منى عباس فضل*اللقاء الذي حصل في المجلس الأعلى للمرأة أخيراً بمناسبة صدور «نصف قانون» لأحكام الأسرة، كان بحق لقاءً مثيراً. فنصف القانون ذاك يخص المذهب السني، وبقي إنجاز النصف الآخر العائد إلى المذهب الجعفري وتنظيم أصول النظر في الحالات المختلطة! وغاب عن المناسبة الاحتفائية من يمثلن نصف نساء البحرين، ولو أنه اعترف خلالها بالجهود المجتمعية المضنية التي بادرت وسعت للمطالبة بتقنين أحكام الأسرة منذ 28 عاماً. وهذا وضعت لبناته الأولى في «لجنة الأحوال الشخصية» التي تأسست في مطبخ الجمعيات النسائية (نهضة فتاة البحرين، رعاية الطفل والأمومة، أوال النسائية) ورعتها بالجهود المتواصلة مع بقية المؤسسات والشخصيات. هذه بادرة طيبة تحتسب في خانة المجلس، هذا جانب.
الجانب الآخر المثير، هو خروج صوت فاقع في اللقاء بمقولة «إن المجلس الأعلى ليس طرفاً في عملية التوافق المجتمعي للعمل على إصدار القسم الثاني من القانون، لأن الأمر ليس من اختصاصه إطلاقاً». يفتح ذلك حتماً أبواباً للتأويلات، فهو إما إبراء ذمة لما يستوجب فعله لاستكمال القانون «يللي علينا سويناه، والباقي عليكم»، وبالتالي لا يمثل أولوية، وأما إخلال بمسؤولية تنفيذ الالتزامات الدولية والتملص منها بإلقائها على كاهل الجمعيات النسائية ممثلة في الاتحاد، الذي يدرك القاصي والداني أنه لا حول ولا قوة له في الضغط بالمستوى المطلوب على الحكومة.
واللافت أيضاً ردّ رئيسة الاتحاد أثناء اللقاء قائلة: «إن الحكومة ملزمة بالسعي إلى التوافق المجتمعي بشأن الشق الجعفري، فما صدر يكرس تجزئة المجتمع وتفتيته ويضر بالوحدة الوطنية». بيد أن عضو مجلس الشورى والوزيرة السابقة التقطت الموقف بهدوء وأكدت أن «التوافق المجتمعي على القانون هو مسؤولية المواطنين، والسلطات الثلاث إلى جانب المجتمع». وحسناً فعلت، فالمجلس الأعلى للمرأة هو ضمناً جزء لا يتجزأ من تركيبة السلطة التنفيذية، بما لها وعليها من مستوجبات ظاهرة أو مستترة، وبينه وبين أغلب مؤسسات الدولة والمجتمع بروتوكولات تعاون، تفتح لا شك المنافذ وتبْسط التسهيلات لدعم أي توافق مجتمعي، إن تضافرت الجهود.
أما الأشد إثارة، فتمثل بدعوة الأسرة البحرينية للاستفادة من الخيار المفتوح في الاحتكام إلى الشق الأول من القانون «السني»، بما فيها أسر المذهب الجعفري، في حال توافُق طرفي القضية على ذلك، إذ جاء الردّ سريعاً كالبرق من الاتحاد النسائي بأنه «يجب غدم التعويل على توافق الزوجين، لأن أغلب الحالات التي تصل إلى المحاكم، هي حالات تفتقد إلى التوافق أصلاً».
الأهم من هذا وذاك هو ما ذَكّر به القانونيون بأن «الاحتكام للقانون يشترط فيه أن يكون عقد الزواج في الأساس مصدقاً في المحكمة السنية، حتى وإن قيل العقد شريعة المتعاقدين، ولا يمس العقيدة والأصول الدينية لكل مذهب. فالتلويح بفكرة احتكام الشيعة للشق السني من القانون في الطالع والنازل تثير اللغط والتأويل بشأن المغزى من وراء فتح بؤر التأزم وما تشرعه من منافذ للنعرات الطائفية هو عش الدبابير»!
في السياق، فإن أي سجال يدور حول التحفظ والممانعة على القسم الثاني من القانون، لن يعفي الممانعين من المسؤولية التاريخية أمام المجتمع، وهم يكررون أناة الليل وأطراف النهار مطالباتهم التعجيزية الداعية إلى ضمانات دستورية، وإشراف من مرجعية عليا معلوم أنها خارج البحرين والدولة تعد إشرافها «اختراقاً لسيادتها».
هم يتملصون من ماذا أيضاً؟ من عدم المساهمة في الارتقاء بالمجتمع باستكمال منظوماته القانونية والقضائية، لا سيما من تعهد منهم عند دخول البرلمان بتحمل هموم المواطنين رجالاً كانوا أم نساءً. فبعض الأصوات الانفعالية المناكفة في «كتلة الوفاق» تستحضر ما يحلو لها من قرائن وشواهد لإثبات رجاحة ممانعتها وأحقية موقفها. ومن ذلك نشر خبر في نشرتهم لشهر أيار / مايو 2009، يفيد بأن «مليون طفل مشرد في مصر بسبب قانون الأحوال الشخصية»!
قطعاً، هناك المزيد مما يتطلب الرصد والدراسة والإفصاح عنه بشفافية، إذ ليس بحوزتنا إحصاءات «للمجلس الأعلى للمرأة» الذي يرجح أن في جعبته سجلاً للمتضررات اللاتي يطرقن أبوابه يومياً، كذلك ليس هناك بيانات دورية معلن عنها من المحاكم والمستشفيات ومخافر الشرطة وغيره، ممن تمر عليهم حالات الضرر، كمكاتب العديد من قضاة الشرع ورجال الدين المؤيدين لإصدار القانون، والذين يؤكدون في اللقاءات المغلقة ثبوت الأضرار التي تصلهم، بيد أنهم يتهيبون الإفصاح عن بياناتها لأسباب معروفة، ناهيك عن الحالات الصامتة من النساء اللواتي لا يغادرن شرنقة منازلهن للبوح والشكوى من القهر والأضرار الواقعة عليهن جراء العنف، فحسب الثقافة السائدة والأعراف والتربية، هذه أسرار بيوت ولا يجوز إفشاؤها. لا ريب أن هؤلاء النسوة لسن في خانة الشق الأول من القانون فقط، فنساء الشق الثاني يعانين الويل، والمفارقة أن كثيرات منهن خرجن طوعاً في المسيرة الحاشدة في 2006، وهتفن ضد الاحتكام إلى قانون ينصفهن من الظلم.
ومع ذلك، لا يجدي دفن الرؤوس في الرمال عند مواجهة الحقائق التي «تسوِّد» وجهنا الحضاري بين الأمم، وخصوصاً مع الإقرار بتدني الوعي الحقوقي للنساء، وتزايد قضايا المتضررات العالقة في المحاكم الشرعية. أما الإصرار على تعديل نظام التقاضي كشرط أولي يضاف إلى قائمة الشروط التعجيزية السابقة، فيعد هروباً إلى الأمام، كما أنه لا يستر عورة مجتمع يتأخر في إصدار قانون مكتمل ينصف جميع نساء البحرين دون تمييز مذهبي.
* باحثة بحرينية