ماذا حصل في الانتخابات؟ لا شيء خارج على المألوف. انتصر «القوي» على «الضعيف». وكانت الصفقات قد عقدت ما قبل النتيجة النهائية، حيث إنه لا فرق بين «القوي» و«الضعيف»، هذا على الساحة السياسية. فالنظام اللبناني ميزته استيعاب كل تحول في المجتمع يحمل بذور انتقاد أو تمرد

رائد شرف *
يريد المنطق «القوي»، منطق الطبقة المهيمنة، أن يؤسس للبنان جديد الحلّة، وأن يعمل بالسياسة كأن شيئاً لم يكن. سيحاول هذا المقال أن يخوض في كيفية انتهاج المجتمع السياسي كذبة اجتماعية اسمها الانتخابات، رغم نيلها رضى وزير الداخلية، ويبرهن كيف كانت كل الإشارات تدل على تماشي هذه الكذبة مع مصلحة الطبقة المهيمنة بالتحديد، منذ اللحظة التي تقررت فيها شروط الانتخابات، عبر تكيف الطبقة السياسية مع الكذب وبتناقض للبعض مع مصلحته الموضوعية، على أن يكون صلب المعركة التحريض والتخويف. وكيف تقوم الطبقة المهيمنة بحياكة «رواية النتائج الانتخابية» التي تتناسب وتموضعها السياسي الجديد، وبالأخص تجاه خصمها البنيوي الذي يكاد يكون الوحيد، أي التيار الوطني الحر. على أن نحاول أن نستخلص استنتاج أي فروع سياسية واجتماعية، استنتاجاً يفلت من حلقة استيعاب النظام اللبناني لبذور التمرد الشعبي الحقيقي الذي تطمسه الانتخابات.
«القوي» في الانتخابات كان فريق ١٤ آذار. إنه الطبقة المهيمنة، لديه أغلب المؤسسات الاجتماعية المحيطة بحياة المواطنين، وأكثر هذه المؤسسات قدماً: أي ما أحاط منها بالمواطنين وسيطر على توجيه آرائهم لأطول وقت. مؤسسات الهيمنة. وهذه المؤسسات تضم البطريركية المارونية وشبكات علاقاتها من كهنة ومريدين وما لهم من مونة وسيطرة على مدارس وكنائس وجامعات، دار الإفتاء، تلفزيونات «المستقبل» و«المؤسسة اللبنانية للإرسال» والمر، وصحف «النهار» و«اللوريان لو جور» و«المستقبل» وغيرها مما يمكن تعداده على سبيل المثال لا الحصر. هي مؤسسات تكاد تثبت موقع قوة مالكيها ومن تدعمهم في كل عمل وفعل يصدر عنها، وليس أقل هذه الأفعال شأناً تحويرها «السهل» للتاريخ والوقائع، بما فيه التاريخ المعاصر. وقد تكون أولى هذه الأكاذيب والتحويرات للتاريخ المعاصر في مرحلة الانتخابات القول بأن «القوي» في اللعبة السياسية اللبنانية هو «الضعيف»، هو من «اعتدي» عليه يوم ٧ أيار ٢٠٠٨. لتدخل هذه الكذبة ضمن منظومة «القوي» الأيديولوجية كعامل تحريض إضافي على الخوف من الآخر، وبالتالي على الكره واتخاذ الموقف «الفعّال» تجاه الآخر: للعمل وللتصويت ضده.
طبعاً، أثبتت مجريات العملية الانتخابية أن سلاح المقاومة له شروط استخدام محصورة جداً، لا تدخل في مجال النزاعات اللبنانية الداخلية. فالمقاومة لم تغضب من التصويت لمصلحة الفريق المعاكس، ولم تتدخل في الصناديق. لقد أفرزت الانتخابات أغلبية وأقلية، رابحين وخاسرين، وانتهت أزمة الحكم بحل «طبيعي» ومقبول. وهذا هراء. فقد كان فاضحاً لجمهور لم تستهوِه الأيديولوجيا المهيمنة، أيديولوجية القوي ومؤسساته، التحوير للتاريخ الذي حصل: أن المقاومة لم تنزل هي على الطريق، بل حلفاؤها من مجموعة نبيه بري والحزب السوري القومي الاجتماعي، وذلك في ظرف أراد فيه «القوي» يوم ٥ أيار ٢٠٠٨ أن يؤسس لمنطق «لا شرعية» المقاومة. ونبيه بري هو نفسه الذي مد جسور الود مع «القوي» قبل الانتخابات ولم يناقش.
