خالد صاغيةفي أحد مقاهي بيروت المنتشرة على شاطئ البحر، تمّ استبدال كؤوس الشاي الصغيرة والشفافة بفناجين من البورسلين الأبيض. جاءت هذه الخطوة «التقدّمية» بعد أشهر على استبدال السكريّات بظروف صغيرة مقفلة مليئة بالسكر. ولدى الاستفسار عن هذا التحوّل، وخصوصاً أنّه يجافي عادات هذا المقهى وعادات معظم اللبنانيّين داخل بيوتهم، أجاب أحد العاملين في المقهى: «هذا حضاريّ أكثر». وللحفاظ على هذا الوجه الحضاري للمقهى، صدرت أوامر واضحة للجميع بأنّه ممنوع إحضار الكؤوس الشفّافة إلى الطاولات، لأنّها ـــــ على ما يبدو ـــــ تتنافى مع الحداثة. المقهى نفسه كان قد منع قبل أشهر تقديم أيّ نوع من أنواع الكحول لأسباب إيمانية هذه المرّة، لا علاقة للوجه الحضاري بها.
ما يجري في هذا المقهى ليس فريداً. إنّه نوع من اللهاث وراء بعض المظاهر «الحديثة» هرباً من صورة «التخلّف» وعقد النقص الملحقة بها. ولا بأس من إرفاق هذا اللهاث بنزعة تديّن تنعكس على السلوك الاجتماعي، وتضفي على المظاهر الحديثة تعدّداً ثقافيّاً.
لقد جسّدت حقبة فؤاد السنيورة الحكوميّة هذا المنحى. فقد قدّم الرجل نفسه كنسخة كاريكاتورية عن ذلك الحاكم الذي يريد أن يلتصق سياسيّاً بالغرب، وأن يظهر بمظهر المحافظ على مصالح الدولة. ونسخة عن ذاك الإسلام الذي يقدّم نفسه منفتحاً وينفخ في نار المذهبيّة في الآن نفسه. وقد راجت عنه، وعن الوزراء المقرّبين منه، صورة «الخبراء» الآتين من خارج «الزعبرة السياسية» والذين يجمعون بين التديّن الشديد والالتصاق بـ(لا الانفتاح على) السياسات الغربيّة (لا الغرب).
وإذا كانت صورة الحريري الأب وإنجازاته، وصورة الحريري الابن المفجوع باغتيال أبيه، هما اللتين طبعتا انتخابات 2005، فإنّ صورة السنيورة وما مثّله، هي التي طبعت حملة 14 آذار الانتخابيّة.
فالاقتصاد لم يكن طبعاً في مقدّمة اهتمامات الناخبين (الجميع يقرّ بالصعوبات الاقتصادية التي تعانيها البلاد، والتي لم تأتِ بالصدفة)، ولا سلاح المقاومة (أقفل الملف عملياً منذ السابع من أيّار)، ولا العداء لسوريا (الجميع يؤكّد أن لا مجال إلا لعلاقات مميّزة (وندّية) معها). لقد خيضت المعركة في وجه «التشادور» هذه المرّة. جرى تخويف اللبنانيين من نمط حياة وُصف بالمتخلّف والمجافي لعاداتهم. استخدم «التشادور» في تصريحات السياسيين وفي الصور الإعلانية التي كانت تتداوَل على الإنترنت، وفي خلفيّة الحديث عن الشيعة وحزب اللّه وإيران.
وفي المقابل، كان السنيورة يبالغ في التحدّث بالإنكليزيّة، ووزراؤه المقرّبون يكثرون من الحديث عن الانفتاح على العالم وعن الوجه الحضاري للبنان. لقد قدّموا أنفسهم بصفتهم الوجه التكنوقراطي والحديث للدولة اللبنانية، في الوقت الذي كانوا فيه واجهة المشروع الذي يسنده من الخلف القائد السلفيّ لمجزرة حلبا في عكّار، وشيخ الكسّارات في زحلة، والزعيم الشاب للنازيّّين الجدد في المتن، ولائحة العائلات والمحسوبيات في كسروان، ويدعمه المال الوهابي من السعودية، ناهيك بأمراء الحرب ومرتكبي القتل على الهوية الذين توزّعوا على لوائح السلطة على امتداد البلاد.
لقد مثّل لبنان فؤاد السنيورة الحداثة فعلاً. حداثة السياسات النيوليبرالية التي أجهزت على لقمة عيش الفقراء. حداثة التبعيّة. حداثة العروبة المفرّغة من مضمونها. حداثة العنصريّة التي تتلطّى خلف حقوق الإنسان. حداثة كاميرات المراقبة والمضاربات العقارية. حداثة «سوليدير» حيث الجنائن الاصطناعية التي يمنع الجلوس على أحد مقاعدها أو قطف إحدى ورودها، وحداثة بناء المآرب على أنقاض حديقة الصنائع. حداثة «الباركميترز» في الشوارع الضيّقة. حداثة تخريب المواقع الأثرية تشجيعاً للاستثمارات الجديدة. حداثة المؤشّرات الاقتصادية الصمّاء التي تخلو من أدنى حسّ بالعدالة بين البشر. حداثة العنصرية ضدّ الفقراء والمختلفين.
لقد أقدمت غالبية اللبنانيين على الاقتراع للوائح 14 آذار. وبعضهم فعل ذلك بالرغم من احتقاره للمرشّحين عليها. فعلوا ذلك خوفاً من العودة إلى شرب الشاي بالكؤوس الشفافة. فعلوا ذلك دفاعاً عن البورسلين وعن حق السكر في أن يوضّب داخل ظروف مغلقة. هكذا أرتب وأنظف، يقولون. تماماً كما عرفوا أنّ المجرمين والفاسدين والسارقين والطائفيين والعنصريّين وأعداء البيئة... لا بأس بهم ما داموا يخنقون أنفسهم كلّ صباح بربطة عنق ملوّنة.
لقد تشارك 8 و14 آذار في حرماننا من أشياء كثيرة. الفارق أنّ 14 آذار أقنعت جمهورها بأنّه لا بأس في التخلّي عن هذه الأشياء، ما دام الشاي يأتينا بفناجين من البورسلين. وعن الشاي، اسألوا أحمد فتفت العائد إلى البرلمان... واللّه أعلم!