لنعترف بداية بأن المعارضة استحقّت خسارتها وفشلها الانتخابي بجدارة، بمنظار التحليل السياسي. استحقت أن تخسر انتخابات تعاملت معها بخفة وغرور وثقة مفرطة واعتماد على استطلاعات رأي مغلوطة (تنمّ خطب حسن نصر الله عن اعتماد على استطلاعات رأي غير دقيقة عن الرأي العام اللبناني، وهذا ما دفعه إلى التمييز بين «الأغلبيّة النيابيّة» و«الأغلبيّة الشعبيّة» مع أن الأولى نتاج الثانية). تكهنات المعارضة كانت باهرة في توقّعات الفوز. كانوا يتوقّعون الفوز الساحق والماحق. تساهلوا وتباسطوا وتلكّأوا
أسعد أبو خليل*
قبل يوم واحد من الانتخابات، وفي مخالفة ظريفة ومضحكة للقانون الانتخابي، قرّر البطريرك الماروني (الذي لا يزال يرفض أن يكشف عن الوثائق المتعلّقة بالاتفاقيّة السريّة المُوقّعة بين الحركة الصهيونيّة والبطريركيّة الماورنيّة عام 1946) أن يكتشف العروبة وأن يبدي الحرص على العروبة. الرجل الذي أثنى على جهود ديك تشيني لدفع السلام أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان في 2006، اكتشف العروبة لتوّه. والعروبة عند فريق 14 آذار تعني المال السعودي ـــــ لمساعدة لبنان، طبعاً. وذكرت جريدة «النهار» أن البطريرك قرّر أن يكتشف العروبة ويحذّر من التهديد لها بعدما توجه له بالنداء ميشال بشارة الخوري وسمير حميد فرنجية ودوري كميل شمعون. وجد البطريرك صعوبة في رفض طلب أبناء المؤسّسين بالنسبة للانتخابات، وبشارة الخوري كان بطل التزوير الانتخابي عام 1947 كما كان كميل شمعون بطل التزوير الانتخابي عام 1957، لكن هذا تفصيل.
يمكن عزو نتائج الانتخابات إلى عوامل عدّة: بعضها يتعلّق بغباء المعارضة الشديد، وبعضها يتعلّق بمهارة الموالاة، وبعضها يتعلّق بالتدخّلات الخارجيّة وأموال الأمير مقرن وفتنته. لكن المعارضة تخطئ إذا هي أصرّت على نسبة كل أسباب الفشل إلى المؤامرة الخارجيّة، مع أن المؤامرة الخارجيّة ضد فوزها كانت واضحة وضوح الشمس والقمر (في ليالي الصيف). لكن السذاجة لا بل الغباء الفاقع سمتان من سمات أداء المعارضة في لبنان. يكفي أن تعود إلى سلوك المعارضة في الاعتصام الفاشل في وسط المدينة: كانت المعارضة مُقتنعة بأن حكومة السنيورة ستسقط بمجرّد أن تُنصب الخيم وتشتعل نار الشواء، فكان أن طال الاعتصام وزادت نقمة الناس على المعارضة وبقي السنيورة وعاد مظفراً هذا الأسبوع من صيدا.