كان هنالك غيرها من الإشارات إلى أن كلّ شيء كان لمصلحة «القوي» في اللعبة السياسية، أو على الأقل ليس ضد مصلحته كما يزعم القوي أمام جمهوره. كان هنالك الكثير، غير جسور الود التي تتحدى الانقسامات والتي قامت بين بري وجنبلاط، أو بين جنبلاط وأرسلان، وهي ممارسات أصبحت مبتذلة لكثرة تكرار مسرحياتها ولصغر دواعيها المعلنة (تغليب «مصلحة الجبل» على المصلحة الوطنية، مثلاً).

قانون الستّين عند الطبقة المهيمنة

إن أهم الإشارات التي سبقت الانتخابات والتي تدل على سهولة تموضع «القوي» في منطق الجميع (بمن فيهم المعارضة) هو أساس ما أفرزه مؤتمر الدوحة و٧ أيار ولم يناقشه أحد ممن يفترض أنهم خاسرون في ٧ أيار في المرحلة التي سبقت الانتخابات، ألا وهو قانون الانتخاب.
أولاً، جاء قانون الانتخاب بإلحاح من عون، وذلك ضمن همّ خاص بمنطق «معركته» الانتخابية، وهي معركة شبه طائفية محصورة الاهتمام بـ«استقطاب المسيحيين»، وذلك للرد على منطق البطريرك الماروني، أول المطالبين بقانون الستين. وهذه الظاهرة، وإن بدت نقطة تسجل لمصلحة عون في المجادلة السياسية العادية، فهي، موضوعياً، رضوخ لمنطق «القوي» ومؤسساته. فالطبقة المهيمنة اللبنانية لطالما ارتكزت على «الفرز الطائفي»، على التقسيم الطائفي للناس وعلى تذويب محاولات الوصل «الوطنية» أو «اليسارية» الحقيقية بين قضايا الأطراف واهتمامات العاصمة وقضايا الأطراف في ما بينها. فسليمان فرنجية، مثلاً، كان قد طالب بهذا القانون في الأشهر التي سبقت انتخابات ٢٠٠٥، عندما أراد أن يهدئ الأمور بعد اغتيال الحريري، وأراد أن ينال رضى الطبقة المهيمنة المجيّشة آنذاك للرأي العام.
يجب التذكير هنا بأن «القوي»، عضو الطبقة المهيمنة، في أفعاله ومنطقه، هو حصيلة تطور تراكمات تجريبية أنشأته على المطالبة بما هو لمصلحته، دون أن يعني ذلك أن القوي يفكر ويرى الأمور بمنطق موضوعي أو ماركسي مثلاً. غير أنه يعرف أن يلتمس أي شيء يضمن له تجنب ما يخشاه ويقرفه: ذلك أن ينتخب مسيحيين بأصوات مسلمين، في حال البطريرك الماروني. ولدى الأخير تجربة الحكم في لبنان منذ سنة ١٩٤٣ حتى الحرب الأهلية لإقناعه بقانون الستين (والبطريرك من عمر لبنان). وحدها العودة إلى هذه التجربة من الحكم قد تسعد غبطته وتطمئنه. تجربة حكم كان رجالاتها من بعض أعضاء ١٤ آذار (مثل آل جميل وآل شمعون وسمير جعجع)، ليصبحوا بالتالي رجالات الثقة والمشورة عند البطريرك. هذا لنذكّر بأن للخلاف بين البطريرك وعون أسباباً من بنية النظام اللبناني ومؤسساته، لا يمكن حصرها في خبر اعتداء جمهور عوني على الصرح البطريركي سنة ١٩٩٠. ففي الأساس سبق حادثة الاعتداء، وكان سببها انحياز بكركي إلى النواب ورجال الميليشيا، أي أعضاء الفريق الحاكم (سماه عون آنذاك بالاستابلشمنت establishment)، بدل المؤسسة العسكرية التي، رغم عقيدتها آنذاك، لم تكن لتطمئن البطريرك، وذلك أيضاً رغم شعبية عون في تلك الحقبة.
