ناهض حتر *في العاشر من حزيران الجاري، احتُفل بعشريّة تولّي الملك عبد الله الثاني العرش الأردني. ومن سوء الحظ أن غالبية المعلقين الأردنيين انخرطوا في كتابات احتفالية، فلم تجر مناقشة جدية لتجربة العقد. ورث عبد الله الثاني عن والده الراحل الملك حسين، ما يمكن وصفه بأنه نظام ملكي رئاسي. والمقصود بهذا الوصف أن الملكية الأردنية ليست كالأنظمة الأوتوقراطية في الخليج، وليست ملكية شبه دستورية تقليدية كالمملكة المغربية، حيث هناك آلية لتداول السلطة بين الأحزاب مع احتفاظ القصر بالخيوط السلطوية. لقد سار النظام السياسي الأردني في طريق متعرج وشاق من الملكية الدستورية إلى نظام الملك ــــ الزعيم، وهو وضع انتزعه الملك حسين بتعديلات دستورية بعد قلب حكومة الحركة الوطنية سنة 57 وبنضال شاق في مواجهة الأحزاب اليسارية والقومية البالغة القوة في الخمسينيات والستينيات، كما في مواجهة القوى السياسية التقليدية المتجذرة في جهاز الدولة، والمتمسكة، آنذاك، بالقيود الدستورية والقانونية. واجه الملك حسين التحدي الناصري، الخارجي والداخلي، بالتحالف مع الطبقة الوسطى الريفية التي كانت، مطلع الستينيات، قد أبرزت زعامة سياسية وطنية متمثلة في تيار يقوده وصفي التل. وقد تمكن الأخير، الذي ترأس الحكومة غير مرة، من حشد طاقات البلد، والمساعدات الأجنبية، في بناء نسخة أردنية، حيوية، وأكثر تسامحاً، من النظام الناصري والبعثي: قطاع عام قيادي، وإصلاح زراعي، وتطوير الخدمات العامة في الريف، وجهود في مجال التصنيع، وتوسيع نطاق التعليم الثانوي، ومجانية التعليم الجامعي، وإدماج أبناء العشائر الفلاحية والبدوية في جهاز الدولة... بل أطلقت الدولة أيضاً جهوداً، على الطريقة المصرية الناصرية، في مجال الثقافة والإعلام والفن التشكيلي والتراث الشعبي. وأخيراً وليس آخراً، فتحت الفرصة أمام شيوعيين وبعثيين وضباط أحرار لتولي مناصب قيادية.
وقد نشأ عن هذه الإجراءات تحالف اجتماعي وطني، حوّل الملك حسين من ملك إلى زعيم. وكانت هذه أغلى أماني رجل يحتفظ في مكتبه بصورة للزعيم الذي يناصبه العداء في السياسة الخارجية، الرئيس عبد الناصر، ويكنّ الكثير من الازدراء لحلفائه من ملوك الخليج وأمرائه وشيوخه. ذلك التحالف الاجتماعي الوطني الذي أسهم، اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً، في بلورة الهوية الوطنية الأردنية، هو الذي مكّن النظام من مواجهة تحدي المنظمات الفلسطينية الضخم، والتغلب عليه في سنة 70 من القرن الماضي. وخرج الملك حسين من تلك السنة الصعبة زعيماً أردنياً لا ينازع. وبدأ عهد جديد بلا معارضة جدية ولا تحديات إقليمية ذات تأثير داخلي، ما سمح بانقلاب على التحالف الاجتماعي الوطني في الثمانينيات لمصلحة القوى البورجوازية الكمبرادورية المدينية المتنامية القوة، ردّت عليه جماهير الريف بانتفاضة 1989 وسلسلة لاحقة من التمردات.