يتحمّل حزب الله مسؤوليّة أساسيّة في خسارة المعارضة. يمكن أن نبدأ بخطب حسن نصر الله على امتداد الأشهر الماضية. لم تساعد إطلاقاً ولم تكسب مناصرين جدداً، لا بل أضرّت لا من ناحية تعزيز التراص الطائفي المذهبي في أوساط السنّة، بل في تخويف الناخب المسيحي (عن غير قصد). اعترض حسن نصر الله على تحوير خطابه عن 7 أيار: وهو محق. طبعاً، تعرّض خطابه عن الموضوع إلى تحوير مقصود وحملة تشويه فعّالة من الإعلام السعودي ـــــ الحريري. قال نصر الله إن الخطاب والشرح المستفيض اختزلا بجملة واحدة عن «يوم مجيد». لكن كان يجب توقّع ذلك: لم يعد أسلوب الخصم الدعائي سرّاً من الأسرار. هذا عصر الإنترنت وعصر التغطية المباشرة والسريعة على مدار الساعة. الشرح الطويل والمستفيض لا يلائم الإعلام الحديث. إذا أراد الخصم اختصار شرحه بجملة، فنصر الله استعمل الجملة التي كانت ذهباً وفضة في الحملة الدعائيّة للخصم. ثم من قال إن التشويه والتحوير ليسا من الوسائل المشروعة في الحملات الانتخابيّة؟ يمكن الاستعانة بمثل فرنسي، والبناء عليه: كل شيء مباح في الحرب والحب و... الانتخابات. لو لم يتعرّض حسن نصر الله على الإطلاق بالإشارة إلى أحداث 7 أيار لحرم خصومه وأدوات الأمير مقرن فرصة ذهبيّة لشن حملات مذهبيّة صارخة في حدّتها. ولم يكتفِ حزب الله بهذه الإشارة، بل أصرّ نعيم قاسم قبل أيام من الانتخابات فقط على التحدّث في خطاب خارج السياق والموضوع وبنبرة قاسية عن استمرار التسلّح في الوقت الذي كان فيه فريق 14 آذار ينجح في تخويف المسيحيّين من سلاح حزب الله. لم يكن خطاب نعيم قاسم مفهوماً على الإطلاق، إلا إذا استعنّا بنظريّة بعض المعارضة في أن حزب الله كان يفضّل الهزيمة على الفوز لأنه لم يكن في وارد تحمّل مسؤوليّة الحكم وتبعاته، ولأنه يعتبر أن وضعه مضمون كما هو: يستطيع أن يعارض ما لا يرتئي.
ونجح فريق الحريري الذي لا يعتبر أن هناك محظوراً أخلاقيّاً في الانتخابات أو في السياسة لتخويف العامة في لبنان ـــــ سنةً ومسيحيّين خصوصاً ـــــ من نظريّة ولاية الفقيه. وأوامر الأمير مقرن كانت واضحة لا لبس فيها: لم ولن تُوفّر إمكانات لإنجاح الفريق السعودي في لبنان. وكان مضحكاً مشهد نايلة تويني وكارلوس إده وهما يتحدّثان عن ولاية الفقيه ويلوّحان بكتاب نعيم قاسم عن حزب الله وكأنهما قرآ الكتاب من تلقاء نفسيهما. لكن الحزب صمت في هذا الصدد وترك للحلفاء العونيّين مهمة الدفاع (ومهمة المنافسة الطائفيّة المسيحيّة مع الخصوم الطائفيّين في 14 آذار). لم يتجشّم الحزب عناء شرح العقيدة وطمأنة اللبنانيّين، هذا إذا جازت الطمأنة. لا يجد حزب الله ضرورة للحديث إلى الشعب اللبناني خارج نطاق الحزب، الواسع والضيّق في آن واحد، عن مفاعيل عقيدته الدينيّة والسياسيّة. ومن الخداع الزعم بأن لا مفاعيل سياسيّة لعقيدة ولاية الفقيه (هناك دراسة مهمة عن العقيدة للمفكّر حامد عنايت في كتاب لويليام بسكاتوري عن «الإسلام في المسيرة السياسية»، وهو لم يُترجم إلى العربيّة، كما أن المفكر الشيعي محمد جواد مغنيّة كتب نقداً مبكراً عن ولاية الفقيه في كتابه «الخميني والدولة الإسلاميّة») فهي تعنى بالسياسة وغير السياسة. لكن حزب الله يعاني من عزلته: العزلة هذه مصدر قوّة استخباراتيّة وعسكريّة، لكنها مصدر ضعف سياسي له. وحزب الله لا ينجح هذه الأيام إلا في مخاطبة قاعدته، وهذا شأنه، لكنه يخوض الانتخابات ويقيم التحالفات. إن كلام «اليوم المجيد» كان كلاماً مُوجّهاً إلى قاعدة الحزب لا إلى الجمهور اللبناني العام. وبهذا، فإن الحزب أفاد خصومه من دون أن يدري.
