كامل جابر
بين عربصاليم في إقليم التفاح، حيث بنى بيتاً للعطل والمناسبات عوضاً عن ذلك الذي نسفته إسرائيل، وبين بيروت حيث الإقامة والإطلالة على الثقافة والأدب والشعر؛ حنين دائم يلازم محمد علي شمس الدين إلى بيت ياحون... قريته التي سلخته عنها الجغرافيا وشواغل الحياة ومشاغلها. «الذاكرة والإحساس مشدودان دائماً نحو القرية»، الواقعة قرب الحدود، بين بلدة تبنين ومدينة بنت جبيل، حيث ولد الشاعر عام 1942.
هناك تفتَّح على صوت جدِّه الشيخ محمد وهو يقرأ «كربلائياته» والأوراد القرآنية بصوت عذب. وتفتَّح أيضاً على مشاهد الطبيعة الأولى في تلك القرية «البدائية إلى حدّ كبير» التي يستعيدها بحنين: «لم يكن ثمة كهرباء ولا ماء؛ كنَّا ننقل الماء على الأتان من عين تقع أسفل القرية، وكم مرة أوقعتني الحمارة! كانت متعتي أن أمشي في البراري قريباً جداً من الهواء والسماء، والشمس والرياح، وتحت المطر وفي العاصفة؛ وأعاين تقلّب الفصول وأثرها على جسدي ونفسي».
بعد دراسته الأولى في القرية، نقل والده عمله وعائلته إلى بيروت مطلع الخمسينيات. إلى تلك الجغرافيا الجديدة، حمل الصبي معه الحنين المشدود نحو بيت الطفولة، ما أسهم في تشكيله النفسي والفكري، وصنع له عصباً فيه شيء من الحزن الكربلائي والفرح بالطبيعة وما فيه من سحر ودهشة.
تابع الدراسة التكميلية في «ثانوية فرن الشباك»، وكان يذهب إليها مشياً على الأقدام من الشياح. في معرض توصيفه لتلك الأيام، قال مرّة: «أنا «ميم»، الرجل المشّاء. أضع يديَّ في جيوبي عندما يهبط الليل على بيروت وأمشي. شوارع المدينة طويلة ومتعرّجة مثل حكاية بلا بداية ولا نهاية. وأنا فيها متسكّع المسافات التي لا تنتهي». وضع لنفسه برنامجاً لحفظ مقاطع من الشعر الفرنسي خلال الذهاب والإياب، ما أفاده لاحقاً في دراسته: «كنت الوحيد في صفّي الذي نجح في البروفيه الفرنسية عام 1958». بعد سنتين، تخرج من دار المعلمين التكميلية؛ ولأنَّه كان أصغر من السنّ المؤهلة للتعيين، بقي عاماً في البيت من دون دراسة. بعدها أكمل دراسته ليحصد إجازة في الحقوق، وأخرى في الأدب العربي وثالثة في التاريخ نال لاحقاً فيها شهادة دكتوراه دولة من الجامعة اللبنانية عام 1997. درّس شاباً في ثانوية بنت جبيل وبيروت، وعمل مفتشاً في الضمان الاجتماعي ليغادره مديراً عام 2006، ودرّس تاريخ الفنّ في «معهد التعليم العالي».
انشغاله في الوظيفة لم يمنعه من الانغماس في أتون الشعر. «الشعر ليس مهنة؛ ونادرون ــــ باستثناء نزار قباني مع أنّ أسباب رواجه ليست شعرية ــــ هم الذي يعيشون من الأدب في العالم العربي. بين التدريس والعمل الاجتماعي وجدت مادة بشرية حية للاحتكاك والمعرفة أغنت تجربتي». تلك السيرة المهنيّة الغنيّة، يعتبرها محمد علي شمس الدين حفريات في الخارج. أما نبض حياته، فحفريات في الداخل، يطلق عليها اسم «حفريات ميم». هي الكتابة المبكرة جداً التي بقيت طي التجارب الذاتية. «لم يظهر من الجليد سوى ذؤابته عام 1975»، حين أصدر ديوانه الأول «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» (الآداب).
قبل هذا الديوان، كتب مئات القصائد. «كنت أكتب قصائد وأتلفها أو أخفيها في مكان ما، إذ كنت رهين النوعية منذ الصغر، وقلقاً جداً وشكّاكاً. وأنا في الرابعة عشرة كتبت أوّل نصوصي الشعرية، يقول مطلعه: «بحّ غيثاري، فلا لوم عليّ أن يموت الوجد في الدنيا وفيّ».