وباستثناء فترة حرب الخليج الأولى التي وحّدت النظام والشعب في خندق واحد مؤيد لصدام حسين، فإن حقبة التسعينيات شهدت انحساراً في شعبية الملك حسين، وخصوصاً بعد التوقيع على معاهدة وادي عربة سنة 1994. ومع ذلك، رحل الملك في 1999، من دون أن تهتز صلاحياته وثقله في القرار. عند رحيل الملك حسين، وُجد سياق من التفكير السياسي لدى كل الاتجاهات، بأن الملكية الرئاسية لم تعد ممكنة لأنها كانت تعتمد على زعامة الملك الراحل. وهي زعامة ليست قابلة للتوريث، ليس فقط لأنها تعبير عن إرادة صلبة مقترنة بالألمعية لملك ولد في أحد أحياء عمان في بيت متواضع، وربي كأقرانه من دون امتيازات، بل بقدر معروف من معاناة الحاجة، بل لأنها نتاج ما يقرب من نصف قرن من التحديات الصعبة والاستجابات الخطرة. والأهم من كل ذلك لأنها ولدت من تحالف اجتماعي وطني لم يعد قائماً.
ومع تولي الأمير الشاب، عبد الله، العرش، أصبحت العودة إلى الملكية الدستورية مطروحة موضوعياً. فلا ريع نفطياً لملكية أوتوقراطية على النمط الخليجي، كما لا قاعدة اجتماعية سياسية للزعامة، بل إن الأنظمة السياسية المرتكزة على الزعامات الاجتماعية لم تعد موجودة على المستوى الدولي في عهد السوق المعولم المرتكز على الخصخصة وحرية التجارة وتلاشي دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي.
كان الملك حسين في أواخر سنواته مدركاً لذلك، وعليه فقد خفف قبضته، بشيء من التردد ولكن بصورة فعلية، على الحياة السياسية، كما أنه كان يخشى على زعامته من الخصخصة، فبقي يماطل في القرار ويدعم، واقعياً، قوى القطاع العام. وفي السياسة الخارجية.
ورغم انفراد الولايات المتحدة بالهيمنة العالمية مطلع التسعينيات، واضطراره إلى توقيع معاهدة وادي عربة مع إسرائيل بشروط سيئة، فهو لم يقطع صلاته بنظام الرئيس صدام حسين، وظل الراعي الرئيسي لحركة «حماس». ولعل إدارة هذه التناقضات المعقدة هي التي صبغت التسعينيات الأردنية بفوضى وصراع غير مسبوقين. الملك عبد الله الثاني، الذي أصر على الاحتفاظ بصلاحيات الملك ــــ الرئيس، بل وسّعها إلى نطاق لم يعرفه النظام الأردني سابقاً، من خلال إنشاء هيئات رديفة لأجهزة الدولة وتوسيع مجالات نشاط الديوان الملكي ونفوذه، تخلّى عن المحاذير التي كانت تُربك والده وتُقيده. وقد اكتشف أن تلك المحاذير لم تكن واقعية. فالنخب السياسية، الموالية والمعارضة، لم تمثّل جداراً لحماية النظام القديم، ولم تمثّل قوة يمكنها تفعيل التغيير المطلوب نحو الملكية الدستورية. لقد خضعت وفقدت مشاريعها ولم يعد لها برامج سوى البحث عن تأمين مصالحها الفردية. حدث ذلك وسط قبول شعبي خائف على مصير البلد الذي كان هناك شعور عام بأنه آمن بفضل الثقة بقدرات الملك حسين.
تحت شعار «الاقتصاد أولاً» أطلق الملك عبد الله الثاني موجة واسعة متسارعة صادمة من إجراءات الخصخصة الشاملة، والقبول غير المشروط بالاندماج في السوق المعولم، وحرية التجارة والبزنس والاستثمارات الأجنبية، وتمرير حزمة كبيرة من القوانين الليبرالية، والشروع في تحجيم دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي. وقد حظي هذا البرنامج الذي سمي «برنامج التحولات الاقتصادية والاجتماعية» بدعم طبقة جديدة متسعة من البورجوازية الكمبرادورية، وكلاء المصالح الأجنبية، ومن نخبة من الليبراليين الجدد المتأمركين، الذين تلقوا دعماً سياسياً من تيار التوطين الفلسطيني المهتم بإضعاف جهاز الدولة الأردني الطابع ودوره. وعلى هذه الخلفية تبلور الصراع السياسي ــــ الاجتماعي في الأردن بين تيار فلسطينوي يرى أن الخصخصة تسمح بـ«الوطن البديل» عن طريق إزاحة عائق الدولة وأجهزتها المدنية والأمنية والعسكرية وقيودها الدستورية، وتيار أردني يقرن قوة الدولة وأجهزتها ودورها الاجتماعي بالحفاظ على الهوية الوطنية للمملكة. هكذا أصبح الانشقاق طولياً، في تأكيد جديد على أن بلادنا لا تزال محكومة بالتحليل الخلدوني لا بالتحليل الماركسي.