وظنّ الحزب أنه خرج من عزلته بمجرّد أن عقد تفاهماً مع التيار الوطني الحرّ. لكن التفاهم عمّق أزمة الحزب لأن التفاهم لم يخرج عن النطاق الطائفي الصرف. لم يثبت الحزب أنه جاد في محاولته عقد تحالفات عابرة للطوائف. وإذا كانت المقاومة هي مبرّر وجود الحزب وعلته فمن يفسّر استبعاد الحزب كعادته وتجاهله للحزب الشيوعي الذي باشر المقاومة قبل غيره، مع أنه تحالف مع بوسي الأشقر، أحد رفاق النازي اللبناني الصغير. وعندما عقد «أقطاب المعارضة» اجتماعاً طارئاً قبل الانتخابات انحصرت الدعوة ببرّي ونصر الله وعون. لم يأخذ الحزب حلفاءه الآخرين على محمل الجدّ. وهذا التقصير مرتبط بنجاح الطرف الآخر في التأجيج والتعبئة الطائفيّة والمذهبيّة. يظنّ حزب الله أنه يقاوم الفتنة الطائفيّة بتجاهل الإشارة إليها، أو بالظن أنها ماتت أو فشلت، كما قال حسن نصر الله في خطاب له في... 7 أيار. وهنا المفارقة. صحيح أن القادة السنّة والمسيحيّين والشيعة في 14 آذار هم (وهن) الذين يكثرون من التحريض الطائفي ومن الإشارات المذهبيّة الصريحة. وصحيح أيضاً أن قادة الحزب يتحاشون حتى الإشارة إلى الفرقة السنيّة والشيعيّة، وصحيح أن الحزب يتجنّب بحرص شديد الرد على خطب محمد علي الجوزو وتصريحاته لأسباب بديهيّة، لكن الحزب في عقيدته وفي تكوينه العضوي وخلفيّته طائفي، شاء ذلك أم أبى، حتى لو كان صادقاً في محاربته لمشاريع الفتنة. وإنشاء ما يسمّى «سرايا المقاومة» وتدريب عناصر موالين لعبد الرحيم مراد (أليس من السذاجة مثلاً التعويل على عبد الرحيم مراد لدفع السنّة في لبنان في اتجاه المقاومة؟) على أصول محاربة إسرائيل لا يحلان المشكلة. إما أن يقبل الحزب عواقب بنيته وعقيدته الطائفيّة وإما أن يعمل على تدارك مضاعفاتها إذا أراد الخروج من العزلة التي تبدو، تبعاً للنتائج الانتخابيّة، أكيدة. أصبح الحزب عبئاً على حلفائه من المسيحيّين (فارق الأصوات بين سليمان فرنجية وميشال معوّض كان مذهلاً في تضاؤله).
وإعلام المعارضة كان غبيّاً. حزب الله وحركة أمل لم يقوما بحملة انتخابيّة فعليّة حتى في مناطق نفوذهما. اكتفيا بعقد ندوات هنا وهناك وهنالك. وشعاراتهما كانت هي نفسها: من دون تطوير أو تحديث. كان إعلام التيار الوطني الحرّ أذكى وأسرع وأفعل، لكن إعلام 14 آذار كان أذكى ونجح في إبقاء الخصم في موقع الدفاع عن النفس وفي كسر زخم الخصم في أوج قوته وسطوعه. فَبْرَك إعلام 14 آذار واختلق مثلاً، قصة المثالثة. ومن الواضح لعابر السبيل أن مطبخ قريطم اخترع تلك الكذبة من دون أن يصدّقها وجعلها واحدة من عناوين فعّالة لتخويف الناخب المسيحي. وماذا فعل الطرف الآخر بالنسبة لكذبة المثالثة؟ استفظع الأمر وولول وشكا وبكى واعترض على مبدأ الاختلاق والكذب. لكن دارس المبادئ الأوليّة في أصول الانتخابات والحملات يعلم أن الاختلاق والمبالغة والتحوير والكذب سارية، وأحياناً ضرورية، وهي جزء لا يتجزأ من طرق التأثير على الناخب ومن سلب الخصم أسباب نجاحه. كان الطرف الآخر يستطيع أن يردّ بطرق أخرى غير النفي: بأن يختلق وأن يفبرك مثله مثل الطرف الآخر. فريق 14 آذار استخدم بنجاح كبير عامل تخويف المسيحيّين من إيران، وهناك من تحدّث عن تهويل بخطط سريّة لفرض التشادور حتى على نساء الأشرفيّة والمتن.
