنه ترجمة حرفية لمصطلح طبقة اجتماعية، قد تكون العليا أو الدنيا). ومنها أيضاً، أن تجلس في مقهى أو في مطعم فيخاطبك النُّدُل بالفرنسية أو بالإنكليزية بينما يعطونك قائمة الطعام مكتوبة بهاتين اللغتين دون العربية، فتضطر إلى أن تطلب “omelette” مثلاً بدل «العجة» اللبنانية التقليدية. أو، في الحالات المستعصية، حين يكون إلمامك باللغات ضعيفاً، تختار الأصناف المألوفة التي لا يتغير اسمها بل تكتب فقط بالأحرف اللاتينية بدل أن تضطر إلى أن تظهر بمظهر «الجاهل» حين تسأل النادل.
فالنادل، أو البائع، أو آخرون كثر، ولو كانوا لا يفقهون من اللغة الأجنبية سوى تعبيرين لا يملون من تردادهما، لديهم موهبة في تحطيم كبريائك لحظة تثقبك نظراتهم المستهجنة إذا ما ارتبكت أمام تعبير أجنبي يتلونه ولا تفهمه. عندها، تصبح فريسة سهلة لتهم عدم التطور. هل لحظ داروين ضرورة ارتقاء الجنس اللبناني إلى منزلة الإلمام بجميع اللغات؟ أم أن تراجع الموقع العربي على الخريطة العالمية، بفعل النكسات المتتالية التي تكاد تودي به إلى مزبلة التاريخ استتبع التنكر للتراث العربي عموماً وأول تجلياته: اللغة؟
كانت المعلمة تردد أمام التلامذة في الصف: «ما دخلت لغة على أخرى إلا أفسدتها». طبعاً قد يعتبر الكثيرون ذلك الموقف «رجعياً» لما يستتبعه الشعار الرائج حالياً «معرفة الآخر» من محظورات التعرض لتهم الانعزال، إلا أنه يصبح منطقياً عند رصد ظاهرة متفشية في لبنان: شعب يتقن اللغات الأجنبية تمثلاً بالغرب، لكنه لا يتمثل سوى بلغته، من دون الاستفادة من انضباطه مثلاً، أو من قيمه الإنتاجية إلخ.. عندها، تفسد اللغة الدخيلة اللغة الأم من دون أن تضيف إليها شيئاً من الثقافة التي تستتبعها.
«كثيرون ممن أعرف، وممن يتأتئون أثناء الحديث قائلين: pardon ما عم بتذكر الكلمة بالعربي، لم يقرأوا في حياتهم كتب جان بول سارتر أو سيمون دو بوفوار»، تقول مايا التي قرأت الكثير من الأدب مترجماً. أيجعلها ذلك جاهلة إزاء من «يرطنون» ببعض المصطلحات «لزوم ما يلزم» وحتى ما «لا يلزم» في أحيان كثيرة، فيما لا يفقهون شيئاً من الإرث الثقافي أدباً واجتماعاً، لتلك اللغة؟ السؤال برسم الشباب اللبناني...