ثانياً، قانون الستين وبالشروط التي يفرضها على أرض المعركة يغلّب المنطق الطائفي على كل منطق. وهذا ما كان يعرفه الجميع. لكن لماذا اختير هذا القانون لا قانون لجنة فؤاد بطرس مثلاً؟ إن إقرار المعارضة بهذا القانون، ليس سوى إشارة إلى مراعاة غير بريئة، لأخصامها السياسيين ولمواقعهم. تضمن لأغلبهم (جنبلاط والحريري) مواقعهم النيابية «المضخمة»، إذا ما قيست بقانون نسبي. وبالتالي، تدل على تساهل المعارضة لو جاءت نتائج الانتخابات لمصلحتها. وللإقرار بقانون الستين مبرراتٌ أيدولوجية تؤكد تواضع طموح المعارضة. تقول هذه المبررات، بين ما تقول، بتمثيل آل الحريري لجميع مسجلي القيد السني، كما يعتقد «حزب الله» لنفسه بالنسبة لشيعة بطاقة الهوية وكما يريد العماد عون لنفسه. وبالتالي يجب المحافظة على «بيتهم السياسي». وليست صفقة تقاسم بيروت الثانية سوى برهان تأكيدي على فعالية المعتقدات وراء هذه المبررات. ولذلك تبعات مأسوية على مستوى الدولة، فهذا يعني أن المعارضة قررت على مستوى استراتيجي أن هيكلية الدولة ستتبع النسق نفسه من المحاصصة «الحزبية ــــ الطائفية» التي خربت الدولة في الأصل. وليس ترشيح بري عدداً من المرشحين يفوق عدد مرشحي حزب الله سوى إثبات لذلك، نظراً لدور بري المحوري في تطويع جهاز الدولة ضامناً لعدم المس بسلاح المقاومة.
ثالثاً، في موضوع هيكلية الترشيحات التي فرضها قانون الانتخاب على المعارضة «المنتصرة في ٧ أيار»، كان من البديهي لمن لم تبهره تقسيمات «القوي» المنطقية للمنطق وتحريضه الطائفي، أن حزب الله ليس بالحزب الثوري الذي يطمح له جمهوره ولا يعمل لهيمنة فعالة على جهاز الدولة وعبرها على «جمهورية السترينغ» (والتعبير ليس بالنكتة، فبالإمكان لمن يهمه الأمر أن يعود إلى النشرة البروباغندية التي وزعتها صحيفة «لوريان لو جور» غداة الانتخابات تحت عنوان «مقاومة ثقافية»، وبالتحديد إلى الصفحة ١٣٢ حيث يحتوي أحد العناوين على إشهار تفضيل «لجمهورية السترينغ» على «جمهورية الموز»!). فكيف كان لحزب الله أن يسيطر على البلاد ويقيم نظاماً خمينياً مع كتلة نيابية أغلب أعضائها من «النصارى» العونيين («الشيعة العونية» يسميهم بعض المهرجين)، يتبعهم، عدداً، أعضاء كتلة «أمل» الحبيبة على قلب جنبلاط؟
إن خضوع المعارضة لمنطق الطبقة المهيمنة هو ما يجعل التحريض الطائفي للأخيرة ينجح أو لنقل «يأخذ مداه». فكيف كان لجُملٍ صحافية من طراز تلك التي أتحفنا بها أيمن جزيني في ملحق «النهار» الثقافي (تاريخ ١٠/٠٥/٢٠٠٩) أن تمر مرور الكرام لولا تخلي المعارضة عن بعض الانتقاد «للقوي» الذي قد يهز مرتكزاته ويعيده إلى حجمه الرمزي؟ إذ يقول جزيني: «عون الذي زعم «الإصلاح والتغيير» مستنداً إلى حزب خميني، عمم في شطر كبير من الناس فساداً جماهيرياً واغتيالاً شعبياً لم يسبق إليهما حزب أو فريق من قبل». ترى ماذا يعني بسابقة «الاغتيال الشعبي»؟ صبرا وشاتيلا؟ حرب الجبل؟ النبعة؟ السبت الأسود؟ أم شعار «بيروت خط أحمر» الانتخابي؟ لولا أن المعارضة لم تتراجع عن تذكير الناس بمن قتل «على الهوية» بدل فتح طريق التوبة لوليد جنبلاط، أو بمن هو مسؤول عن هجرة الناس ومأساتهم الاقتصادية اليومية بدل الإقرار الطائفي بانتماء بيروت وصيدا لآل الحريري (لماذا مقعد بهية لا يناقش؟)، كيف كان لهذا الكلام أن «يصح» وأن يكتب بهذه السهولة؟