كان يمكن الطرف الآخر، مثلاً، أن يستخدم فزّاعة الوهّابيّة السعودية: أن يتحدّث عن السيطرة السعوديّة الكاملة على عمليّة صنع القرار في 14 آذار، أو عن العقيدة السلفيّة (وهي جزء من حركة 14 آذار). هل هناك من يشك في أن قدرة تأثير السعودية على سعد الحريري أكبر بكثير من قدرة إيران على التأثير على حسن نصر الله؟ ولكن فيما أخذ فريق 14 آذار راحته بتخويف لبنان من الخطر الإيراني، سكت أفرقاء المعارضة بالكامل عن تهديد لبنان بالخطر السعودي. ما هي أسباب السكوت عن الدور السعودي الفاقع في هذه الانتخابات؟ هل يعود ذلك إلى الغباء الذي يسود أوساط صنع القرار في المعارضة أم هناك أسباب أخرى أكثر خبثاً؟ ولماذا لم يستعمل إعلام المعارضة تصريحات إسرائيليّة وأميركيّة وسعوديّة عن الانتخابات فيما سمح لإعلام الحريري والإعلام السعودي باستخدام تصريح واحد (غبي جداً) للرئيس الإيراني عن لبنان، فضلاً عن تحويره وتعظيمه؟ ولماذا لم تتعامل وسائل إعلام المعارضة وقادة المعارضة بحزم مع تهويل وتهديد صريحين من الإدراة الأميركيّة ومن إسرائيل للشعب اللبناني إذا ما أخطأ الاختيار؟ لمذا لم تتم الاستفاضة في الحديث عن تلك التهويلات كما يفعل إعلام الموالاة بذكاء؟ ولماذا مرّ تصريح خبيث لمصباح الأحدب (أعاد التذكير به عبد الرحمن الراشد في مقالة له عشيّة الانتخابات في جريدة «الشرق الأوسط»، والذي هدّد فيه بوقف المساعدات السعوديّة للبنان في حال فوز المعارضة) مرور الكرام؟ هل كانت المعارضة تتوقّع، مثلاً، أن تسمح الإدارة الأميركيّة بتكرار تجربة حماس في لبنان؟ ولماذا يثق بعض أعداء الولايات المتحدة وخصومها عندنا بنيّات الولايات المتحدة الديموقراطيّة؟ هل يظن هؤلاء أن الرجل الأبيض يتجشّم عناء السفر ليطمئن إلى سلامة الاختيار الديموقراطي للشعوب المقهورة؟ هل ظن هؤلاء أن الولايات المتحدة وما يسمّونه في لبنان هزليّاً بـ«المجتمع الدولي» لستر عورات الامبراطوريّة الأميركيّة تؤمن عن حق بحريّة اختيار الشعوب؟ هل ظن هؤلاء أن تبوّؤ أوباما لسدّة الرئاسة سيغيّر أولويّة المصلحة الإسرائيليّة في السياسية الخارجيّة نحو الشرق الأوسط؟ ألم يتّعظ هؤلاء من رؤية جيفري فيلتمان مرّة أخرى؟
وتبقى قصّة المؤامرة التي ستكون شمّاعة لتعليق الفشل الذريع للمعارضة. سيُقال إن مؤامرة حاكتها بعناية إسرائيل والسعودية ومصر والأردن والإمارات وأميركا وفرنسا من أجل ضمان نجاح المعارضة. وكل هذا صحيح، والمؤامرة مستمرّة. ولكن من الصحيح أيضاً أن أداء المعارضة وتقصيرها واعتمادها المفرط على استطلاعات رأي نفعيّة كان مسؤولاً في الدرجة الأولى عن الفشل الذريع. كما يُقال بلغة أجنبيّة، كانت المعارضة واثقة من النجاح