لم أسمح لأي قصيدة بأن تبصر نور النشر إلا حين اعتقدت “أنها باتت تستطيع مقاومة الزمن فلا يطويها اليوم التالي». بعد عامين على ديوانه الأول الذي أعيدت طباعته مراراً، صدر «غيم لأحلام الملك المخلوع». على هذه الوتيرة راح يصدر كل عامين تقريباً ديواناً أو كتاباً نثرياً أو أشعاراً وقصصاً للصغار. مثل «طيور الشمس المرّة» (1988)؛ و«أما آن للرقص أن ينتهي؟» (1992) و«منازل النّرد» (1999)، و«ممالك عالية» (2002) و«شيرازيات» (2005) وآخرها «الغيوم التي في الضواحي» (النهضة ــــ 2007).
عن علاقة شعره بالجنوب، يقول: «الجنوب حملني، لكنني أحمله الآن؛ الجنوب العظيم أعطانا النار التي أجّجت الشعر. المسألة فيها شيء من الذاتية وشيء من الموضوعية. ليس المهم المعنى، بل المهم ما يقدمه نصك الإبداعي الشعري».
كان «ميم» يكتب «الحرب في منتهى لحظات الهدوء؛ والحبّ في عنفوان الحروب. لو كان الشعر ابن لحظته وابن بيئته فقط، لما اخترق شاعرٌ الأزمنة، ووصل إلينا شاعر كالمتنبي أو أبي نؤاس أو امرئ القيس. الشعر يبدأ من حيث ينتهي التاريخ، من حيث تنتهي المقاومة، من حيث ينتهي الواقع، لأنه قرين المخيلة ويبتكر واقعاً شعرياً آخر. قصيدة الحب ليست مثل الحبّ، وقصيدة المقاومة ليست مثل المقاومة، وقصيدة الموت ليست مثل الموت. الشعر هو الكيان الإبداعي الجميل العظيم المفارق للواقع، وهو في النتيجة لغة وأقنعة وغموض ووضوح وحيل شعرية وتقنيات، لذا علينا أن ندقِّق حين نقول مثلاً: هذا الشعر هو شعر مقاوم. نعني بذلك مقاومة ماذا؟ ومن؟ وقبل كل شيء يجب أن نسأل: هل هو شعر؟ وإذا كان ثمة شعر فما هي عناصره؟ ما صلته بالحياة؟ هل يعكس شرطاً من شروطها؟ هل يبتكر؟ هل يحوّر؟ هل ينشد؟ في شعري أنا، إنشاد ملحمي يحمل الجنوب والعالم
والإنسان».
لا يحبّ محمد علي شمس الدين تعبير «شعراء الجنوب» ولا يكرهه. هو يرى أنَّ التسمية كانت تسمية سياسية وغطاءً لعدد من الشعراء الذين ينتمون إلى الجنوب اللبناني، في ما هو قضية وأرض ونضال شعب. «لكن لو دققت في النصوص لوجدت أن الجسد يفيض عن الثوب. شكسبير أكبر من إنكلترا؛ الشاعر المبدع هو ذاته، وهذا أبعد من الجنوب وأبعد من لبنان وأبعد من العالم العربي».
يوم تصارع «الإخوة» عام 1984 على أرض الجنوب كتب شمس الدين قصيدة «ورشة القَتَلة»، وفيها يهجو القتلة في الداخل والخارج:‏ «وداعاً وداعاً قيودي الصغيرة/ لم يعد للمغني فم ولا طعم للعاشقين/ والذي يفصل الشمس عن طفلها/ ورشة القاتلين‏». الجنوب بنظره هو عالم الإنسان المتحول، الإنسان المقاوم والمتناقض أيضاً، من حيث القوى الموجودة فيه، من حيث الأفراد والتيارات والاتجاهات. «كنت دائماً في هذه البانوراما من الصراع، وأحافظ باستمرار على مسافة تسمح لي بأن أكون حراً. قصيدتي كانت عطية، ولذلك كان ضرورياً أن أكون حرّاً، أن تكون لي عين نقدية تجاه التحولات في الجنوب، صحيح أنني كنت في هذه الكتلة من الحركة الوطنية، وبعد ذلك في كتلة المقاومة، والآن مع المقاومة، لكنني لا أنتمي عضوياً إلى أيّ حزب من الأحزاب، وإلى أيّ تنظيم من التنظيمات. هذا المزاج، وهذا التركيب للقصيدة بالذات، منعني من أن أكون مرتبطاً عضوياً بأي تنظيم من التنظيمات... لكن كانت لي خياراتي العامة التي أعتقد أنها كالقصيدة لا يمكن قبولها إلا بصفتها خيارات أخلاقية».


5 تواريخ

1942
الولادة في بيت ياحون شمالي بنت جبيل (جنوب لبنان)

1975
أصدر ديوانه الأول «قصائد مهرّبة إلى حبيبتي آسيا» (الآداب)

1994
جمع دواوينه في الأعمال الشعرية (دار سعاد الصباح ـــــ القاهرة) وترجم شعره إلى الإسبانية

1997
نال دكتوراه دولة في التاريخ من الجامعة اللبنانية

2009
يعِدّ ديوانه «اليأس من الوردة» وستصدر له المجموعة الكاملة عن «المؤسسة العربية للدراسات والنشر» من جزءين