خلف الحبتورينظر البعض في المنطقة بعين الشك أو السخرية إلى الرسائل السلمية التي أطلقها الرئيس الأميركي باراك أوباما للمسلمين في العالم، وهذا الموقف يمكن تفهّمه إلى حد ما. أنا لست من أصحاب التفكير المتمني، كما أنني أيضاً لست ساذجاً، ولكن إذا أردنا أن نمضي قدماً إلى الأمام، فعلينا الاستعداد لذلك بقلوب وعقول مفتوحة، وأن نرفض غواية النظر للرئيس الأميركي الحالي من المنظور نفسه الذي رأينا فيه سلفه.
أوباما رجل يختلف كثيراً عن جورج بوش. هو يتحلّى بشخصية ذكية ومستوى معرفي يثير الإعجاب، كما أبدى قدرة على التعاطف مع الآخرين. ومن المؤكد أيضاً أنه لم يولد وفي فمه ملعقة من ذهب ليصل إلى ما وصل إليه. أضف إلى ذلك، فإن نسبه ونشأته الأولى في أندونيسيا وزملاءه المسلمين خلال الدراسة قد أغنوا فهمه للإسلام باعتباره ديناً يدعو للتسامح والسلام.
وقد كان الصحافي روبرت فيسك، مراسل الـ«إندبندنت» البريطانية في الشرق الأوسط، شديد الانتقاد لخطاب أوباما الذي ألقاه في جامعة القاهرة، حيث قال عنه: «حين نتكلم عن فضل الإسلام على الغرب كله، كالحضارة الأندلسية والإنجازات العلمية التي قدمها المسلمون مثل علم الجبر والبوصلة إضافة إلى التسامح الديني، فقد كان خطاب أوباما أشبه بمن يداعب قطته لتهدئتها استعداداً لزيارة الطبيب البيطري». قد يكون ذلك التشبيه ذكياً، ولكنه في الواقع يفتقر إلى أي أساس من الصحة. كل شيء قاله أوباما بخصوص الإسهام التاريخي للمسلمين كان صحيحاً، ولم يكن في كلامه أي إشارة تجعلنا نتوقع أنّ هناك آلاماً جديدة مقبلة على جدول أعماله. على العكس، كلمات أوباما كانت مشبعة بروح البدايات الجديدة. وحقيقة أنه سافر إلى مصر خصوصاً ليخاطب المسلمين منها بهذه الطريقة المحترمة وحرصه على صياغة خطابه بثلاث عشرة لغة يتحدثها المسلمون في أكثر من 200 دولة تثبت نيّاته الحميدة. كان خطاب أوباما إيجابياً في المجمل: أولاً، امتنع عن استخدام كلمات مشحونة مثل «إرهاب» أو «إرهابي»، بل فضّل استخدام كلمة «تطرّف»، كما اعترف بأن مواقف الحكومة الأميركية بعد 11 أيلول/ سبتمبر 2001 كانت «تتناقض مع تقاليدنا ومُثلنا».
ثانياً، أبدى رفضه للاستعمار ولأي محاولة لفرض الديموقراطية الأميركية على الدول الأخرى بالقوة. بل تحدث عن دور الولايات المتحدة في إطاحة رئيس وزراء إيراني منتخب ديموقراطياً، في إشارة إلى الانقلاب الذي دعمته الولايات المتحدة ضد حكومة محمد مصدّق عقوبة له على محاولته تأميم شركة النفط الأنجلو ـــــ أميركية.
ولا يمكن أحداً أن يجادل في دعوته لاحترام حقوق الإنسان والحريات الدينية وحقوق المرأة، التي تمثّل كلها قيماً كونية يجب على كل الأمم أن تطمح إلى إنجازها. كما يفترض أن يرحب الجميع بتأكيده نيّته إغلاق معتقل غوانتنامو نهائياً، ورفضه للتعذيب وسيلة لجمع المعلومات الاستخبارية، ووعده بأنه لن تكون هناك قواعد عسكرية أميركية في العراق بعد الانسحاب منه في نهاية 2011.