إلى درجة أن القادة بدأوا بقياس البرادي في السرايا. وزخرت هذه الجريدة بتطمينات عن فوز محقق للمعارضة قبل أشهر من الانتخابات وعلى افتراض أن الحملات الدعائيّة المكثفة للطرف الآخر ليست ذات جدوى. أثبتت الأيام أن شعار السماء الزرقاء (على سخافته وسطحيّته) أجدى من الخطب الطويلة لقادة المعارضة التي يسهل اختزالها بما يفيد الخصم. هذا لا يعني أن المؤامرة ليست متشعّبة وشرّيرة وأن الزيارات السريّة القصيرة للوزير الخوجة ليست فضيحة الفضائح. لكن المعارضة هي التي اختارت أن تتجاهلها، مما أدّى إلى قبولها وإمرارها وكأنها بريئة. ونجحت الموالاة في تذكير الناخب يوميا بـ7 أيار فيما لم تُذكَر غزوة الأشرفيّة ولا مرّة واحدة. نجح فريق الحريري في فرض ذاكرته السياسيّة. والطريف أن مرشحي 14 آذار في الأشرفيّة عبّروا عن قرف من 7 أيار فيما لم يذكر أحد منهم (أو منهن) غزوة الأشرفيّة: فالأقربون أولى بالغزوات.
طبعاً، لن يسود طرف على طرف في لبنان. تتكسّر كل الطموحات العريضة والواسعة بسعة شعار ذلك النازي اللبناني الصغير على صخرة الطائفيّة والمذهبيّة الهدّامة والقدرة على الرفض. الطموحات التي يمكنها أن تسود في كل لبنان تحتاج إلى حزب متعدّد الطوائف وعلماني (وليس ذلك الكوكتيل الطائفي ـــــ المذهبي في 14 آذار الذي يظن أنه عابر للطوائف، فيما هو مُكرّس للفرقة بينها ومُشعل للفتنة في كل الأنحاء). والتجارب الطموحة في كل لبنان كانت على يد أحزاب وحركات غير طائفيّة: انقلاب الحزب القومي عام 1961 (بصرف النظر عن تقويم محاولة الانقلاب التي ارتبطت بدوائر رجعيّة في حينها) كان واحداً. وليس صدفة أن الانقلابات لم تجر في لبنان: هناك في أوساط الحركات النازيّة اللبنانية من يعزو ذلك إلى جينات لبنانيّة خاصّة أو إلى ميزات ديموقراطيّة في المطبخ اللبناني. السبب أن الانقلاب في لبنان يفشل بمجرّد أن يكشف عن وجهه الطائفي، وهذا ما حدث في حركة عزيز الأحدب المدعومة من حركة فتح في 1976 (الانقلابات في سوريا والعراق كانت تخفي خلفيّة تكويناتها الطائفيّة في البداية ثم تعود لتفرض سيطرتها بالقوة المطلقة). أما المحاولة الثانية فجرت عام 1976 عندما اقتنع كمال جنبلاط متأخراً بأن كسر شوكة الانعزاليّين في لبنان كانت واجبة لبناء لبنان العادل والديموقراطي. لو لم تكن الحركة الوطنيّة غير طائفيّة آنذاك (رغم اختراقها من تنظيمات وحركات طائفيّة) لما استطاعت أن تسيطر على أكثر من ثلاثة أرباع مساحة لبنان وفقاً لتقدير مجلة «نيوزويك» في ذلك العام. أما بعد ذلك اليوم، وبعد سقوط الحركات اليساريّة والقوميّة العربيّة العلمانيّة، فخلت الساحة أمام الحركات الطائفيّة في كل الجهات وعلى كل الجبهات.
