نهلة الشهالهل يخرِّب انتخاب أحمدي نجاد سحر الأجواء التي شاعت بعد خطاب أوباما (في القاهرة خصوصاً)؟ أم، على العكس من ذلك، يُبرز جاذبية الرئيس الأميركي، بفعل التضاد بين انفتاح هذا الأخير وبلاغته المثقفة والمهذبة، علاوة على أناقته، وبين ابن الحدّاد الذي قرّر أن يستمر في الاستثمار سياسياً في أصوله الفقيرة وتقشّفه وراديكاليّته الشعبوية، مطابقاً هذه الصفات مع مظهر جسدي وهندامي يداني الرثاثة.
إشكالية ثانوية حقاً، ولو أنّها تقف خلف الاستفظاع الذي يسود في أوساط واسعة، إعلامية وسياسية (لا في الغرب وحده)، حيث يبدو أن قوة الامتنان للتغيير الذي يمثّله أفول بوش ووفود أوباما تتجاوز الحسابات السياسية لتكشف عن عقدة نقص تجاه «السيّد»: هل هكذا تقابلون حسن صنيع واشنطن!
وقد دخل القمع الشديد الذي تعرّضت له التظاهرات المعترضة على نتائج الانتخابات وعودة نجاد، على خط الإثارة غير العقلانية، تلك التي تعزز الشعور بأن هناك خطأً ـــــ متوقعاً ـــــ في ما جرى في إيران، ولا سيما أن تلك التظاهرات الشبابية التي احتلت شاشات التلفزة العالمية يوم السبت الفائت، شهدت مشاركة نسوية معبّرة، ما يجعل مكوّناتها تشبه «المجتمع المدني»، بل وتتطابق مع تعريفه، وهو الذي لا تحلف الأيديولوجيا السائدة إلا برأسه. وهكذا يتوافر أول ملمح من الإلفة مع تلك التظاهرات. ثم يعزز الإلفة القمع الذي أصابها، وكان من البشاعة بالمقدار المتوقع من هؤلاء «المتخلّفين»: هراوات تنهال على أجساد فتيّة، وتوقيفات بالمئات، وغاز مسيل للدموع ودماء وكرّ وفرّ. ومن جهة ثانية، قمع منظم للمعارضين الخاسرين، بحيث هوجمت مكاتبهم وأُجبروا على كلام ليس صادراً من أفئدتهم.
... معركة طاحنة، مع أن الجميع يدرك أن منصب رئاسة الجمهورية محدود الصلاحيات، وقد اختبر ذلك على مدى ثماني سنوات، السيد خاتمي الذي ربما كان أكثر نسخ الإصلاحيين اكتمالاً، وعرف حدود ما يمكن رئيساً في إيران أن يفعل، ولا سيما إذا كان لا يحظى بالرضى الكامل للمرشد الأعلى. وعرف العالم بعدها أن محصلة الممارسة السياسية في إيران تتقرر على ضوء توازنات شديدة التعقيد والدقة بين المؤسسات الحاكمة نفسها، ومنها كتلتا المؤسستين الدينية والعسكرية بتفرعاتهما، ثم هناك في إيران قوميات، وجهات، و... طبقات!
فليست إيران هي طهران، ولو أنها مدينة عملاقة، وليست طهران هي الجامعة والأحياء الشمالية المرفّهة. وأما الشريط الذي لم يتوقف عن المرور على شاشات التلفزيون في العالم، عن تعطيل شبكة الهواتف النقالة وإغلاق انترنت وفايسبوك، فيدعو إلى الرثاء: الرثاء أولاً وقبل كل شيء على نظام يخشى ثورة تطيحه انطلاقاً من وسائل الاتصال والاستعلام هذه، التي لا يتقنها ولا يحوزها ويستخدمها إلا الشبيبة من المتعلمين، ومن ذوي دخول معقولة، وهم في بلاد كإيران شريحة رقيقة، وكذلك الرثاء على أوهام التغيير في عقول المراقبين، يصنعه ممثلو «المجتمع المدني» هؤلاء.
معركة طاحنة، مع أن جميع الترشيحات حصلت على «الإجازة الشرعية» في هذه الديموقراطية المضبوطة من أعلى بإحكام، وجميع المرشحين يتنافسون على تعزيز مكانة إيران، مولّدين جواً من العزة القومية التي تكاد تنفصل عن الخلاف السياسي أو الفكري على مناهج تحقيقها.
ها قد بدأنا نقترب من لب الحقيقة: كيفية تعزيز الافتخار الإيراني، وذلك رغم الصعوبات الاقتصادية، حيث بلغت رسمياً نسبة التضخم 15 في المئة، ما رفع أسعار الحاجات الأساسية كالغذاء والمحروقات بنسبة مرهقة. المهندس والرسام مير حسين موسوي (وزوجته الشديدة النشاط إلى جانبه عميدة جامعة)، ليبرالي اقتصادياً يؤمن بأن قطاع الأعمال هو الذي سيطوّر إيران. وهو يريد تعزيز مكانتها عبر استعادة «احترامها» الحضاري بين الأمم، عوضاً عن الإذلال الذي تسبّبه لها صورتها الرثة والاستفزازية، ويعتقد أن البرنامج النووي يمكن أن يخضع لرقابة دولية تامة كي تطمئن القلوب. وهذا كله في نهاية المطاف كلاسيكي جداً.
أما نجاد، فلديه جواب مبسط هو مزيج من إجراءات (عشوائية) لمصلحة الشرائح الأكثر فقراً، مع الاستمرار في توزيع بعض فوائض عائدات النفط عليها بصورة إحسانية، وإقران ذلك بخطاب مشاكس، يسخر من التوافقات الأنيقة في الدبلوماسية الدولية، وينتهك ما هو معرف كمحرمات (وأعلاها في الأيديولوجيا السائدة اليوم هو ما يطال «المحرقة»)، ويهدّد إسرائيل بغد أسود، ويعقد تحالفات عالمية، وخاصة مع مشاكسين آخرين من أميركا اللاتينية على رأسهم شافيز. يريد نجاد أن يجسّد نظرة إيران إلى نفسها كقوة عظمى (إقليمية على الأقل). وفي القلب من هذه تعزيز قدرتها العسكرية، رغم الصعوبة المرتبطة بالعقوبات وبالكلفة العالية للتطوير العسكري، اللتين قد يختزل معاناتهما تعيين أولويات، هي من جهة تطوير الصواريخ، ومن جهة ثانية حيازة التقنية النووية، الأمر المقرِّر في تحقيق الانتقال إلى الصف الأول بين الأمم.
ويستنفر كل ذلك عصبية قومية ـــــ أيديولوجية تختصر المسافات والمشاقّ (دون أن يعني ذلك أنها متحققة من متانة ما يُنجز واقعياً). ويبدو لهذه الجهة أن نجاد لم يستنفد بعد وظائفه.