إن اقتباس مثل من عالم الصحافة قد يكون نموذجياً على افتراض أنه يتعلق بقوانين اجتماعية تفترض تأنياً وتفكراً في الممارسة قبل لحظة التصريح السياسي أو التحليلي. غير أنه يمكن أن يؤتى على ذكر مئات التصريحات العفوية من الطراز نفسه التي تعرض على التلفزيون، مثل التصريحات الببغائية لتلك المرشحة المفتخرة بجدّها عميل الصهاينة، ثم النظام السوري، ودائماً عميل رأس المال، والمشمئزة من وئام وهاب. وقد يكون ذلك جل خطابها الانتخابي. وهي ليست متميزة بتفضيل مجرمي الحرب على وئام وهاب. وئام وهاب الذي تقول سكارلت حداد إنه سحب ترشيحه لعدم إحراج المعارضة أمام توبة أمير الحرب المثقف: مثال من أصل ألف على سلوك قادة المعارضة وإعلامييها «المعتر» والراضخ لمنطق «القوي»، لمنطق الطبقة المهيمنة. وكأن الطبقة المهيمنة لم تثبت بالتجربة، وبالأشخاص أنفسهم على مدى التاريخ، استعدادها للتخلي أو حتى التآمر وقتل غيرها على الساحة السياسية، مثل الناس العزل والأبرياء.

رواية النتائج الانتخابيّة

والآن، بعد النتائج الانتخابية، تأتي الطبقة المهيمنة لتقول، إنها أصبحت «أغلبية»، وإنها نجحت في استفتاء دار نقاشه حول صورة لبنان وطبيعته (سيشهر هذا «الاستفتاء» في وجه «شرعية» المقاومة من الآن فصاعداً، وعند كل مفترق). والخطاب الطائفي في لبنان، معارضاً كان أو موالياً، يحب أن يضخم الأرقام والدلائل الاجتماعية التي تبرز مقام الحدث «الإعلامي» لمصلحة حامليه. بحيث يصبح أي تجلٍ شعبي، مهما كان حجمه، بمثابة رديف لمسيرة الجيش الأحمر أمام الكرملين غداة الهجمة المضادة على العدوان الألماني عام ١٩٤١ (ولا يخلو الخطاب الطائفي اللبناني من «الصور» العقلية الغبية، لكن هذا ليس موضوعنا الآن). إن أبرز ما تصرخ به منابر الطبقة المهيمنة الطائفية والمتحمسة لتضخيمه سلباً هو نتيجة التيار الوطني الحر الانتخابية، وإعلان انتهاء «حالة عون التمثيلية». وهذا ليس بالحدث الجديد، إذ إنه سبق لوليد جنبلاط أن تسرّع وأعلن ليلة فرز أصوات معركة الجبل عام ٢٠٠٥ انتهاء «حالة عون»، في حديث شهير أدلى به على التلفزيون مع مارسيل غانم. تتحمس أبواق الطبقة المهيمنة لإعلان انتهاء عون أكثر من تحمسها لانتهاء «حزب الله» الذي من المفترض أنه كان هو وسلاحه محور الانتخابات. لا بل يسهل عليهم الترحيب بخطاب حسن نصر الله في اليوم الذي تلا الانتخابات رغم شبه تشكيك السيد نصر الله بالأمر الواقع الذي فرضته الانتخابات وبلعبتها السياسية وحديثه عن «الأغلبية الشعبية»، في خطوة ربما أراد بها أن يذكر المنتصرين المنتشين بأن للعبة شروطاً ومرتكزات وضمانات... سبق أن اتفق عليها؟ في تلك العدائية ضد التيار الوطني الحر والعماد عون تفضح الطبقة المهيمنة شروط الكذبة التي ارتضت المضي بها، إذ إن تسابق أعضاء ١٤ آذار «المسيحيين» على الارتكاز النيابي لأجل تحصيل حصصهم السياسية بات الآن واضحاً، وحرب ١٤ آذار على «حزب الله» لم تكن سوى حيلة تحريضية ضد التيار الوطني الحر، لا تصبح جدية إلا عندما تصدر أوامر أميركية وسعودية بالتصعيد. كذبة ستنفضح بموقفهم من انتخاب بري رئيساً للبرلمان، بري الذي «كرهوه» عندما أغلق أبواب «الحياة البرلمانية»، مع الملاحظة أن صغارهم من الطائفيين المسيحيين قد لا ينتخبونه لأسباب مصيرية تتعلق بكيانية بشري والأشرفية وللمزايدة على عون. كما أن الطبقة المهيمنة تفضح علاقتها البنيوية المتناقضة بالتيار الوطني الحر، وكان لذلك التناقض إشارات كثيرة من قبل. هذا على الصعيد السياسي والطبقة السياسية.