في السياسة الخارجية، تصادفت جرأة الملك عبد الله الثاني وميوله نحو الانسحاب من التنافس مع السلطة الفلسطينية على الضفة والقدس، مع مجيء المحافظين الجدد إلى البيت الأبيض في ولايتين طويلتين شرستين للرئيس جورج بوش الذي كان شعاره، بعد أحداث 11 أيلول، واضحاً في رفض مناورات الحلفاء: معنا أو ضدنا. وقد تموضعت السياسة الخارجية الأردنية كما هو معروف مع الأميركيين، وانضمت المملكة إلى التحالف الأمني الدولي ضد «الإرهاب». وكان ذلك، كما في كل مكان آخر، أساساً للانفراد في القرار، وتجاوز القانون، والإثراء غير المشروع الذي أنشأ طبقة جديدة من أغنياء الحرب أصبح لها هي أيضاً دور سياسي داخلي لجهة دعم الخصخصة والتوطين. بدأ عهد الملك عبد الله الثاني بطرد قادة «حماس» وأجهزتها من عمان، والقطيعة مع هذه الحركة التي كان يراهن الملك حسين على أنها ستحوز قيادة الشعب الفلسطيني، مما يسهّل على الأردن التفاهم مع حليف فلسطيني مأمون، بدلاً من «أبوات» فتح الذين لم يحوزوا يوماً ثقة الملك حسين أو احترامه، بعكس الزعيم الحمساوي الشاب آنذاك، خالد مشعل، الذي كان محبوب الملك الراحل.
نجح رهان الملك بالنسبة لـ«حماس»، ولكن بعدما كان الأردن قد خسرها حليفاً. (ويلح علي الآن سؤال مفاده: ماذا لو اقترن فوز «حماس» في انتخابات 2006 مع وجود قيادتها في عمان حليفة؟ ألم يكن ذلك سيخلق سياقاً لكي ترث حماس «فتح» بصورة شاملة؟).
تموضعت السياسة الأردنية خلال حقبة بوش، بالكامل، في الأطر التي رسمها المحافظون الجدد على المستوى العربي، مع استثناء واحد لم يكن هناك إمكانية فعلية لمعاكسته، وهو التأييد الشعبي الكاسح للمقاومة العراقية، تأييد فرض نفسه في تسهيلات واقعية للمعارضة العراقية، من دون أن يؤدي إلى وقف التسهيلات الكبرى الممنوحة للأميركيين.على هذه الخلفيات، يمكننا القول إن تجربة العقد الأول من ولاية الملك عبد الله الثاني فشلت في بناء تكوين منسجم للمملكة الأردنية الرابعة. وهو فشل نراه في الآتي:
1ـــ أن النمو الحاصل في هذا العقد حدث في قطاعات المال والعقار والاتصالات والتجارة، ومن رؤوس أموال أجنبية. وهي قطاعات غير عضوية وغير مشغّلة للقوى المحلية (العمالة والخبرات والطاقات ورؤوس الأموال الصغيرة والمتوسطة). ولم ينته النمو، كما كانت الدعاية الليبرالية تدّعي، إلى المواطن، بل إلى جيوب الرأسماليين الأجانب وجيوب طبقة جديدة من الكمبرادور، بحيث إن عائداته إما أنها حوّلت خارج البلد أو موّلت نمط حياة باذخاً، فيما تحوّل 3 ملايين أردني إلى فقراء.