حتى إن أوباما أكد أن غزو العراق، خلافاً للحال في أفغانستان، كان حرباً اختارتها الولايات المتحدة من دون أن تكون مضطرة إليها، وأنها «تذكّر الأميركيين بالحاجة إلى اعتماد الدبلوماسية وبناء إجماع دولي لحل مشكلاتنا كلما كان ذلك ممكناً». كنا نحن، المنكوبين بمليون ضحية من رجال ونساء وأطفال سقطوا صرعى تلك الحرب، بحاجة إلى نسمع مثل هذا القول الفصل. إلى جانب الثناء على الإسلام والاعتذار تلميحاً، كانت واسطة عقد الخطاب تخص محنة الفلسطينيين وطموحهم إلى أن تكون لهم دولتهم الخاصة. كما أن جوانب عديدة من خطاب أوباما على هذا الصعيد مثّلت تطوراً نوعياً جديداً بخصوص الموضوع الذي يمس إلى حد بعيد كل إنسان عربي.
للمرة الأولى، يعبّر رئيس أميركي، خلال عهده الرئاسي، عن تعاطفه مع محنة الفلسطينيين بكلمات لا مواربة فيها. وفيما دعا أوباما الفلسطينيين لنبذ العنف في نضالهم الوطني والذي «أصاب بالضرر شرعيتهم الأخلاقية»، فإنه شبّه نضالهم بنضال السود في جنوب أفريقيا ضد نظام الفصل العنصري و«الشعب الأسود» في أميركا «الذين عانوا من السياط حين كانوا عبيداً، كما عانوا من الإهانات نتيجة التفرقة العنصرية».
ولم ينقص الوضوح حديث أوباما عن مسألة التوسع الاستيطاني الإسرائيلي. فقد قال إن «الولايات المتحدة ترفض شرعية مواصلة الاستيطان» الذي «ينتهك اتفاقات سابقة ويزعزع الجهود الرامية لتحقيق السلام». كما حثّ إسرائيل على القيام بخطوات ملموسة لتمكين الفلسطينيين من «العيش والعمل وتنمية مجتمعهم»، وأثار مسألة «الكارثة الإنسانية المتواصلة في غزة». ومن الإشارات المهمة في خطابه أيضاً وصفه لمدينة القدس التي تريدها إسرائيل عاصمة لها بأنها مكان لليهود والمسيحيين والمسلمين على السواء.
في أعقاب الخطاب، قال العديد من المعلقين إنّ ما قاله لم يكن سوى خطبة جوفاء تفتقر إلى أي مضمون عملي. غير أن أوباما أثبت خطأهم في الأيام التي تلت كلمته تلك، إذ عمل خلال زيارته أوروبا على إقناع الرئيس الفرنسي والمستشارة الألمانية للانضمام إليه في مطالبة إسرائيل علناً بوقف الاستيطان والعمل من أجل إنجاز حل الدولتين. كما ينظر الاتحاد الأوروبي الآن في مسألة تجميد ترقية وضع العلاقات الإسرائيلية مع الاتحاد، وهناك نقاشات تدور حول إمكان منع الواردات الزراعية التي ينتجها مستوطنون إسرائيليون من دخول دول الاتحاد.
كل هذه خطوات أولى مهمة، ولكنّ العملية السلمية، مثلما أوضح أوباما مراراً، يجب أن تكون طريقاً في اتجاهين. وقد أكد ذلك في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي حين قال إن «الدول العربية يجب أن تكون جزءاً من هذه العملية».
وأضاف: «ليس كافياً أن نشير فقط إلى المشكلة الفلسطينية ثم نقول إننا لن نشارك ولن نتحمل المسؤولية. عليهم أن يقوموا بخطوات من جانبهم أيضاً... وحين يساهمون في دفع العملية إلى الأمام فسنجدها تتقدم تقدّماً كبيراً».
لا أستطيع إلا أن أكون متفقاً مع الرئيس أوباما في ذلك. الوقت قد حان لتتقدم الدول العربية نحو المقدمة في العمل، نحو هذا الهدف على المستويين الدبلوماسي والمالي. هذه ليست مشكلة إسرائيلية ـــــ فلسطينية وحسب، بل هي مشكلة إقليمية. نعم، يحق لنا أن نطلب من الولايات المتحدة القيام بدور فاعل. ولكنّ قادتنا مطالبون بالقيام بهذا الدور أيضاً إن لم يكن أكثر من ذلك. يجب التوقف عن الاكتفاء بالتعبير عن مشاعر الإحباط. ويجب التوقف عن العيش في ظل تجارب الماضي المؤلمة. الماضي يبقى ماضياً وقد انتهى، ولا يمكن أحداً أن يغيّره. ولكننا بالعزيمة والنيّات الطيبة يمكن أن نجعل من المستقبل أفضل.