هناك من يمكن أن يشير إلى مشروع النازي اللبناني الصغير: فقد طوّر طموحه من إقامة مسخ كانتون متحالف ـــــ ذيليّاً طبعاً ـــــ مع إسرائيل إلى الرغبة في نشر نفوذ إسرائيل على كل مساحة لبنان. لكن لا داعي لنقاش مآل المشروع المذكور: قُضي عليه. أما لبنان عام 2009، فهو محكوم بفشل المشاريع الطموحة بسبب سيادة حركات طائفيّة في كل الطوائف والأحزاب. وهذا ما يحيّر فريق الحريري في لبنان: هذا الفريق الذي يريد بشتى الوسائل أن يحوّل لبنان على صورة... الأمير مقرن. كم أنفق هذا الفريق على ابتياع الطائفة الشيعيّة وكم عوّل على منافقين باعوه مشاريع وخططاً لجلب الطائفة الشيعية العقوقة إلى قريطم. كل المحاولات باءت بالفشل، وملايين الأمير مقرن لم تنجح في جعل أحمد الأسعد زعيماً، والأخير يستفيق مرّة كل أربع سنوات. والصراع لا ينتهي بالانتخابات بل يحتدم، وخصوصاً أن التراصّ الطائفي عند الشيعة والسنّة يزداد شراسة. وإمكان الصدام يزداد لكن الطوائف المسيحيّة انتقلت إلى مرحلة من الذيليّة السياسيّة عانتها من الطوائف الإسلاميّة قبل الحرب الأهليّة. كانت الطوائف الإسلاميّة تختار بين القيادة المارونية للكتلة الدستورية والقيادة المارونية للكتلة الوطنية. واليوم، يبقى على الطوائف المسيحيّة أن تختار بين الكتلة الشيعية والكتلة السنية. أما إذا اتفقت الكتلتان السنيّة والشيعيّة ذات يوم، فهما ستلجآن إلى وصفة البطريرك الماروني في الحكم: أكثرية تحكم وأقليّة تعارض، ومسيحيّة تهاجر. لم يدر البطريرك أن وصفته تلك ستستعمل في المستقبل من أجل تهميش المسيحيين وإقصائهم ونفيهم. عندها، سيدرك المسيحيّون أن بطريركاً مارونيّاً أعطى الأكثريّة الإسلاميّة شرعيّة سيادتها الطائفيّة في لبنان.
والقول بعامل المغتربين للتعليل لم يكن مفاجئاً، مع أن علائم الدهشة ارتسمت على وجوه أهل المعارضة. وفريق الحريري كرّس سابقة. ولا يمكن التقليل من أهمية انتقاء الأشخاص المرشحين: من يمكن أن يعتبر أن اختيار جيلبرت زوين أو قاسم هاشم أو عودة عاصم قانصوه وإقصاء ألبير منصور والإصرار على عودة عبد اللطيف الزين وعلي عسيران هي دليل استخفاف بالمعارضة من جانب المعارضة، ناهيك بالاستخفاف بالناخب والناخبة؟ وقد يكون الاستخفاف بالخصم خطيئة أخرى للمعارضة: كما أخطأ الحزب الديموقراطي في أميركا في عدم أخذ جورج دبليو بوش على محمل الجدّ، لم تأخذ المعارضة خصمها على محمل الجد فقط لأن القائد عند الخصم فاقد للمواهب والقدرات والمعرفة. نسوا أن الجماهير تتعاطف مع عديمي الموهبة أحياناً. والاعتراض على الرشوة كان متأخراً: كيف يمكن إجراء انتخابات حرّة في لبنان في ظل غياب قانون لضبط المال السياسي الخارجي والداخلي؟ أعدّ فريق الحريري بعناية للربح وللخسارة: كانت شاشة المستقبل في يوم الانتخابات تدس في الشريط الإخباري أنباء عن محاصرات واعتداءات من حزب الله وحركة أمل ساعة ضد منزل أحمد الأسعد وساعة ضد منزل باسم السبع (وتوقّف الشريط فجأة بعد إعلان النتائج). كان ملف (دولي؟) الاعتراض على فوز المعارضة جاهزاً، لو حدث الفوز. أما المعارضة، فاكتفت بمديح الذات.

* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت:
i(angryarab.blogspot.com