أما على الصعيد الشعبي، فالنتائج أكثر جدية وتحمل معاني أكثر راديكالية. لقد حصل التيار الوطني الحر على ما يوازي الخمسين في المئة من الأصوات «المسيحية» فقط. للأسف هكذا يتاح لنا أن نرى بالأرقام الأرض الشعبية اللبنانية، بالمنظار الطائفي العائد المنفعة للطبقة المهيمنة. لكن نتائج التيار الوطني الحر تحمل قراءة أخرى، فالرقم خاسر، نعم، إذا قيس بنتائج ستالين الانتخابية التي فاقت المئة في المئة في بعض القرى على ما يروي خروتشوف في مذكراته. لكن الرقم هائل إذا قيس بالمعطيات الآتية: أن جمهور التيار الوطني الحر، كما الجمهور اللبناني عامةً، تعرض لأكبر كمية من التحريض اللبنانوي في تاريخه. تحريض الأيديولوجيا الأكثر تفشياً في المؤسسات العقائدية المحيطة بالمواطنين والتي أحاطت باللبنانيين لأطول وقت، ومن المفترض أن «آراء» اللبنانيين و«مشاعرهم» لا تسبح إلا في بحرها، حسب ما تذهب إليه شبه غالبية القراءات التحليلية للمجتمع اللبناني عند الإعلاميين، والسياسيين، وعلماء الاجتماع والمؤرخين، لبنانيين وأجانب. هذه الأيديولوجيا، بما تتضمنه من تحريض وعنصرية ضد الفقير، ضد «السوريين» و«الداخل العربي» (على ألا تؤخذ «عروبة» غبطة البطريرك المستجدة وكأنها عودة إلى تعاليم ميشال عفلق)، بما تحويه هذه الصورة من هواجس طائفية وعنصرية. هذه الأيديولوجيا، وما تتضمنه من عنصرية «تنظيرية» ضد «الشيعة»، وعلى مستويات لم تشهد لها البلاد مثيلاً. هذه الأيديولوجيا، حملها شبه أغلبية أعضاء الطبقة المهيمنة اللبنانية من كل الأزمنة التي مرت بها الجمهورية ووقفوا في وجه عون والتيار الوطني الحر، ليحرزوا رقماً انتخابياً يكاد يوازي رقم التيار. وأرقام الأخير الانتخابية يمكن قراءتها على اعتبار أنها شبه محصورة بالموقع الذي يمثله هو وحده، وهو موقع جديد العهد، على أنه موقع رفض فائق الجدية للأيديولوجيا اللبنانوية وللأمر الواقع اللبناني، لا يمكن أن يتكون إلا بفعل مقاومة اجتماعية هائلة على مستوى الأفراد ضد الأفكار المسبقة. وهو موقع لا ينقصه سوى فكر سياسي وحزبي مفصّل ليجعل هذه القاعدة الشعبية أكثر تماسكاً وأكثر توسعاً وأكثر ابتكاراً، في وجه المؤسسات العقائدية المهيمنة والفاعلة يومياً في المجتمع اللبناني.
* باحث لبناني