وائل عبد الفتاحإنه وقت السياسة. ارتبكت الخطابات المعتمدة على التهديد المباشر والعداء الواضح. هذه نتيجة أولية لتغيير خطاب البيت الأبيض. أوباما لعب بخطاب جديد. أقوال لم تتحول إلى أفعال. ربما فعلها الأساسي هو الارتباك نفسه. لعبة أو سياسة جديدة من رئيس يعتمد على سحره الشخصي. لكنه يحتاج إلى سياسة جديدة. وترتيب أوراق يتأخر فيها «نبل» القضايا لمصلحة أجندات أعمال مختلفة.
يحتاج خطاب أوباما، ولو كان لعبة ساحر، إلى سياسة جديدة. لا مجرد شكوك في النوايا. ماذا لدى الأطراف المختلفة في الحقبة الهادئة؟ الأطراف كلها، بما فيها حلفاء أميركا التقليديون ومندوبوها في المنطقة، إضافة إلى الأعداء والخصوم وجماهيرهم، تعوّدت العمل في العواصف الساخنة. ماذا سيفعلون؟ كيف يحافظون على مواقعهم بعد غياب شحنات العداء، وإن كان غياباً على المستوى الخطابي لا الفعلي؟ المزاج العام تغير، ولهذا لم يمر الخلاف حول نتيجة انتخابات الرئاسة الإيرانية هادئاً أو اقتصر العنف على صدمات الهزيمة المعتادة. الخلاف اتسع. والعنف مهدد بشق في صفوف نخبة الثورة الإسلامية.
إلى أي عمق يسير الشق...؟
هذا ما ستحدده «سياسة» نظام الجمهورية الإسلامية وقدرتها على تجاوز لحظة الشحن العدائي وقدرته على صنع نبالة ما وأخلاقية واضحة في تحديد معسكرات الخير والشر.
أميركا بعد أوباما فتحت قنوات مع الجميع. وفي القاهرة لم يكن فقط مبشراً بأخلاقية سياسية جديدة، بدا أيضاً أن لديه خطة في توسيع الحلف الأساسي لأميركا في المنطقة، لتدخل فيه مصر والسعودية كشريكين فاعلين وقويين وليسا مجرد «ضيوف شرف» بجوار الحليف الأساسي إسرائيل.
توسيع الحلف يتم بأسلوب ناعم. ويسحب الوكالة المطلقة من إسرائيل، لكنه لا يلغيها. يعلن أوباما أن «أميركا ورغم علاقتها القوية بإسرائيل، لم تكن صريحة معها أبداً». ويكملها برسائل أخرى مثل الصورة التي يمد فيها أوباما ساقه على الطاولة وهو يتحدث تلفونياً إلى «بي بي» المتعجرف قبيل خطابه.
وإسرائيل التي أفرزت غريزتها السياسية تحالف «ليبرمان ـــــ نتنياهو» تحاول الآن تفادي صدمة أوباما الناعمة بخطط تستهلك الوقت وتقدم ما يبدو تنازلات من وجهة نظرها (الدولتان والصلح مع سوريا).
هذه محاولات تتم في فراغ سياسي نتيجة ارتباك الخصمين الفلسطينيين وانشغالهما في الحفاظ على تمايزات كل منهما. ليس لدى الفلسطيني ما يهاجم به إلا «عقلانية» ترتفع على الخصومة وتلغي أفق التجاذب الثنائي، داعية إلى «جبهة» جديدة تذوب فيها مناطق التجاذب بين «فتح» و«حماس». جبهة تفتح الباب إلى طيف فلسطيني يقود رحلة تحرير فلسطين بأسلحة أكثر تعدداً وإبداعاً من الاستشهاد (ربما في العصيان المدني طريق لم يجرب بعد).
والبديهي أن أوباما يدعو إلى توسيع التحالف لتحقيق مصالح أميركية، لا لإعادة الحقوق العربية أو لغرام قديم بين الرئيس الأسود والعرب. وهنا تتطلب دعوته إعادة حسابات. فالتحالف سيكرّس في العلن ما كان يتم في السرّ، وخصوصاً بعد تموز ٢٠٠٦ وفي العدوان على غزّة ٢٠٠٨ من تقسيم المنطقة على حسب العداء التاريخي إلى تقسيمها على حسب المصالح.
توسيع التحالف لا يريح إسرائيل لأنه سيحرمها من التدليل المفرط (ربما فقط من درجة الإفراط) ولا الأطراف العربية لأنه سيحرجها سياسياً إن لم يتمّم التحالف بمكاسب عملية للفلسطينيين على الأرض (لا حلول تستبدل السلام بعملية السلام).
الأطراف الخارجة عن التحالف سترتفع درجة إرباكها لأن حالة العداء تجاهها، حسب «أخلاقية» أوباما، ستخف. ومعها لا بد من إعادة تدوير أجندتها. وهو تدوير يحتاج إلى ذكاء ومهارة وإبداع سياسي. وبين الانتحار والوجود شعرة مثل التي بين الذوبان في المزاج السياسي الجديد والتشبّث بالأجندات الحالية والاستسلام لتفريغ الأرض من حولها.
من هنا يمكن أن يكون التحالف الأميركي بأخلاقيّته الجديدة، وتخفُّفه من السمات الاستعمارية، تحدّياً لبناء مواقف أخرى أكثر جذرية، لكنّها لا تبنى فقط على الشعار النبيل.
مواقف توسّع الطيف ولا تضيقه في فصيل أو جماعة ناجية تمتلك البطولة والحقيقة المطلقة.
حرب السياسة أخطر وتتطلب مراجعة أقوى للحسابات التي تكوّنت في مزاج الشحن العنيف.
وهنا الانتصار في معركة انتخابية (لبنان أو إيران) لا يعني شيئاً، كما هي الهزيمة، في تحديد الأفق القادم للحركة. سكون الأفق والفاعلية رهن سياسة الفائز أو المنتصر وقدرته على التخلص من زهو أو خيبة قد لا تعني شيئاً في عالم يدخل حرباً من نوع جديدة، لا هي باردة ولا صراع حضارات. إنّها لحظة دفاع الإمبراطورية الأميركية عن نفسها.