2ــــ أن الانتقال إلى نظام اقتصادي ليبرالي، لم يترافق مع الانتقال إلى نظام سياسي جديد يسمح للقوى الاجتماعية بالتعبير عن نفسها في أحزاب ونقابات وتجمعات ذات حيثية مؤكدة في نظام سياسي دستوري يسمح بالاصطفافات الاجتماعية والسياسية. وهكذا، وبينما جرى استهلاك متسارع للنخب القديمة أو الجديدة المفروضة من أعلى، لم تتولد الفرصة لنشوء نخب أصيلة قادرة على إدارة التناقضات المحلية. بالعكس، جرى استبعاد وتهميش أي مثقف أو سياسي لديه طموح اجتماعي وطني، لمصلحة الباحثين عن الفرص الفردية على أساس الولاء غير المشروط أو القدرة التقنية.
3ــــ أن تعويض جماهير الريف عمّا لحق بهم من إفقار في ظل السياسات الليبرالية الجديدة، من خلال الأعطيات والمساعدات الخيرية، هو مسكّن ليس له مضمون أو مآل سياسي، ولا يؤدي إلى بناء قاعدة اجتماعية متماسكة وحيوية للدولة، بل يدمّر ثقافة المواطنة وروح الكرامة الإنسانية، ويضرب قيم الإنتاجية والوطنية والالتزام.
4ــــ أن الدعم اللامشروط الممنوح للسلطة الفلسطينية وقواها، ترافق وتوافق مع نمو قوة التيارات التوطينية الداخلية، اقتصادياً وسياسياً، ما أدى إلى تبلور تيار واسع مؤيد للتوطين السياسي والوطن البديل، أقله على مستوى إعادة بناء الدولة الأردنية على أساس نظام المحاصصة. وهو ما يؤسس لصراع أهلي داخلي وخيم العواقب.
5ــــ أن الاصطفاف مع التحالف الأميركي ــــ السعودي ــــ المصري في السياسة الخارجية، منع الدبلوماسية الأردنية النشطة من التركيز على المصالح الوطنية الأردنية لحساب مصالح التحالف. وأذكر مثلين رئيسيين: التركيز على «حل الدولتين» بدلاً من التركيز على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم، والصدام، بلا داع من مصالح أردنية، مع ما سُمّي الهلال الشيعي.
6ــــ أن الإلحاح على تنفيذ البرامج الليبرالية الجديدة وإقرار القوانين والإجراءات لمصلحة الرأسماليين الأجانب والمحليين، مثلما الإلحاح على سياسات خارجية لا تتوافق مع المصالح الوطنية وإرادة الرأي العام، أدى إلى اتباع سياسات إضعاف هيئات الدولة وأجهزتها وصلاحياتها الدستورية، لمصلحة مراكز قوى وهيئات رديفة. وهو ما خلق سياقاً فوضوياً في البلاد. وعلى هذه الخلفية، تشقّقت النخبة الحاكمة إلى مجاميع وأحياناً إلى أفراد، ولم تعد معنية بالدفاع عن قرار مركزي بل بالمصلحة الشخصية أو بالنجاة الفردية. وفي مواجهة هذه الفوضى نشأت معارضة خفية وعلنية، متنقلة، وموسمية، متكونة من تحالفات مؤقتة بين قوى متعارضة، لإفشال هذا المشروع الرسمي أو ذاك. وبالمحصلة، نشأ وضع متداخل سائح بلا نظام موحد ولا معارضة موحدة. إن المشكلات الكبرى للبلاد، وعلى رأسها إعادة تنظيم المواطنة على أساس حق العودة، وتأكيد الهوية الوطنية للدولة وقدراتها الدفاعية، والانتقال إلى الملكية الدستورية والنظام الديموقراطي، وتشبيك بنية اقتصادية وطنية قادرة على استيعاب الطاقات المحلية المهدورة، والمعالجة الفعالة لمشكلتي المياه والطاقة، وتطوير الخدمات العامة، كلها لا تزال معلّقة، وهي تنتظر إجابات جذرية.
* كاتب وصحافي أردني